زيارةُ العارفين: معراجُ الأرواح ومقام اليقين
د . اكرم جلال
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . اكرم جلال

إنَّ شدَّ الرّحال نحو مراقد آل بيت العصمة (عليهم السلام) وبلوغ أعتاب أضرحتهم المقدَّسة هو في الشَّكل نِعمةٌ ربّانيّة قد شَمَلَ اللهُ تعالى بها القلوب التي امتلأت حُبًا وشوقًا، إلا أنَّها في المضمون تمثّل الترقّي في عالم التكامل، وسيرٌ نحو القُرب الإلهي، شريطة أن لا يكون هذا الوقوف أشبه بلقاء قد كبّلته القيود الماديّة، وأخرسته الأطماع والنوازع الدنيوية، وإنّما تحليق للأرواح في فضاء النور، ورفع للحُجب وتحطيم للقيود المادية لتكون الأنفس حُرّة في البحث عن جوهر الحقيقة ومستعدّة لاستقبال سرّ المعنى ومُتهيئة لاستنشاق هواء الدلالة والمغزى.
والتمسّك بشبابيك الأضرحة المُطهرة وإن كان لمسة حنين وهمسة مشتاق يصبو إلى عالم الأنوار الربانيّة، ولهفة حيران وقف على أعتاب مشعل الولاية يطلب فيوضات الرحمة والهداية، إلا أنَّ الإمسك بدفّتي القرآن ليس كتصفح آياته والتّدبر في معانيه وأسراره.
على الزائر أنْ لا يتوقف عند المَظهر، مع ما له من عظمة، ويغفل عن السرّ والجوهر، بل طرق الباب من أجل الولوج إلى الحقيقة النورانية التي من أجلها خلق الله الأكوان، وكما ورد عنِ الإمام الهادي (عليه السلام) في الزيارة الجامعة قوله: "خَلَقَكُمُ اللهُ أَنْوَارًا، فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ، حَتَّى مَنَّ عَلَيْنَا بِكُمْ، فَجَعَلَكُمْ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ".
إنَّ توفيق الوقوف عند أعتاب أهل بيت النبيّ (عليهم السلام) لا يجب أن يكون تكرارًا لشعيرة عظيمة في العَلَن، هزيلة وخاوية في السّر، بل فرصة للسير إلى الله، ونافذة زمنية يَلِجُ مِن خِلالها المؤمن لكي يرتقي علمًا ومعرفة وسلوكًا من خلال استحضار المقامات الحقيقية التي اختصّ الله تعالى بها الأئمة (عليهم السلام) دون سائر الخلق، وهو السرّ الذي أفصح عنه الإمام الهادي بقوله: " فَبَلَغَ اللَّهُ بِكُمْ أَشْرَفَ مَحَلِّ الْمُكَرَّمِينَ وَأَعْلَى مَنَازِلِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَرْفَعَ دَرَجَاتِ الْمُرْسَلِينَ حَيْثُ لَا يَلْحَقُهُ لَاحِقٌ وَلَا يَفُوقُهُ فَائِقٌ وَلَا يَسْبِقُهُ سَابِقٌ وَلَا يَطْمَعُ فِي إِدْرَاكِهِ طَامِعٌ ..".
أيها الزائر، وأنت تنوي السفر إلى "البقعة المباركة" عليك أولًا أن تَخْلَعَ نعليك؛ إخْلَع عَنك الذنوب والمعاصي، وانزَع عنك قيود مظالم العباد، إبْكِ ذَنبك، وطهّر قلبك، واستغفر ربّك، استغفار صادق مريد لا استغفار عادة وترديد؛ وبعدها سِرْ نحو نور الإمام (عليه السلام) لكي تكون مؤهلًا للوقوف بين يديه، ولعلّك تلج باب الله لِتُحلّق من عنده على صراطه المستقيم، فَتَطوي المقامات وتبلغ بعضًا من مراتب اليقين.
حينما تزور الإمام (عليه السلام) فَزُرهُ وأنت تبصر بنور قلبك حقيقة الإمامة لتخترق ظلمات الغفلة فَتَصِلَ إلى أنوار اليقين ومعدن التوحيد، وفي ذلك يقول الإمام: " السَّلَامُ عَلَى مَحَالِّ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَسَاكِنِ بَرَكَةِ اللَّهِ وَمَعَادِنِ حِكْمَةِ اللَّهِ وَحَفَظَةِ سِرِّ اللَّهِ وَحَمَلَةِ كِتَابِ اللَّهِ ..."؛ والإمام المعصوم هو وجه الله الذي منه يؤتى، وبابه الأعظم، وسفينة النجاة، والصراط الأقوم؛ هو الحُجَّة الكبرى على الخلائق أجمعين؛ وبالإمامة تكتمل الرسالة، قال الله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا )، وقال كذلك: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا )، فهو بذلك الطريق الأقوم نحو مراتب أصل النبوّة.
زُرِ الإمامَ (عليه السلام) وأنتَ عارفًا بمقامِهِ الذي اختصَّه الله به؛ زُره وأنت موقن أنَّه مَظْهَرٌ لأسماءِ اللهِ تعالى وحقيقة نورانية لا تتجزّء عن الأنوار المحمدية، حينها فقط ستقف عند قول النبيّ الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: " مَنْ مَاتَ لاَ يَعْرِفُ إِمَامَهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، قَالَ نَعَمْ، قُلْتُ جَاهِلِيَّةً جَهْلاَءَ أَوْ جَاهِلِيَّةً لاَ يَعْرِفُ إِمَامَهُ قَالَ جَاهِلِيَّةَ كُفْرٍ وَ نِفَاقٍ وَ ضَلاَلٍ ."
طوبى للزّائر الذي أدْرَكَ وأبْصَر مقام الإمام وَقبَّلَ أعتابه ووقف بين يديه وقْفَةَ العالم العارف، والحَسْرَة على كاتِبِ هذِهِ السطور الذي زارَ وَلَم يَعرِفْ، وَطافَ وهو غافل جاهل بحقيقة مقام المُزار.
طوبى لمن لا ينظر إليهم على أنَّهم شخصيات تاريخية فحسب، بل أنوار قدسية، ونِعَمٌ إلهيّة، وَمَصابيح ربانيّة، يهدي اللهُ بهم من يريد؛ يقول الإمام في الزيارة الجامعة:" بِأَبِي أَنْتُمْ وَأُمِّي وَنَفْسِي وَأَهْلِي وَمَالِي مَنْ أَرَادَ اللَّهَ بَدَأَ بِكُمْ وَمَنْ وَحَّدَهُ قَبِلَ عَنْكُمْ وَمَنْ قَصَدَهُ تَوَجَّهَ بِكُمْ ...". فَمَنْ يُدرك تلك الحقائق وهو بين يدي الإمام فإنَّه بذلك يكون قد أناخَ برحله في أقدس البُقع، بين يَدَي أَبْوَابَ الْإِيمَانِ وَأُمَنَاءَ الرَّحْمَنِ.
أيَّها الزائر، حينما تبصر ضريح أمير المؤمنين (عليه السلام) فتأكّد أنّك قد بَلَغت الشرف كلّ الشرف؛ إخلع عنك ثياب الترف، وغادِرِ الدُنيا، فَما عَليّ والدنيا؛ جَدّد وضوء العشق، لعلّك تبلغ معرفة معنى من لديه علم الكتاب، وبحر التنزيل والتأويل. أنت بين يدي سيد الأوصياء، قُطب رحى الوجود بعد النبيّ الأكرم. أن نقف بين يدَي أمير المؤمنين يعني أن ندرك ما قاله فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " يَا عَلِيُّ أَنْتَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ إِمَامُ اَلْمُتَّقِينَ يَا عَلِيُّ أَنْتَ سَيِّدُ اَلْوَصِيِّينَ وَ وَارِثُ عِلْمِ اَلنَّبِيِّينَ وَ خَيْرُ اَلصِّدِّيقِينَ وَ أَفْضَلُ اَلسَّابِقِينَ .." . هذا عليٌّ أيّها الزّائر الكريم؛ هذا عليّ فاترك حطام الدنيا وطلّقها ثلاثًا قبل أن تضع قدميك على بساط نور الولاية؛ هذا وجه الله، ومرآت اسمه الأعظم، هذا نفسُ رسول الله وأخوه ووصيه وزوج ابنته.
وأما إذا ساقك الحنينُ نحو الحسين وأصحاب الحسين، فأنت قد حللت بأرضٍ قد وقف فيها حجَّة الله على الخلائق أجمعين وحيدًا فريدًا ينادي: " أما من مجير يجيرنا؟ أما من طالب حق ينصرنا، أما من خائف من النار فيذب عنا؟ "
أنت تقف أمام مظهر لأسم الله الأعظم؛ تقف أمام القرآن الناطق، وخير من وَحّد الله بعد جده وأبيه. أيها الزائر، لا تنشغل بشيء سوى كربلاء، حيث العبودية المطلقة، والتسليم التام، ومقام حق اليقين.
حينما تضع قدميك على أعتاب أنوارهم القدسية حلّق لتبلغ الأسرار، ولا تقف منشغلًا بالظواهر والآثار، تسابق وأنت تتسلق سلّم معرفة مراتب الإمامة، فقد تكون قد أدركت بذلك زيارة العارفين لا المتزاحمين أو المنشغلين؛ زيارة من مدّ كفيه ليرتوي من عذب مائهم لكي لا يضمأ بعد ذلك أبدًا.
طوبى لِمَن جاءَهم عارِفًا، وذاب فيهم حبًا، وأبصر أنوارهم، فَبَلَغَ بِهُم النّعيم، وذلك هو الفوز العظيم.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat