صفحة الكاتب : د . علي المؤمن

في ذكرى مأساة ما بعد ثورة العشرين
د . علي المؤمن

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

    كانت ثورة العشرين، التي قادها شيعة العراق ضد الاحتلال البريطاني، حركة عظيمة ومهمة بحد ذاتها، ورد فعل تاريخياً طبيعياً، عبّر عن تمسّك الشيعة بالثوابت الدينية والوطنية، وعن التزامهم بقرارات مرجعيتهم الدينية. لكن المشكلة الكبرى تمثّلت في المآلات المأساوية للثورة، وذلك للأسباب التالية:
    1- لم يكن لدى الثوار، وعموم الشيعة، برنامج سياسي واضح لمقاومة الاحتلال، أو لاستثمار نتائج الثورة، ولا خطة استراتيجية لمرحلة ما بعدها.
    2- غياب التنسيق بين مكونات الطيف الشيعي؛ فلم يكن هناك توزيع واضح للأدوار بين من يعتمد المرونة، أو يلتزم بالثبات، أو ينتهج التشدد أو البراغماتية، أو بين من يقاتل ومن يفاوض.
    3- وقع الشيعة ضحية شعارات الوطنية والتضحية من أجل الوطن، فكانت مهمتهم تقتصر على إنقاذ العراق من الاحتلال، دون أن تكون السلطة موضع اهتمامهم.
    وترجع هذه السذاجة في التفكير والممارسة إلى ما يلي:
    1- ثقافة موروثة تقوم على ابتعاد الشيعة عن السلطة ومشكلاتها، وعدم تحمل مسؤوليتها وتبعات الصراع عليها.
    2- الافتقار إلى الخبرة السياسية، وإلى روح المبادرة، لا سيما فيما يتعلق بلعبة السلطة، والتنافس عليها، وسبل اقتناصها، كون شيعة العراق مواطنين عثمانيين من الدرجة الثالثة، لم يكن يُسمح لهم بممارسة العمل السياسي ضمن أجهزة الدولة العثمانية.
    3- شعور النخب الشيعية بانعدام الوزن السياسي، وضعف الثقة بالنفس، وقلة الحيلة، نتيجة ما تعرض له الشيعة من استلاب نفسي، وقمع، وتهميش، وعزل على يد الدولة العثمانية.
    4- عمق المخطط البريطاني، واستباقه للأحداث منذ العام 1916، حين اتفق البريطانيون مع الشريف حسين، حاكم الحجاز، على تسليم حكم سوريا والأردن والعراق لأبنائه علي وعبد الله وفيصل، مقابل تحالفه معهم وإعلانه الثورة على الدولة العثمانية.
    وبعد انتهاء ثورة العشرين، خدع البريطانيون النخب الشيعية مرة أخرى، من خلال سلسلة من المسرحيات السياسية، أوهموا عبرها تلك النخب بأنها شريكة في تقرير مستقبل العراق الجديد، وبأن بإمكانها اختيار شكل الحكم وتحديد هوية الحاكم. في وقت كان البريطانيون قد رتبوا كل شيء مسبقاً مع الشريف حسين منذ العام 1916، ثم فرضوا عميلهم فيصل، السني غير العراقي، حاكماً على العراق، رغماً عن إرادة شيعة العراق ونخبهم السياسية والدينية. 
    ومن المفارقات أن بعض الشيعة لا يزالون يعتقدون أن النخبة السياسية الشيعية، برئاسة الشيخ محمد رضا الشبيبي، هي من اختارت فيصل بن الحسين لحكم العراق. ما يعني أن آثار أكبر عملية استغفال للنخب الشيعية العراقية في التاريخ الحديث، لا تزال قائمة. 
    أما نخب السُّنة في العراق، من الضباط والسياسيين العثمانيين المتجذرين في الدولة العثمانية، فقد كانت تحركاتهم وخياراتهم على النقيض تماماً. ويمكن تلخيص سلوكهم السياسي بما يلي:
    1- عقدت النخب السنية تحالفاً مذلّاً وارتزاقياً مع البريطانيين، حوّل عناصرها من موظفين في أجهزة الدولة العثمانية إلى عملاء تنفيذيين بيد الاحتلال البريطاني.
    2- انقلبت النخب السنية على الدولة العثمانية، التي كانت وليّ نعمتها وسيدتها لأربعة قرون، بمجرد أن لاح لها ضعف العثمانيين واقتراب نهايتهم.
    3- حاربت النخب السنية ثورة العشرين بضراوة، من خلال الانخراط في الجهد العسكري أو الاستخباري البريطاني، وبثّ الإشاعات والدعايات، وإثارة الانقسامات بين الشيعة والثوار، واستصدار فتاوى من بعض مشايخ السنة ضد الثورة.
    4- تحركت النخب السنية في سبيل الاستحواذ على السلطة ببراغماتية مطلقة، دون اعتبار للثوابت الدينية أو الوطنية. وظلت تمارس لعبة السلطة بإتقان، مستثمرة الدعم البريطاني الحصري المباشر لها، وتمتعها بالخبرة السياسية المتراكمة، نتيجة خدمتها الطويلة في مؤسسات الدولة العثمانية، وتربيتها في أحضانها.
    لذلك؛ كان )الوطن) بالنسبة للنخبة السنية يعني (السلطة) فقط؛ فهي لا تؤمن بوطن لا تحكمه، وشعارها: «لا وطن بلا سلطة»، أو باللهجة العراقية: «ماكو سلطة.. ماكو وطن». فإذا لم تكن ممسكة بزمام السلطة، فلا يعنيها إن احترق الوطن. أما شعارات الوطن والوطنية، فلم تكن سوى سردية دعائية تلقِّنها للشيعة لاستدراجهم إلى التضحية، وتوظيفهم خدماً في وطن تحكمه، وحطباً لحروبها ضد أبناء الوطن أو جيرانه، تحت لافتة (الوطنية).
    ولا شك في أن بريطانيا، لو كانت قد سلّمت السلطة في العراق إلى الشيعة آنذاك، لعادت معظم النخب السنية إلى مواقعها في تركيا، وظلت على تبعيتها للعثمانيين، بل لحاربت العراق بضراوة.
    ولم يكن من الممكن أن تفكر النخب الشيعية بأسلوب تفكير النخب السنية، ولا أن تمارس سلوكياتها، ليس بسبب ضعف خبرتها السياسية أو عدم اهتمامها بموضوع السلطة؛ وإنما لأن ثوابتها الدينية والوطنية كانت تمنعها من ذلك. كما أن بوصلتها غالباً ما كانت تتجه نحو المرجعية الدينية، التي تمثل ضمانة التزام الشيعة بتلك الثوابت.
    لكن، في المقابل، كان يمكن للنخب الشيعية أن تعتمد التفكير الاستراتيجي والتكتيك المرحلي، وأن تخطط لما بعد كل معركة، بدل أن تخوضها بلا رؤية واضحة لما بعدها. لقد كان عليها أن تستثمر الثغرات والفرص، وأن تضع عينها على السلطة في كل خطوة، بدل أن تظل أسيرة أوهام (الوطن)، وهي محرومة من أبسط الصلاحيات أو الأدوار، وتحت وطأة التهميش والقمع. ولذلك، لم يكن مستغرباً أن تفوز النخب السنية بكل شيء، وأن يخسر الشيعة كل شيء.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . علي المؤمن
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/07/01


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • نتائج الحرب الإسرائيلية – الأمريكية على إيران في موازين النصر والهزيمة  (المقالات)

    • حول كتاب «المنظومة الطائفية: من الآيدلوجيات التأسيسية للمسلمين وحتى الغزو الطائفي المعاصر»   (المقالات)

    • خطورة خطاب الازدراء والتحريض الطائفي المتصاعد ضد شيعة العراق  (المقالات)

    • الوضع في الحديث وتحريف التاريخ: متلازمتا الانقسامات الطائفية في الواقع الإسلامي  (المقالات)

    • المذاهب الإسلامية بين العرب والفرس  (المقالات)



كتابة تعليق لموضوع : في ذكرى مأساة ما بعد ثورة العشرين
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net