صفحة الكاتب : د . اكرم جلال

القيادة والتخطيط في المنهج والسّلوك الحُسيني
د . اكرم جلال

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 إنّ المُتتبّع لتأريخ وحضارة الأمم النّاهضة يَجد أنّ عنصري القيادة والتخطيط لهما الدّور الحاسم في تخطّي جميع المنعطفات المهمة التي تلازم مسيرتهم، وأنّ العَبَثيّة والارتجالية وسوء التخطيط هي أدوات ليس لها دور في سباق البناء والتقدم، فالقيادة الرشيدة حينما تتسلّح بالفكر الاستراتيجي والتخطيط الواعي سيكون لها بذلك امتداداً وعبوراً لمحدوديّة الزمان والمكان لتتجاوز جميع العقبات لتصل بَرَّ الأمان، والنهضة الحسينيّة هي أعظم الشواهد، حيث اجتمَعَت فيها القيادة الربانيّة والتخطيط الحكيم والتسديد الإلهي، فالمهارات القيادية هي حالة تكامليّة لمجموعة من المَلَكات التي تعكس حَجم الخارطة الذهنيّة والمراتب الفكريّة والسلوكيّات الإنسانية لتصل بالقائد إلى حالة من البصيرة والمعرفة والشجاعة في اتخاذ القرارت، فلا بُدَّ للقائد من التحلّي بالصبر والثبات والعزيمة في إدارة الذات أولاً وامتلاك الرؤية الواضحة للمستقبل ومن ثم الشجاعة وعدم التردد في اتخاذ القرارات التي من شأنها حماية الأمة. والإمام الحسين (عليه السلام) وهو الإمام المُسدَّد، قرأ مُستقبل الأمة وما سَيَؤول إليه حال الإسلام فنهض بمشروع انتهج فيه أسلوباً فريداً مميزاً بكل أبعاده، في التخطيط والإعداد والتهيئة والتنفيذ.

كان القائد في كربلاء يحمل ثقل الخلافة الإلهية وهو الإنسان الكامل الذي يحمل همّ حفظ الدين وتسيير المشيئة الإلهيّة على الوجود الدنيويّ، بل وعلى جميع والعوالم الوجوديّة.

الإمام سلام الله عليه عايش جميع المراحل والأزمات والفتن والحروب التي تتالت على الأمة الاسلامية منذ استشهاد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان مُشخّصاً لحالة التردّي والإرتدادات التي أصابت المسلمين، وما تَبِعَها من تغيّرات في الوعي الثقافي والإنحلال القيمي الروحيّ والإجتماعيّ الذي أصاب الفرد المسلم، مما أدى إلى بروز طبقة كان همّها السلطة، أنشأت نظاماً سياسياً مبنيّ على مبدأ التوريث، متجاهلين ومتغافلين ما وصّى به نبي الرحمة صلّى الله عليه وآله وسلّم.

كانت الرؤية لدى الإمام متكاملة تعكس العبقريّة القياديّة التي يتميّز بها، أدرك وهو صاحب الخلافة الإلهية أنّ المُشكلة في كلّ عصر وزمان تكمن في حُكم الطواغيت الذين اتّخذوا من الدّين وسيلة للوصول إلى مكاسب دنيويّة ونيل حطام زائل، مستخدمين الفساد والإفساد، والظلم والاضطهاد؛ فأراد الإمام أن يؤسّس لمشروع نهضويّ دائم لا يتوقف؛ مسيرة دائمة باقية ما بقي الليل والنهار، فكان بذلك هو القائد والشهيد، والعبقريّ في التخطيط، والسماوي في التسديد.

لقد أدرك الإمام سلام الله عليه أنّ المسيرة التكامليّة للإنسان ستتوقف حينما يتحكّم بمصائر الناس الطواغيت، وسيتهدّم معها الدين الذي جاء لبناء الإنسان، وأن الشرائع السماويّة إنّما أُنزلَت من أجل حثّه على السير نحو التكامل. فوجود طواغيت، كيزيد ابن معاوية، وأمثاله على مرّ العصور، يعني انهدام المشروع الإلهيّ لبناء الإنسان وانتهاء جميع الرسالات السماويّة.

ولأنّه خليفة الله في زمانه وثقله على الأرض فقد حَمَلَ على عاتقه أعباء هذه الأمانة، فكان همّه حفظ الدّين وإبقاء مسلك التكامل الإنساني متاحاً لكل الطالبين، في كلّ زمان ومكان، لذلك فالإمام لم يكن ثائراً وهو جليس الدار، ولم يتّكل على الخُطَب والأشعار، بل كان بين الناس، يتقدّم صفوفهم، يستنهض فيهم العزائم والهمم، وهو القائل: (أيها النّاس، إني سمعت رسول الله يقول: "مَن رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيّر عليه بقول ولا فعل، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحَقّ من غيّر 1).

إنّ القيادة الاستراتيجيّة والتخطيط المُتقن هيَ مِن أهمّ المعايير الواجب توفّرها من أجل بلوغ الأهداف والغايات، وهنا قد يبرز سؤال عند مَن لَم يَطّلع بعمق وَلَم يَقرأ بتدبّر منهج الإمام الحسين (عليه السلام) ومشروعه الكوني، ليسأل: كيف يمكن لنا أن نعتبر أنّ استراتيجية الإمام كانت ناجحة وهو الذي استشهد مع أصحابه في كربلاء وسبيت حريمه؟

وللجواب على هذا التساؤل لا بُدَّ لنا أولاً أن نتوقّف عند حقيقة مهمة وهي أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد خَطَّط وَتَهيّء لنهضته المُباركة منذ فترة ولم تكن استجابتة الفورية نابعة عن ردّة فعل أو إنعكاساً لكُتبِ أهلِ الكوفة، وإنّما كانت سببًا لذلك.

كان الإمام يسير بمنهج وتخطيط استراتيجي ذو مراحل، بدأت أولى خطواته العملية عندما أعلن رفضه البيعة وقال قولته الشهيرة: (ومِثْلي لا يُبايع مِثْله)، وكانت خطواته مدروسة بدقة ومشروعه واضح لم يتغيّر رغم جميع الحواجز والمعوّقات التي واكبته، فلقد كان سلام الله عليه يحمل رؤية كونيّة وأمانة رساليّة جعلته يتحرّك بتخطيط عبقري مدروس ورؤية ثاقبة وإعداد مسبق، يتنقّل فيه من مرحلة إلى أخرى، من أجل غاية وهدف مرسوم منذ أن رفض البيعة وخرج من المدينة إلى مكة، ومنها إلى الكوفة، فالرسالة التي كَتَبَها سلام الله عليه إلى بَني هاشم تعكس حَجْمَ وعِظَمَ المشروع الذي أرسى قواعده، بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم، مِنَ الحُسين بن علي إلى بني هاشم، أمّا بَعد، فإنّه مَنْ لَحِقَ بي مِنكم استُشهِد, وَمَن تَخَلّفَ عَنّي لَمْ يَبلغ الفَتْح، والسّلام 2)؛ رسالة تكشف بُعد الرؤية وَعُمق التّخطيط وَعَظَمَة التّنفيذ، والذي من خلاله استطاع سلام الله عليه أن يستنهض النّفوس ويبعث فيهم الحياة الحرّة الكريمة، فالفَتْح الذي عَناهُ الإمام سلام الله عليه كان يحمل مفهوم الجمع بين النصر العسكري (الميداني) وبين الشهادة التي أراد من خلالها ومن خلال الدماء التي سالت أن تكون عابرة لحدود الزمان والمكان ليلتحق بهذا الرّكب من الأحرار ولينالوا مرتبة الفَتْح، فتحٌ أراد به الإمام سلام الله عليه الجمع بين الحُسنَيين.

إنّها دعوة القائد ذو البصيرة الثاقبة لمن أراد اللّحاق به في أن يكون ضمن مشروع السماء، مشروع إعادة الرّوح لرسالة الإسلام المحمديّ العلويّ، والذي خَطّطَ لتمزيقه شياطين الإنس أمثال أبناء آكلة الأكباد وسليلهم الخمار ومن اتّبَعَهم وَسَارَ على نَهجِهِم إلى يومِ الدين.

الإمام الحسين (عليه السلام) كان قائداً عسكريّاً وميدانياً من الطراز الأول، فقد خبر فنون الحرب وخاض حمامها وشهد العديد من المعارك في زمان أبيه وأخيه، حتى اجتمعت فيه جميع مهارات القائد العسكري وبمهارة فائقة، وكذلك أفشل بحكمته العديد من المُخططات التي كانت ترمي لاغتياله، خصوصاً في مكة، فقرر الخروج لكي لا يراق دمه في مكة. كان سلام الله عليه بارعاً في استقصاء الأخبار وجمع المعلومات وتلك من الفنون التي لا يتّصف بها إلّا من خَبَرَ المهارات العسكريّة بعمق.

أمّا في الميدان، فقد قال ابن شهرآشوب في مناقبه: (أمَرَ بإطناب البيوت، فقرّبت حتى دخل بعضها في بعض، وجعلوها وراء ظهورهم لتكون الحرب من وجه واحد، وأمر بحطب وقصب كانوا جمعوه وراء البيوت، فطرح ذلك في خندق جعلوه والقوا فيه النار وقال: لا نؤتى من ورائنا 3)، ثمّ أنّه غربَلَ أصحابه واختبرهم لكي يُخرج من صفوفه كلّ مَن تَبِعَه على طَمَع وَمَن في قلبه خوف وتردد، ولكي لا يبقي معه إلّا الصّفوة الخيرة من أهل الانضباط والطاعة.

وفي ليلة العاشر من محرم جمع الإمام (عليه السلام) أصحابه وأهل بيته قائلاً بعد أن أذِنَ لهم بالانفصال عنه والتفرّق في البلدان لكي ينجوا من القتل: (ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم جميعاً، فانطلقوا في حِلٍّ ليس عليكم منّي حرج ولا ذمام، وهذا الليل قد غَشيكم فاتّخذوهُ جَمَلاً، ثمّ ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذَروني وهؤلاء القوم؛ فإنّهم لا يريدون غيري، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري»، فرفضوا ولم يتفرّقوا وآثروا البقاء معه إلى النهاية، واستشهدوا جميعاً. وكان في مقدمة الرافضين العباس بن علي (عليه السلام) وإخوته وبقية شباب بني هاشم 4).

وفي صبيحة العاشر من محرم قام بتنظيم جيشه وتوزيع مواقعهم فجعل زهير بن القين قائداً على ميمنة الجيش، وحبيب بن مظاهر على الميسرة، ودفع اللواء إلى أخيه أبي الفضل العباس.

إنتَهَج الإمام سلام الله عليه أسلوباً فريداً في القتال استطاع من خلاله أن يُؤخّر جيش ابن زياد من الانقضاض على معسكر الإمام مستغلّين الفارق الكبير في العدّة والعدد، فكان يأمر أصحابه ويجيزهم بالخروج للقتال فرادى، والذي وفّر للإمام الوقت الكافي لتوضيح وكشف الحقائق وإلقاء الحجّة، ولتكون بِحَق معركة كاشفة عن الحقيقة، ورسالة عظيمة بعث بها الإمام إلى الأزمنة القادمة، ملحمة جسّدت انتصار الحقّ أمام الباطل.

لقد بَلَغَ الإمامُ منزلة عظيمة بعد أن تربّع كقائدٍ في قلوب احبّائه وأنصاره وبعد ما جسّد القيادة فكراً ومنهجاً وسلوكاً من خلال تعامله برحمة ولين حتى مع أعداءه الذين بكى عليهم لما سينالوه من الخسران في الدنيا والآخرة. ذلك القائد الذي رفض شرب الماء قبل أن يشرب حصانه، وهو القائد الذي يحتضن أسلم التركي، ذلك الغلام التركي وهو في أنفاسه الأخيرة بعد أن قاتل أعداء الله قتال الأبطال، فجاءه الإمام ووضع خده على خده، ففتح الغلام عينيه ورأى الإمام فتبسّم وقال من مثلي وابن رسول ألله واضع خده على خدي ثم فاضت نفسه رضوان ألله عليه.

لقد كان سليل الدّوحة الهاشمية مثالاً للرجولة والفروسية والشجاعة، لم ينثن ولم يتزعزع؛ كان جلّ همّه أن يكتمل المشروع ويعبر مع أصحابه القنطرة نحو الخُلد والخلود، فكان يُطمئن أصحابه وهم في تلك الشدّة، فعن أحمد بن الحسن الحسيني، عن الحسن بن علي الناصري، عن أبيه، عن أبي جعفر الثاني، عن آبائه: قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام)، لما اشتد الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم، لأنّهم كلما اشتد الأمر تغيّرت ألوانهم، وإرتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم، وكان الحسين (عليه السلام) وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم وتهدئ جوارحهم، وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا لا يبالي بالموت، فقال لهم الحسين (عليه السلام): صبرا بني الكرام فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟، وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إن أبي حدثني، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبت ولا كذبت 5).

المراجع
1.          تاريخ الطبري، الطبري - ج4، ص 304.

2.         بحار الأنوار- العلامة المجلسي - ج 44، ص330. وكامل الزيارات - ابن قولويه - ص75، بـاب 24، حـديث 15. واللهوف في قتلى الطفوف - السيد ابن طاووس - الصفحة 25. ومثير الأحزان - ابن نما الحلي - ص27.

3.         مناقب ابن شهراشوب ج4، ص99. والكامل - ابن الأثير- ج2، ص560.

4.         أنساب الأشراف - البَلَاذُري - ج3، ص378-379. وتاريخ الطبري - الطبري - ج5، ص369.

5.         معانى الأخبار - الشيخ الصدوق - ص 288 باب معنى الموت.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . اكرم جلال
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/06/29



كتابة تعليق لموضوع : القيادة والتخطيط في المنهج والسّلوك الحُسيني
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net