الجهاد في القرآن الكريم (ح 15) (ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه)
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف

هناك نوعان من الجهاد: الأكبر وهو مجاهدة النفس، والأصغر وهو القتال في سبيل الله. ورد الجهاد ومشتقاته في آيات عديدة منها "وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده"، "وجاهدهم به جهادا كبيرا"، "جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"، "ثم جاهدوا وصبروا"، "أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم"، "ومن جاهد فإنما يجاهد عن نفسه"، "الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله"، "جاهد الكفار والمنافقين"، "وجاهدوا مع رسوله"، "وان جاهداك لتشرك بي"، "وأقسموا بالله جهد أيمانهم"، "لا يجدون إلا جهدهم". كل مجموعة من حلقات هذه السلسلة تنشر في أحد المواقع.
عن تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله سبحانه "وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" ﴿العنكبوت 6﴾ ولما رغب سبحانه في تحقيق الرجاء والخوف بفعل الطاعة عقبه بالترغيب في المجاهدة فقال "ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه" أي ومن جاهد الشيطان بدفع وسوسته وإغوائه وجاهد أعداء الدين لإحيائه وجاهد نفسه التي هي أعدى أعدائه فإنما يجاهد لنفسه لأن ثواب ذلك عائد عليه وواصل إليه دون الله تعالى "إن الله لغني عن العالمين" غير محتاج إلى طاعتهم فلا يأمرهم ولا ينهاهم لمنفعة ترجع إليه بل لمنفعتهم.
وعن تفسير الميسر: قوله سبحانه "وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" ﴿العنكبوت 6﴾ جاهد فعل، يجاهد فعل، ومن جاهد في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وجاهد نفسه بحملها على الطاعة، فإنما يجاهد لنفسه، لأنه يفعل ذلك ابتغاء الثواب على جهاده. إن الله لغني عن أعمال جميع خلقه، له الملك والخلق والأمر.
وعن تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله سبحانه "وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" ﴿العنكبوت 6﴾ المجاهدة والجهاد مبالغة من الجهد بمعنى بذل الطاقة، وفيه تنبيه لهم أن مجاهدتهم في الله بلزوم الإيمان والصبر على المكاره دونه ليست مما يعود نفعه إلى الله سبحانه حتى لا يهمهم ويلغو بالنسبة إليهم أنفسهم بل إنما يعود نفعه إليهم أنفسهم لغناه تعالى عن العالمين فعليهم أن يلزموا الإيمان ويصبروا على المكاره دونه. فقوله: "ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه" تأكيد لحجة الآية السابقة، وقوله: "إن الله لغني عن العالمين" تعليل لما قبله. والالتفات من سياق التكلم بالغير إلى اسم الجلالة في الآيتين نظير ما مر من الالتفات في قوله: "فليعلمن الله الذين صدقوا" الآية. وجاء في التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله سبحانه "وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" ﴿العنكبوت 6﴾ "ومَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ" وتفسيره: "فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها" (الأنعام 104) ج 3 ص 238. "إِنَّ اللَّهً لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ" لا تنفعه طاعة من أطاع، ولا تضره معصية من عصى.
ورد أن أعدى عدو هونفسك بين جنبيك. جاء في ميزان الحكمة للشيخ محمد الريشهري: المجاهد يجاهد لنفسه الكتاب "ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين" (العنكبوت 6). "ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه" (فاطر 18). "من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها" (فصلت 46) (الجاثية 15). (انظر) الإحسان: باب 870. الشكر: باب 2062
عن العتبة الحسينية المقدسة الجهاد في نهج البلاغة: يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام في (نهج البلاغة): (أمَّا بَعْدُ، فَإنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللهِ الْحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، أَلبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ الْبَلاَءُ، وَدُيِّثَ بِالصِّغَارِ وَالْقَمَائَةِ ـ أي ذُلِّل بالصّغار والإهانة، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالإِسْهَابِ ـ الثّرثرة، وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْييعِ الْجِهَادِ، وَسِيمَ الْخَسْفَ ـ أي كلف المشقّة ـ وَمُنِعَ النَّصَفَ). أهمية الجهاد: إنَّ من يطّلع على مصادر التشريع الإسلامي من الـكتاب والسّنة يجد فيهما تركيزاً كبيراً واهتماماً ضخماً بموضوع الجهاد. ففي القرآن الـكـريم ما يُقارب (40 آية) تتحدّث عن الجهاد بلفظ الجهاد ومشتقاته، كقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبيُ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمنَافِقِينَ وَاغلُظْ عَلَيهِم" (التوبة 73). "إنْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبيلِ الله" (التوبة 41). "فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً" (النساء 95). وهناك أكثر من (100 آية) تتحدّث عن الجهاد بلفظ القتال ومشتقّاته كقوله عزّ وجلّ: "فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ إِيمانَ لَهُم" (التوبة 12). "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتنةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله" (الأنفال 39). "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (آل عمران 169). بالإضافة إلى مجموعة من الآيات تتحدّث عن الجهاد بلفظ الغزو والحرب والشّهادة ومشتقّاتها. بينما لا نجد في القرآن الحكيم عن الحجّ إلاّ (8 آيات) فقط، وعن الخُمس آية واحدة لا غير، وعن الصّوم (10 آيات) تقريباً. وحينما نرجع إلى السّنة المطهّرة نجد مئات الأحاديث والنُّصوص تركّز على موضوع الجهاد وتقرّر بصراحة: أنّ الجهاد أهمّ وأفضل من جميع الأعمال والعبادات الأخرى. فعن الرّسول الأعظم صلى الله عليه وآله: (فَوقَ كُلِّ ذِي بِرٍ برْ حَتَّى يُقْتَل فِي سَبيلِ اللهِ فَإذَا قُتِلَ فِي سَبيلِ اللهِ فَلَيْسَ فَوْقَه بر). ويقول الإمام محمد الباقر عليه السّلام: ( الْجِهَادُ الَّذِي فَضَّلَهُ الله عَزَّ وَجَلّ عَلَى الأَعْمَالِ وَفَضَّل عَامِلَه عَلَى العُمّالِ تَفْضِيلاً فِي الدَّرَجَاتِ وَالْمَغْفِرَة). وفي مصدر واحد فقط من مصادر الحديث هو كتاب (وسائل الشِّيعة إلى تحصيل مسائل الشَّريعة) نجد (1223حديثاً) عن الجهاد وفضله وأحكامه وما يتعلَّق به. وإذا ما قُمنا بجولة عابرة في ربوع(نهج البلاغة)، فسنرى أنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، يعطي للجهاد مكانة خاصّة، ويرفعه إلى أعلى مستوى من الأهمية والتّقدير، ويمنحه أعظم الصّفات، حيث يقول عليه السّلام: (الْجِهَادُ عِزُّ الإسْلام). (الله. الله، فِي الْجِهَادِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُم وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ الله). ( َجَاهِدْ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَلاَ تَأْخُذَكَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ). (إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإِيمَانَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، فَإنَّهُ ذُرْوَةُ الإِسْلامِ). وكان المسلمون الأوائل والجهاد يشكّل جزءاً لا ينفصل من حياتهم العملية. فكانوا يرون فيه طريقاً سريعاً ومختصراً إلى الجنّة فينتظر كلّ واحد منهم فرصته الغالية في الجهاد فـي سبيل الله ويتاسبقون إليه ويستبشرون به. فهذا حنظلة بن أبي عامر، وقد أنفق شبابه في العمل والكدح، حتى جمع له مبلغاً من المال ليتزوّج به، وفي أوّل ليلة من زواجه، وقد بدأ يقطف ثمرة أتعابه، ويعيش في ربيع أحلامه وأمانيه، سمع منادي الجهاد عند الفجر وأطلّ من نافذة داره، فرأى المسلمين يحثّون السّير، ويركضون ملبّين داعي الجهاد، فما كان منه إلاّ أن أسرع للخروج قبل أن يغتسل غُسل الجنابة، وحاولت زوجته مقاومته ومنعه واستثارة عواطفه، ودغدغة مشاعره، ولكنّه رفض البقاء، وأصرّ على الخروج، فاستشهد في صبيحة يوم عرسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ( إِنَّ صَاحِبَكُم -يعني حنظلة- لَتَغْسِلُهُ الْمَلائِكَة ). فسألوا أهله: ما شأنه؟ فسئلت صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جنب سمع الهاتفة). وهذا عمرو بن الجموح، وقد قطعت السّنين شوطاً كبيراً من عُمره وأصيب في إحدى الغزوات في رجله فصار أعرجاً، ولكنّه رغم ذلك حينما سمع منادي الجهاد، ورأى أولاده الأربعة يتجهّزون للخروج لم تسمح له نفسه بالتخلُّف رغم معارضة أولاده وزوجته، فخرج مهرولاً يقول: أريد أن أطأ بعرجتي الجنّة. فأراد أهله وبنوه حبسه، وقالوا له: إنّ الله عزّ وجلّ قد عذرك. ولم يقتنع بمقالتهم، وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: إنّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فوالله إنّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة. فقال صلى الله عليه وآله: أمّا أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك. ثمّ قال لبنيه وقومه: لا عليكم أن لا تمنعوه لعلّ الله يرزقه الشّهادة. فخلّوا عنه، وخرج وهو يقول: اللهمّ أرزقني الشّهادة ولا تردّني إلى أهلي. وقد كان موقف هذا المجاهد الأعرج من مشاهد معركة (أحد) العظيمة ومن قصصها الرائعة، فقد كان يحمل على الأعداء وهو يقول: أنــا والله مُشتاق إلى الجنّة. وابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعاً. والقاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ولم يَكُ عمره يتجاوز الرّابعة عشرة يتقدّم إلى عمّه الحسين ليلة عاشوراء، وبعد أن أخبر الإمام أصحابه بالمصير الّذي ينتظرهم صباح عاشوراء، وهو الشّهادة في سبيل الله حيث قال لهم: يا قوم إنّي غداً أُقتل وتقتلون كلّكم معي ولا يبقى منكم واحد. فقالوا: الحمد لله الّذي أكرمنا بنصرك وشرَّفنا بالقتل معك. وهنا تقدّم القاسم لعمّه الحسينعليه السلام قائلاً: وأنا فيمن يُقتل؟ وقبل أن يجيبه الإمام سأله: يا بني كيف الموت عندك؟ فأجاب القاسم فوراً: يا عمّ أحلى من العسل).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat