العراق أولاً: الوطنية كميزان للعلاقات الخارجية والانتماء الحقيقي
رياض سعد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رياض سعد

مقدمة:
تتشابك خيوط الولاء في حياة الإنسان بين الروابط العائلية، والاجتماعية، والدينية، والقومية، والوطنية... ؛ إلا أن ثمة حقيقة بديهية تفرض نفسها على العقل والمنطق والتجربة التاريخية الطويلة: وجوب تقديم حماية الوطن والمصلحة الوطنية العليا على أي اعتبار خارجي، مهما بلغت قوة الروابط مع الدول الأخرى، سواء أكانت أخوةً دينية، أو تضامنًا قوميًا، أو تاريخًا مشتركًا. كما يجب أن تأتي مصلحة المواطن في مقدمة الأولويات، قبل مصلحة الشقيق أو الغريب أو الأجنبي... ؛ هذه ليست دعوة للانعزال أو العداء، بل هي قاعدة عقلانية وسياسية واجتماعية راسخة، تؤكدها سيرة المجتمعات الناجحة عبر العصور.
ففي ضمير الأمم الحية، يشكل الوطن الركن الأساس لهوية الإنسان ومصدر فخره وكرامته ... ؛ والوطن، ليس مجرد حدود ترسمها الخرائط، بل هو كيان حي ينبض في وجدان الفرد، وهو البيت الكبير الذي يحتضن أبناءه ويضمن لهم الأمن والمعيشة والكرامة... ؛ ومن هنا، فإن حماية الوطن وتقديم مصلحته العليا مقدّمة على كل الروابط الدينية والقومية والإنسانية، مهما بلغت تلك الروابط من قدسية أو عمق تاريخي.
# أولوية الوطن: بديهية تاريخية وسياسية:
يُعدُّ مبدأ الولاء الأول للوطن حجر الزاوية في بناء الدولة القومية الحديثة منذ صلح وستفاليا (1648)، الذي أسس لفكرة السيادة الوطنية... ؛ و التاريخ مليء بالشواهد على أن الأمم التي حافظت على هذه الأولوية ازدهرت، بينما تلك التي ضيعتها في متاهات الولاءات العابرة للحدود تعرضت للتآكل والضعف... ؛ فالاتحاد السوفيتي، على سبيل المثال، حاول تجاوز الروح الوطنية لصالح أيديولوجية أممية، لكن انهياره كشف عن قوة الروابط الوطنية الكامنة تحت السطح على المستوى الوطني، فإن دستور أي دولة – بما فيها الدستور العراقي – يؤكد سيادة الدولة واستقلالها وحماية مصالح شعبها كأسمى غاية... ؛ و أي خرق لهذه البديهية، تحت أي ذريعة، هو خرق للعقد الاجتماعي الذي يقوم عليه كيان الدولة واستقرارها.
فمما لا شك فيه أن حماية الوطن مقدّمة على حماية البلدان الأخرى، حتى لو جمعتنا بها أواصر الأخوة والتضامن، أو وحدة الدين والقومية والمذهب وغيرها ... , كما اسلفنا انفا ؛ فالمواطَنة هي العلاقة الواقعية والمباشرة التي تفرض على الإنسان واجبات محددة تجاه الأرض التي ينتمي إليها، بينما تبقى العلاقات الأخرى في مرتبة تالية من حيث الأولوية والواجب.
# الجذور الثقافية والنفسية لأولوية القريب والوطن:
يؤكد التراث الثقافي الإنساني والفطرة النفسية على هذه الأولوية... ؛ فالقاعدة الأخلاقية "خير الناس من نفع الناس أو الاقربون أولى بالمعروف " تبدأ عمليًا من دائرة الأقرب فالأقرب... ؛ وقد عبرت الثقافة الشعبية والحكمة الاجتماعية عن هذه المعاني السامية والمضامين العقلانية والقيم الواقعية والوجدانية بدقة عالية ؛ اذ جاء في الامثال الشعبية : :"الشجرة ال ما تفيي على أهلها لا خير فيها"و"كلمن يجر النار إلى قرصه"و"أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"... الخ .
كل هذه الأمثال الشعبية واشباهها تعكس فهماً عميقاً لظاهرة الأولويات وتراتبية الحقوق والواجبات... ؛ فالإنسان مسؤول أولاً عن أهله وبلده وجيرانه، قبل أن يتحدث عن نصرة الآخرين... ؛ وهذا لا يلغي التعاطف مع قضايا الأمة، لكنه يجعل التعاطف عقلانياً لا عاطفياً، واقعياً لا خيالياً، وطنياً لا شعاراتياً... ؛ اذ تضع معيارا عمليا لقيمة الفرد – المواطن – فضلا عن المؤسسة السياسية والدينية وغيرهما – الساسة ورجال الدين وغيرهما – الا وهو القدرة على حماية من يقع تحت مسؤوليته وتحقيق مصلحة من هو تحت رعايته , فضلا عن تقديم المنافع للمجتمع وودفع الشرور والمفاسد عنه ... ؛ وهذه الثقافة لا تعني الأنانية الضيقة، بل تعكس تراتبية طبيعية وعقلانية في الولاءات، حيث يكون "شرف الانسان" مرتبطًا بغيرته على أرضه وحبه لأبناء وطنه ودفاعه عنهم، وتفضيلهم عند التعارض في المصالح... ؛ وهذا ما جسده المثل الشعبي القديم بوضوح لا لبس فيه: "أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب". إنه اعتراف صريح بوجود دوائر متحدة المركز للولاء والمسؤولية، حيث تحتل الأسرة والوطن الدائرة الأقرب إلى القلب والمصلحة.
وقد جاء في التراث السياسي والاجتماعي ما يؤكد هذه الحقيقة، فعندما كانت الدولة العباسية في أوجها، لم يتردد القادة في تغليب مصلحة بغداد والخلافة على مناطق الأطراف، لأنهم اعتبروا أن سقوط المركز يعني انهيار البنية الكاملة... ؛ وكذلك في العصر الحديث، نجد أن الدول المتقدمة لا تساوم على أمنها القومي، حتى لو تعلق الأمر بحلفاء أو دول صديقة اخرى .
# تناقض الدعاة وازدواجية المعايير:
العجيب في الأمر، بل والمثير للاستنكار، هو تناقض بعض التيارات الفكرية والدعاة "الهلاميين" و"المنكوسين" الذين يرفعون شعارات التضحية بالوطن والمواطن على مذبح "الأمة" أو "القومية" أو "العقيدة" في المجال السياسي والثقافي... ؛ لكننا لو سلطنا الضوء على سلوكهم الاجتماعي اليومي، لوجدناهم – كأي إنسان عاقل – يطبقون مبدأ الأولويات بشكلٍ عملي صارخ... ؛ فهم يقدمون مصلحة أنفسهم وأولادهم على مصلحة إخوتهم وأهلهم، فضلا عن تقديمها على أصدقائهم وجيرانهم، مستندين إلى منطق "الأولويات" أو كما يصدق عليهم المثل الشعبي الدقيق: "كُلّمن يْجَرّ النار لِقِرْصُه" (أي: كلٌ يجذب النار لخبزه). فلماذا ينقلب الميزان تمامًا عندما يتعلق الأمر بالوطن؟ لماذا يتحول الولاء المفترض للعراق والعراقيين إلى تضحية بهم وبمصالحهم لصالح أوطان أخرى أو شعوب أخرى، تحت رايات الشعارات الدينية أو القومية أو السياسية ؛ الا يعد هذا المنطق المنكوس والذي "ما أنزل الله بها من سلطان" تنافضا فاضحا بين السلوك اليومي والخطاب السياسي والثقافي والديني ؟! هذه الازدواجية تكشف عن خلل عميق في المنطق ومخالفة صريحة للفطرة الإنسانية السليمة والوعي السياسي والانتماء الوطني ... ؛ ففي الوقت الذي يطالبوننا بالتضحية بالوطن والمواطن من أجل قضايا قومية أو دينية عابرة، نجد ان حياتهم الشخصية تمضي بعكس ما يروجون له... ؛ فهم في علاقاتهم الاجتماعية والمالية يُقدّمون أبناءهم وأقرباءهم على سواهم، ولا يسمحون بتجاوز مصالحهم الشخصية، ولكنهم – عند القضايا الوطنية – ينادون بتقديم الغريب على القريب , والاجنبي على المواطن , والدخيل على الاصيل ، ويفرضون على المواطن العراقي أن يكون كبش فداء لغيره تحت شعارات جوفاء وذرائع واهية بل هي أوهى من بيت العنكبوت .
وهنا تظهر الازدواجية الفاضحة التي تُفقد الخطاب مصداقيته، وتفتح الباب أمام مشاريع خارجية هدفها مص دماء الشعوب ونهب ثرواتها، عبر وكلاء محليين يلبسون لبوس الدين أو القومية أو حقوق الإنسان أو السياسة ، بينما هم في الحقيقة أدوات للهيمنة والاستغلال.
# العراق ليس قرباناً لأحد
ليس من المعقول ولا المقبول أن نضحي بالعراق من أجل تركيا، أو نقدّم العراقي كقربان في معارك العرب أو الفرس أو غيرهم... ؛ وليس من الحكمة أن يُضحى بالشيعي العراقي من أجل شيعة باكستان، أو بالسني العراقي من أجل سنة الخليج... ؛ فلكل بلد خصوصيته، ولكل شعب أولوياته، ولا بد أن يكون العراق والعراقيون في طليعة حساباتنا الوطنية والسياسية.
إن التضامن مع الأشقاء – عرباً كانوا أم مسلمين أم أكراداً أم غيرهم – يجب أن يكون تضامناً قائماً على التوازن والمنفعة المتبادلة، لا على الاستغلال والتبعية... ؛ فالاتفاقيات والمعاهدات التي تضر بالعراق، حتى لو أفادت الشقيق أو الصديق، هي اتفاقيات مرفوضة وطنياً وأخلاقياً.
# الوطنية البراغماتية: التضامن لا يعني التضحية:
من هنا نكرر ما قلناه انفا : يجب التمييز بوضوح حاسم بين مفهومي "التضامن" و"التضحية"... ؛ فالتضامن مع الأشقاء العرب، أو ابناء الأمة الإسلامية، أو الأكراد، أو الأتراك أو الايرانيين ... الخ ، هو قيمة إنسانية وسياسية إيجابية... ؛ لكنه لا يعني، ولن يعني أبدًا، التضحية بالعراق أو بالعراقي كـ "قربان معارك" أو "كبش فداء" لأي مشروع خارجي، سواء أكان تحت عنوان "الأمة العربية" أو "شيعة العالم " أو أي شعار آخر... ؛ و ليس من المعقول، ولا المقبول عقلاً ومنطقًا ووطنيةً، أن يُضحى بالعراق من أجل تركيا، أو أن يُقدم العراقي فداءً لقضايا الآخرين. المصلحة الوطنية العليا هي المعيار الحاكم. فالتضامن الحقيقي يقتضي العمل على تعزيز الأواصر بما يعود بالنفع المتبادل، مع الحفاظ الدقيق على مصلحة الوطن والمواطن كخط أحمر لا يجوز تجاوزه... ؛ وعليه لا خير في اتفاقية دولية أو معاهدة خارجية، مهما كانت المبررات، إذا كانت تثري الآخرين على حساب خيرات العراق وتلحق الضرر باقتصاده ومستقبل أبنائه.
# تربية الأجيال على حب العراق والمصلحة الوطنية والبراغماتية الواقعية :
لذلك، يتحتم علينا أن ننشئ الأجيال العراقية، منذ نعومة أظفارهم، على حس وطني راسخ قائم على البراغماتية الواعية , وان نربي أبناءنا على حب العراق والانتماء له ... ؛ اذ يجب أن يتشربوا عشق العراق والعراقيين، ووعيًا رصينًا بعدم التفريط بثروات البلاد وخيراتها الوطنية (النفط، المياه، الأراضي، الثروة البشرية)... و تعزيز هذه "الثقافة الوطنية الإيجابية والواقعية" بين أوساط جميع مكونات الامة العراقية، هو الدرع الواقي في مواجهة تلك "الدعوات المنكوسة والمشبوهة" التي تهدف إلى استنزاف موارد العراق، واستغلال طاقاته البشرية، وإلحاق الضرر بأبنائه، والإثراء على حساب معاناتهم ومستقبلهم... ؛ فلابد لنا من التصدي للثقافات الدخيلة التي تسوّق للانهزام والتضحية بالمواطنين من أجل أوهام وحدوية وغيرها لم تجلب للعراق إلا الحروب والدمار... ؛ لقد آن الأوان لأن يسود منطق "العراق أولاً" لا كأيديولوجيا إقصائية، بل كضرورة إنسانية لحماية الوجود، وصيانة الكرامة، وتكريس الاستقلال.
# المصلحة الوطنية كمقياسٍ أعلى:
ومن هذا المنطلق العقلاني والوطني الراسخ، يجب أن يُصار إلى تقييم كل حدث سياسي، وكل دعوة دينية أو اجتماعية أو ثقافية أو إعلامية، وكل اتفاقية خارجية، وكل معاهدة دولية، وكل صراع إقليمي، وكل حرب عالمية، من خلال معيار واحد حاسم ونهائي: ما هي المصلحة والفائدة التي تعود على العراق، وأغلبيته الشعبية، ومستقبل أبنائه؟ وما هو مدى قدرة هذا الأمر على دفع الشر والضرر عن أرضه وشعبه؟
إن كانت الإجابة بنعم، فهو مقبول...؛ وإن كان فيه ضرر أو استغلال، فلا شرعية له، مهما كانت الذرائع والحجج .
هذه هي الوطنية العقلانية، وهذا هو الطريق الوحيد لبناء عراق قوي، مستقر، ومزدهر، يحفظ حقوق أبنائه ويصون كرامتهم ومستقبلهم في عالم لا يرحم إلا الأقوياء الواعين لمصالحهم. الوطنية ليست شعارًا أجوف، بل هي التزام عملي بحماية البيت المشترك ورفاه من يسكنونه، وفقًا لمنطق الأولويات الذي أقرته الفطرة وأكدته تجارب الأمم.
# الخلاصة
إن العقلانية الوطنية لا تتناقض مع الأخوة الدينية أو القومية أو غيرهما ، لكنها تنظمها وتضبطها وتحميها من التلاعب والاستغلال... ؛ فالوطن هو الحصن الأخير، وحب العراق والدفاع عن أبنائه ليس خيانة للأمة، بل هو الأساس الذي تنبني عليه أي وحدة أو تضامن حقيقي.
فلنقلها بوضوح:
العراق ليس ميداناً لتصفية حسابات الآخرين، ولا جسراً لمشاريع الغير، ولا خزاناً بشرياً لخدمة أجندات خارجية. العراق للعراقيين، وأولويتنا العراق.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat