الحريات المنفلتة والتدخلات الخارجية : تحديات المرحلة الانتقالية في العراق بعد 2003
رياض سعد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رياض سعد

بعد التحوُّل الجذري الذي شهده العراق عام 2003، مع سقوط النظام الديكتاتوري وانزياح فلوله الاجرامية واختفاء اجهزته القمعية ، وانفتاح الباب على مصراعيه أمام رياح التغيير السياسي والاجتماعي واعاصير الحريات الخاصة والعامة ... ؛ صدم المجتمع العراقي بواقعٍ مُعقَّدٍ لم يُحسِنْ الكثيرون استيعابه... ؛ فبعد عُقود من القمع والظلام والعوز والبؤس والانغلاق والحصار والعُزلة الدولية ... ، والتي خلَّفت وراءها إرثًا من العُزلة الاقتصادية والفقر المدقع والتخلف الرهيب ... ؛ انطلقت شرارةُ الحرية المفاجئة لتُحدث صدمةً مجتمعيةً عميقة... ؛ فمن عُتمة الحصار والكبت إلى فضاءاتٍ واسعةٍ من الحريات المُطلَقة... ؛ واجه العراقيُّ تناقضاتٍ حادَّةً بين ميراث الماضي المغلق ورهانات المستقبل المفتوح ، ما ولَّدَ ارتباكًا سلوكيًّا وفكريًّا لدى شرائحَ واسعةٍ، تباينت ردود أفعالها بين الانجرار إلى مظاهرَ استهلاكيةٍ وفردانيةٍ مُفرَطةٍ وسلوكيات هابطة تحت شعار الحرية الشخصية والحريات العامة ، وبين الانخراط في تحالفاتٍ مشبوهةٍ مع قوى خارجيةٍ واعلان الولاء للقوى الاجنبية والغريبة تحت ذريعة الديمقراطية وحرية الرأي ...!!
لم يقف الأمر عند حدود الاضطرابات الفردية، بل امتدَّ ليشمل مؤسسات الدولة نفسها، حيث لجأ بعضُ المسؤولين في المحافظات وإقليم كردستان إلى عقد اتفاقاتٍ سريةٍ مع دولٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، مُتجاوزين السلطةَ المركزيةَ، ومُهدِّدين بذلك سيادة العراق ووحدته... ؛ وقد اتخذت هذه الممارساتُ أشكالًا مُختلفةً، بدءًا من منح امتيازاتٍ اقتصاديةٍ لدولٍ معاديةٍ تحت غطاء الاستثمار، مما أفضى إلى سيطرة خارجيةٍ على مقدرات المحافظات، ووصولًا إلى التدخل السافر في الشؤون الداخلية عبر نشر أفكارٍ طائفيةٍ ودعواتٍ مذهبيةٍ هدَّامةٍ والتبشير بمشاريع سياسية منكوسة ، بهدف تفكيك النسيج الاجتماعي وإضعاف الهوية الوطنية والحاق افدح الاضرار بالعراق والاغلبية والامة العراقية ومصالحها الحيوية .
ولم تكتفِ هذه القوى الخارجية باختراق النخب السياسية، بل امتدَّت أياديها إلى شرائحَ أوسعَ، عبر رشاوى ماليةٍ تُقدَّم لشيوخ العشائر ورجال الدين والإعلاميين، بل وحتى لبعض المسؤولين الأمنيين الذين تُغريهم المصلحةُ الشخصيةُ على حساب المصلحة العامة... ؛ وتُعدُّ هذه الأموالُ المشبوهةُ – التي تُدارُ بعيدًا عن الرقابة – وقودًا لتغذية الفساد وخلق شبكاتٍ عميلةٍ تعمل على تعطيل المشاريع التنموية، وتعزيز المظاهر السلبية، بل وتمرير قراراتٍ تخدم أجنداتٍ خارجيةً على حساب مصالح العراق العليا.
في مواجهة هذا التحدي المصيري، يتحتَّم على القوى الوطنية الحية، من أحزابٍ ونخبٍ ثقافيةٍ وإعلاميةٍ ومؤسساتٍ مجتمعيةٍ، أن تتصدَّى لهذه المخططات بخطابٍ وحدويٍّ مُتماسكٍ، يعيدُ ترتيب أولويات المرحلة... ؛ وذلك عبر تفعيل آليات الرقابة الشعبية، وكشف الفاسدين وفضح تحركاتهم، ودعم الأجهزة الأمنية في ملاحقة المتورطين، مع تشريع قوانينَ رادعةٍ تُجفِّف منابع التمويل الخارجي، وتُجرم التعامل مع جهاتٍ تُهدد أمن العراق... ؛ كما ينبغي تعزيزُ الخطاب الإعلامي الواعي الذي يُحارب مفاهيم التطرفَ والتبعية والذيلية والعمالة والخيانة بكل أشكالها ، ويُعيدُ الثقةَ بالدولة عبر إبراز إنجازاتها، ويُحصِّنُ المجتمعَ من الاختراقات الفكرية التي تزرع الفرقة.
إن المعركة الحقيقية اليوم ليست مع آثار الانظمة الدكتاتورية والطائفية والاجرامية فحسب، بل مع أدوات ايتام وازلام وانصار تلك الانظمة البائدة الجديدة وشعاراتهم المتجددة و التي تستغلُ الفوضى لتحقيق مكاسبَ سياسيةٍ واقتصاديةٍ مشبوهة ... ؛ ولا يُمكن الفوزُ بها إلا بإرادةٍ جماعيةٍ تُعيدُ الاعتبارَ لمفهوم الحرية المسؤولة، وتُؤسسُ لعهدٍ جديدٍ تُصانُ فيه السيادةُ، ويُبنى على أسسِ العدالة والشفافية والقانون.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat