صفحة الكاتب : د . عبد علي سفيح الطائي

تحولات اللغة وتعاقب الأديان
د . عبد علي سفيح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.



 جامعة بوردو-فرنسا
     إنَّ كل حضارة كبرى بدأت بلحظة تأويلية رمزية، كانت اللغة أداتها، فمن الأسطورة الى الشعر، ومن الخطاب الديني الى الفلسفة والعلم. وقد أشار الباحثون الى أن اللغة تعد من أعظم ابداعات الانسان،  ومن أهم الظواهر الاجتماعية التي أنتجها التطور البشري، وترتبط ارتباطا عضويا بجميع المعارف الانسانية.
وفي سياق الأديان أدت اللغة عملا محوريا في نقل الرسالات السماوية وتفسيرها. فاللغة العربية على سبيل المثال، كانت الوعاء الذي نقل فيه القرآن الكريم، مما منحها مكانة مقدسة بين المسلمين، وقد أسهمت هذه المكانة في انتشار اللغة العربية، وتوسيع رقعتها الجغرافية،حيث أصبحت لغة عالمية لا تحدها حدود.
     على الرغم مما شكّلت العلاقة بين اللغة والدين محورا من محاور الاهتمام الفلسفي والأنثروبولوجي؛ فإنَّ كثيرا من الدراسات تناولت اللغة بوصفها أداةً للتعبير عن العقيدة، من دون أن تدرك أنها في لحظة    معينة من تطورها، تصبح هي نفسها بيىئة تشكّل الدين، بل وربما تكون الفاعل الحقيقي في ظهور السبق الديني أو انحداره. ظهور الاسلام في شبه الجزيرة العربية، التي سبقتها مدة من النضج اللغوي تمثلت في ازدهار الشعر الجاهلي، وتراكم التجربة البلاغية للعرب(1).
في المقابل، حين تضعف اللغة، وتفقد قدرتها على خمول الرموز الكبرى، تبدأ النصوص الدينية القائمة بفقدان قدرتها على اقناع الجماعة، فيتراجع أثر الدين، ويتهيأ المجال لظهور خطاب ديني بديل، هذا ما حدث، على سبيل المثال في مصر القديمة، حيث أدى اندثار اللغة الهيروغليفية، وتحول المصريين إلى القبطية، ومن ثم؛ الى انقطاع معرفي بين المجتمع ونصوصه المقدسة، ممّا هيأ لتراجع المعتقد الديني التقليدي، وصعود المسيحية لاحقا(2).
ويبدو أنَّ الأديان لا تتعاقب فقط بوصفها استجاباتٍ روحيةً، بل نتيجة تحول عميق في البنية اللغوية الثقافية؛ إذ كلّ دين يحمل لغة جديدة سواء أكانت لغة منطوقة أم رمزية، تتفوق على السابقة في قدرتها على التعبير عن قلق الجماعة وتطلعاتها، وهكذا، فإنَّ نشوء أديان جديدة لا ينفصل عن ميلاد لغة جديدة قادرة على انتاج خطاب، يحقق التماسك الوجودي المعنوي للمجتمع(3).
1.الدين بوصفه تجليا لغويا:
كلُّ دين يبدأ بنصٍّ، والنصُّ في جوهره بنية لغوية. لذا؛ ظهور الدين مرتبط بقدرة اللغة على انشاء خطاب يشبع الحاجة الى التفسير والمعنى. في هذا السياق، يشير بول ريكور إلى أنَّ الرمز يعطي الفكر مجالا، مما يعني أنَّ النصوص الدينية، بما تحمله من رموز، لا تكتفي بالتعبير، بل تخلق واقعا داخليا جديدا(4). وهو ما يجعل اللغة ليست ناقلا للمقدس، بل هي خالقه.
إنَّ النظر في تاريخ الأديان الكبرى يكشف أنَّ كلَّ مرحلة دينية عظيمة تزامنت مع لحظة نهوض لغوي، مثال على ذلك: اللغة السنسكريتية ونصوص الفيدا، اللغة العبرية القديمة ونصوص التوراة، اللغة الآرامية ونصوص الانجيل، اللغة اليونانية واللاهوت المسيحي المبكر وولادة الكاثوليكية والبروتستانت، اللغة العربية والقرآن الكريم.في كلَّ هذه الحالات أدت اللغة عملا تأسيسيا لا يقل أهمية عن الحدث التاريخي والتجربة الروحية.
تمثل لحظة نزول أولى آيات القرآن الكريم نقطة انعطاف تأسيسية في التاريخ الديني والمعرفي الاسلامي. فقد ابتدأ الوحي بأمر لغوي مباشر (( اقرأ باسم ربك الذي خلق))( العلق:1)، وتبعته –حسب أغلب المرويات- آية أخرى تمجد الكتابة (( ن والقلم وما يسطرون ))( القلم: 1). لا يمكن النظر الى هذا الترتيب بوصفه محض  تسلسل عارض، بل انه يعكس منطلقا تاسيسيا يجعل من اللغة- قراءة وكتابة- ركنا بنيويا للوحي الاسلامي. وليس من العبث أن ينزل القرآن الكريم باللغة العربية، فاللغة العربية، بنيتها الجذرية والاشتقاقية، تتيح قدرة كبيرة على التوليد الرمزي والدلالي، فأصبحت لغة قابلة للقداسة لامتلاكها قدرة على احتواء المعاني العالية والرموز، وكفعل تأسيسي في بداية الوحي، لأن الفعل اقرأ الذي يفتتح
الخطاب القرآني هو فعل ذهني معرفي، يتطلب وجود نص أو معنى سابق، له علاقة تأويلية بالرمز. وبهذا، فان الأمر الالهي الأول لم يكن طقسا تعبديا أو خلقا كونيا، بل أمرا لسانيا معرفيا. اما النبوة، أصبحت لحظة تأسيسية تعيد تعريف اللغة بوصفها أداة مقدسة، تتجاوز الدلالات النفعية أو التداولية، لتصبح كاشفة للحقيقة، ومنتجة للمعنى الديني الأقصى.
2.انحدار اللغة وانهيار المقدس:
عندما تتدهور اللغة أو تنكمش بنيتها الرمزية، تفقد الجماعة قدرتها على إعادة انتاج النص الديني وتأويله. ومع الزمن، تبدأ النصوص المقدسة تفقد سلطتها الرمزية، ويتراجع أثرها في النفوس، ويظهر شعور جمعي بالحاجة إلى خطاب جديد، أكثر اتساقا مع التحولات الثقافية والمعرفية.
هذا ما حصل حين تراحعت اللغة الهيروغليفية في مصر القديمة، وحين أصبحت اللغة اللاتينية غير مفهومة لعامة الناس في أوربا في القرون الوسطى، ممّا مهد للاصلاح الديني وظهور نسخ محلية للكتاب المقدس بلغات الشعوب(5). كذلك نجد أن الديانة المانوية والمندائية، رغم تراثهما الرمزي والفلسفي، ظلتا حبيستين في الاطار الآرامي، وهي لغة كانت قد بدأت تفقد مركزيتها الثقافية لصالح الفارسية والعربية، ولم 
تستطع أي من هاتين الديانتين أن تخلق نسقا لغويا جديدا، أو تعيد انتاج نفسها داخل لغة حية، ما أدى الى تضائل تأثيرها وانكماشها عبر الزمن(6).
وبناء على ذلك، يمكن القول ان الدين الذي لا يولد داخل لغة نامية، أو لا يتمكن من توليد لغة جديدة، سرعان ما يتقهقر الى الهامش، ويخسر القدرة على التمدد والاستمرار. كي يحافظ الدين على فعاليته، يحتاج الى لغة حية قادرة على التجدد والتأويل، وغياب هذا العنصر اللغوي يؤدي بالضرورة الى تعاقب ديني يعيد تشكيل المعنى بلغة أخرى.
لمراجع
1.طه حسين، طه  ٌ في الشعر الجاهليٌ مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1926.
2. بوتيرو، جان ٌ انسان ذلك الزمان من ابتكار الكتابة الى ظهور التوحيد ٌ، ترجمة منذر عياشي، دار الحوار للنشر والتوزيع،سوريا، 2003.
3.سيرسيا، الياد، سيرسيا ٌ المقدس والمدنس ٌ، ترجمة نهاد خياطة، دار دمشق للطباعة والصحافة والنشر، 1996.
4.ريكور، بول ٌالرمز يعطي الفكر محالا ٌ، ترجمة سعيد بنكراد، المجلة العالمية للانسانية، دار توبقال، مراكش، المغرب، 2004.
5. ميرسيا، الياد ٌ تاريخ الأفكار والمعتقدات الدينية ٌ، ترجمة فريد الزاهي،دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، 2002. 
6.Pelikan,J (1971).The Christian Tradition, A History of the Development of Doctrine. University of Chicago Press.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبد علي سفيح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/07/28



كتابة تعليق لموضوع : تحولات اللغة وتعاقب الأديان
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net