السيدة رقية (ع) .. طفولة أخلاق الإمامة
اكرم كامل الخفاجي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
اكرم كامل الخفاجي

الحمد لله رب العالمين .. اللهم صلِّ على محمد وآل محمد .
إن للإسم تأثيراً عميقاً على نفس الإنسان كما ثبت ذلك في علم النفس ، ولذا ورد عن الرسول الأعظم (ص) : (إن من حق الولد على والده ثلاثة : يحسن إسمه ، ويعلمه الكتاب ، ويزوجه إذا بلغ) .
وأما كلمة (رقية) - كما جاء في اللغة - فهي تصغير راقية بمعنى الارتفاع والسمو .. والتصغير هنا للتحبيب .
وهكذا جميع أسماء ربائب الوحي فهي جميلة ورزينة ترمز وتشير إلى معاني الرفعة والطهر والنقاء والخير والصلاح .. وأقل ما نقول للمستهزأ بها إنه لا يفقه العربية ، فهو خارجٌ عنها !.
حينما ينشأ الطفل في بيت تملأه العبادة والتهجد والصلاة ، تتجلى هذه الاهتمامات في شخصية الطفل فتكبر معه وتنعكس على أفعاله .. فكيف من كان يعيش مع سيد الشهداء (ع) ، في تلك الأجواء ؟.
فقد نقلت معظم المصادر ان السيدة رقية (ع) كانت كل يوم في أوقات الصلاة تفرش سجادة والدها الامام الحسين (ع) ليصلي عليها ، وفي يوم عاشوراء لما حان وقت الصلاة فرشت السجادة وجلست تنتظر والدها ليأتي ويصلي عليها وفيما هي تنتظر بلهفة كانت الاحداث الدامية خارج خيمتها قد مرّت بسرعة حتى نُحر جميع الاصحاب والخاتمة تكون عند الوالد الحبيب الامام الشهيد (ع) .
حتى حان وقت الهجوم على الخيام وإذا بشمر اللعين يدخل الخيمة مع غلام له فسألته عن والدها ببراءة الطفولة والوجه الملائكي الزاهر .. ولكن الشمر اللعين امر غلامه ان يضربها ! .. فامتنع الغلام خائفاً .. لكن اللعين نفذ ذلك بنفسه .. فيا لها من مصيبة هزت سكان اهل السماء قبل الارض في ذلك اليوم .
وعندما نذكر السبي أو نذكر رقية (ع) يأخذنا ذهننا إلى تلك الطفلة التي ضاعت أثناء السبي .. ولما كانت وقعة الطف إلهية المبنى والمبدأ ، وحسينية المعنى والمنتهى شاء الله سبحانه أن يُزيّن السبي بطفلة صغيرة أصبحت ملاذ العاشقين ، والتوابين ، وطالبي الحوائج .
وقد ورد في بعض الأخبار عندما سارت قافلة السبايا من الكوفة إلى الشام وبعد معاناة السبي الأليمة ومعاملة الأعداء القاسية للسبايا أخذت هذه الطفلة الصغيرة في تذكّر والدها الحسين (ع) وقلبه العطوف ويده الحانية .
فراحت تبكي وتئن بصوت عالٍ .. ولما سمع العدو بذلك أخذ أحد القساة يُسكت الطفلة ويتوعّدها بالضرب ، فلم تسكت بل اشتد بكاؤها فقال لها ذلك اللعين : اسكتي يا بنت الخارجي !
فتأذت الطفلة اليتيمة من هذا الكلام الجارح وأخذت تخاطب أباها : أبتاه قتلوك ظلماً وعدواناً وسموك بالخارجي .
فما كان منه إلا أن ألقاها من فوق ظهر الناقة إلى الأرض .. وكان الوقت ليلاً ، والظلام دامس ولم ينتبه لسقوطها أحد فقامت بأبي وأمي تعدو خلف القافلة لكنها لم تستطع اللحوق بالقافلة لصغر سنها ولشدة ما أصابها من التعب .. وفجأة توقف الرمح الذي كان عليه رأس الإمام الحسين (ع) واندسّ في التراب بحيث لم يستطع أحد أن يُحرّكه .. وحاولوا تحريكه فلم يستطيعوا لذلك سبيلاً .. فعلموا أن في الأمر إعجازاً ، وأنه تدخل من يد الغيب وقالوا لا يجيب على هذا إلا أهل البيت (ع) .. فجاء رئيس القافلة إلى الإمام السجاد (ع) وسأله عن سبب تلك الحادثة المحيّرة فأخبره الإمام (ع) إن إحدى الصغيرات فُقدت ولن يتحرك الرمح ما لم يتم العثور عليها .. وحين سمعت العقيلة زينب (ع) ذلك الكلام ألقت بنفسها من فوق ظهر الناقة على الأرض ورجعت إلى الوراء حتى تعثر على الطفلة .
وراحت تبحث عن الطفلة اليتيمة في كل جهة وناحية حتى وقع نظرها على شيء أسود فتقدمت حتى وصلت إليه وإذا بها ترى امرأة متلفعة بالسواد واضعة رأس الطفلة في حجرها فقالت لتلك المرأة : من أنتِ ؟ فقالت : أنا أمكِ الزهراء ! أظننتِ أني أغفل عن أيتام ولدي ؟ فأخذت العقيلة زينب (ع) رقية والتحقت بالقافلة .
إن موقف السيدة رقية (ع) نال خصوصية في الطرح ، وله تأثير على النفوس حيث يُجسد لنا موقفاً عظيماً أُنتهك به حق طفلة رقيقة وبريئة طالبت برؤية ابيها فقط .. وكعادة الاطفال البكاء حين فراق الاب او الام ، وهل تُعامل طفلة في عمر الاربع أو الخمس سنوات حيث تحمل من الرقة ما لا حدود له ، معاملة المذنبة التي يستوجب عقوبتها ؟
هذا ما اجرمته الدولة الاموية بقيادة يزيد بن معاوية (لعنهما الله) في حق السيدة رقية طفلة من اطفال الحسين (ع) .
الكلمات تعجز عن وصف مأساة الشهيدة السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليهما السلام) التي تحولت الى صوت آخر للحسين (ع) .. الى دم آخر للحسين (ع) وديمومته .. طفلة لأهل البيت كانت كالحسين (ع) في مظلوميتها .. بل هي الحسين (ع) في قالب طفلة .
بل حبها لأبيها الحسين (ع) وتعلّقها به يذكرنا بحب سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع) بنت محمد (ص) بأبيها .. فبكاؤها يذكرنا ببكاء الزهراء بعد وفاة أبيها ، مظلوميتها يذكرنا بمظلومية الزهراء ورحيلها الى الرفيق الأعلى فيذكرنا برحيل الزهراء .. وفي جملة واحدة كل شيء فيها يذكرنا بفلذة كبد الرسول الأكرم (ص) بالرغم من أن التاريخ لا يذكر لنا من أخبارها الكثير سوى القليل الذي يمكن منه إستشفاف عظمة تلك الطفلة رغم سنيها الخمس !
وقصة شهادة يتيمة الحسين (ع) رقية في الخربة بدمشق تؤلم كل ذي قلب حنون ، وكل من يحمل المعاني السامية الإنسانية ، ويستطيع الزائر لمقامها المبارك أن يشعر بمظلومية هذه اليتيمة وما جرى عليها وعلى أهل بيتها (عليهم السلام) بمجرّد أن يدخل مقامها الشريف خاشعاً متواضعاً ، فسرعان ما ينكسر قلبه ويجري دمعه على خدّيه ، إنها المظلومة التي تحرّك الضمائر الحية وتهزّ الوجدان من الأعماق وتجعل الإنسان ينحاز إليها ويلعن ظالميها وغاصبي حقوقها .
من أَصعب المشكلات التي تواجه علماء النفس هو كيفية إِيصال فكرة موت أَحد الوالدين للطفل خصوصاً للأَعمار دون السادسة .. وكان هناك طريق واحد لا غير وهو بإِخبار الطفل بأَن والدته أَو والده المتوفى قد سافر ريثما تنضج عقلية الطفل وتصبح كافية لإِدراك فكرة الموت وفقدان الأَب أَو الام بسبب ذلك .
أَما رقية بنت الإِمام الحسين (ع) الطفلة ذات الخمس أَعوام فقد تم التعامل معها بأَبشع طريقة يمكن أَن تخطر على بال أَحد على مر التأريخ .
فقد كانت رقية (ع) خلال ملحمة كربلاء تعالج المرضى دون علم بما جرى لأبيها الحسين (ع) .. وأثناء الأسر في الشام حين شفيت .. قامت بما هي معتادة عليه من إعداد السجادة لوالدها (ع) وقت الصلاة .. وانتظرته كثيراً دون جدوى .. فظلت تسأل عنه وهي تبكي .. ونساء أهل البيت في حيرة بما يخبرنها .. وحين سمع نداءها يزيد سأل : عما تطلبه ؟ فأجيب بأنها تطلب والدها الحسين (ع) .. وهنا أرسل لها الرأس على طبق وهو مغطى .. فجاؤوا بالرأس الشريف إليها مغطى بمنديل فوضع بين يديها وكُشف الغطاء عنه .
فقالت : ما هذا الرأس ؟
قالوا : إنه رأس أبيك .
فرفعته من الطّشت حاضنة له وهي تقول :
يا أبتاه من الذي خضّبك بدمائك ؟ يا أبتاه من الذي قطع وريدك ؟ يا أبتاه من الذي أيتمني على صغر سني ؟ يا أبتاه من بقي بعدك نرجوه ؟ يا أبتاه من لليتيمة حتى تكبر ؟
ثم إنها وضعت فمها على فمه الشريف وبكت بكاءً شديداً حتى غُشي عليها .. وهنا قال الإمام السجاد (ع) لعمته زينب : يا عمة ارفعي رقية عن رأس أبي فقد فارقت الحياة !.
ترفع الطفلة البريئة ذات الخمس سنوات رأس أَبيها بيديها لتصرخ وتشهق بعدها ملتحقة بأَبيها في أَبشع طريقة تعذيب وقتل للأَطفال عرفها التاريخ .
تخيل حجم وهول ومقدار الصدمة التي واجهتها هذه الطفلة البريئة وأَدت الى وفاتها فور رؤية رأس أَبيها !
فلما رأى أهل البيت (عليهم السلام) ما جرى عليها أعلوا بالبكاء واستجدّ العزاء وكل من حضر من أهل دمشق ، فلم يُرَ ذلك اليوم إلا باكٍ وباكيةٍ .
نتعلم من سيرة هذه السيدة الطاهرة ، أهمية الإيمان والتفاني في حب إمام زمانها ، والاستعداد للتضحية والتحمل من أجل الدفاع عن الحق وأهله .
وكذلك الصبر والثبات على العقيدة .. فمن الأمور التربوية التي يستلهمها جيلنا اليوم من رقية (ع) الصبر والثبات في وجه المحن والصعاب ، وعدم الانكسار والاستسلام للظلم والطغيان .
وأكرمها الباري سبحانه في موضعها بأن أصبحت باب الحوائج .. كما في القصة التالية :
كانت عائلة مسيحية تسكن الشام ، ولديها طفلة مصابة بالشلل ولا تستطيع المشي ، وقد عرضوها على أطباء في سوريا وخارجها فعجزوا عن مداواتها .
وفي أحد الأيام جاء والد الطفلة وأمها إلى مرقد السيدة رقية بنت الحسين (ع) ، فطلبت الأم السماح لها بالجلوس على عتبة باب السيدة رقية (ع) فسمحوا لها ، وبعد جلوسها على عتبة الباب أخذها النعاس وراحت في نوم عميق وفي منامها رأت : أن طفلة قد فتحت باب دارها وذهبت إلى غرفة ابنتها المريضة وأيقظتها من نومها وطلبت منها النهوض من مقعدها واللعب معها .
فقالت لها الطفلة : أنا مريضة ولا أستطيع القيام واللعب معك .
فقالت لها : أنا أتيت للعب معك فيجب عليك القيام فسحبتها من مكانها وقالت لها : تعالي نلعب .
فما كان من الطفلة إلا أن قامت وراحت تلعب معها وهي فرحة .
عندما استيقظت الأم من منامها وهي في دهشة واستغراب وطلبت من زوجها الذهاب فوراً إلى البيت لأنها رأت شيئاً عجيباً يكاد لا يصدق ، فذهبوا فوراً إلى البيت وعندما طرقوا باب البيت وإذا بابنتهم المريضة هي التي تفتح الباب وتستقبلهم حتى أنهم لم يصدقوا ما أمامهم وماذا حدث ، وابنتهم وسطهم فرحة فقالوا لها : ماذا حدث ؟
قالت : عند خروجكم من البيت وبعد ساعة وإذا بطفلة واقفة على رأسي وتقول لي : استيقظي وتعالي نلعب .
فقلت لها : أنا مريضة ولا أستطيع القيام فكيف ألعب معك .
فقالت : يجب عليكِ القيام ، فسحبتني نحوها وقمت ألعب معها وها أنا كما ترونني .
ودفنت الطفولة رقية (ع) في مكان وفاتها بالشام .. وقبرها معروف ومشهور ويقصده الآلاف .
وكُتب حول القبر قصيدة شعرية للمرحوم الدكتور السيد مصطفى جمال الدين :
في الشام في مثوى يزيد مرقـد يُنبيك كيـــف دم الشهادة يَخلد
رقدت به بنت الحسين فاصبحت حتـــى حجارة ركــــنـه تـتوقد
هيا استفيقي يا دمشق وايقظي وغداً على وضر القمامة يرقد
واريه كيف تربعت في عرشه تلك الدماء يضوع منها المشهد
سيظل ذكرك يا رقية عـِــــــبرة للـظالـمين مـدى الـزمان يـُـخلد
اللهم إجعلنا من شفعاء رقية (ع) وأرزقني زيارة الأربعين بحق أبيها الحسين (ع) .. وأنتَ على كل شيء قدير وبالإجابة جدير .. يا أرحم الراحمين .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat