عمَّان-
قصص "النباح الأخير" لمفلح العدوان تجمع بين التاريخ والشعر واستلهام الوحي في الأديان السماوية.
ويأتي عنوان الكتاب الصادر حديثًا عن "الآن ناشرون وموزعون" في الأردن في 128 صفحة من القطع المتوسط، ويضم 14 قصة تتنوع موضوعاتها، لكنها تتفق في بنيتها الأساسية، إذ يمزج فيها الكاتب السرد بالشعر، مستشهداً ببعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وبعض من تراث الديانات السماوية الأخرى.
يبدأ مفلح العدوان كتابه بتنويه تنفكُّ رموزه شيئاً فشيئاً خلال قراءة قصص الكتاب؛ يقول فيه:
"الذاكرة في طريقها إلى خزائن النسيان..
قصص المكان موزّعة بين الآلهة والبشر..
ولا شاهد عليها إلا ما تبقّى من نقوش الحَجَر!".
تبدأ أولى قصص المجموعة بعنوان الكتاب "النباح الأخير"، والذي يستلهم قصة "قطمير"؛ كلب أهل الكهف، راوياً بعض أحداثها، مختتماً بفقرة يقول فيها مفلح العدوان: "خرج السبعة وثامنهم كلبهم، ثم وضعوا صخرة كبيرة على بوابة الكهف، ونزلوا بكل حريتهم يبحثون عن أناس مثلهم ناموا مرات عديدة، وبقوا ينتظرون الفرصة ليعودوا إلى الحياة مرة أخرى بلا رقيب يتعقَّبهم".!
وفي قصة "مسيح عفرا" يؤنسن مفلح العدوان السنديانة (بطلة القصة) وصاحبة الحضور الأبرز فيها قائلاً:
"أحسَّ بالسنديانة تريد معانقته، فانتبه لها أخيراً.
تأمّلها، وناجاها: ستكونين تابوتي، أو صليبي، أعرف هذا، لكنك مني، تفهمينني أكثر منهم، وتعرفين أن من يَقطعك هو ليس من صُلبك، وأن من يُحرِّرك هو منك وإن اختلفت عقيدته.. أنت أقرب الجميع إليَّ، حتى عند مماتي.
هزَّت أغصانها مُلَوِّحة له، وابتعد".
وفي قصة "شهادة وفاة" نجد أنفسنا أمام لوحة مرسومة بالكلمات للبحر الميت، والذي من شدة ملوحته لا تعيش فيه أي كائنات بحرية، يقول مفلح العدوان:
"غافلتني الحكاية..
كيف نسيتها من كَثرة ما زرت "البحر الميت"، فلم أستعِد تلك اللحظات الأولى لهذا المقام، وكأني أُعيد سرد ملحمة الموت الأولى، في مكان محدد، هنا؟
ياه.. كم نتحمل هنا من أوزار وجدناها أمامنا، ولا ذنب لنا في نواميس حُوَاة الجغرافية!
أنظر عميقاً حيث فضّة البحر..
ترى ماذا يختفي تحته؟ ما اسمه قبل أن يكون ميتاً؟
أتذكر "سدوم"!!
أعود إليها حين كانت قرية، ولم يكن، آنذاك، هواؤها ملحاً، ولم تكن الحياة مصادرة منها، وكان الصخب ملء المكان؛ أناس يتحرَّكون، وتجار يبتاعون ويشترون، وأسواق، وساحات، ومراعٍ، وبساتين".
وفي القصة نفسها يتساءل الكاتب، مضفّراً الشعر في السرد، إذ يقول مفلح العدوان:
"هل أودع التمثال الملحي، وأتركه وحيداً؟
كان وجهه ملتفتاً إلى الخلف، كأنه حائر بين الشوق لمكانه الذي تربَّى فيه، وعاش هناك أيام طفولته ولحظات شبابه، حيث الأهل والأقارب والجيران وكل من يعرفهم، حائر بين كل هؤلاء وبين الأمر الإلهي في أن من ينظر إلى الخلف فسيكون عقابه السكون والجمود.
وصارت امرأة لوط تمثال ملح، بينما آوى زوجها وابنتاه في الكهف القريب، رغبة في الراحة، وتوقاً إلى النسيان!".
ويعرِّج في القصة ذاتها على ذكر نبي الله لوط، وذلك الاختبار الصعب الذي تعرّض له، راسماً صوراً إبداعية تفتح الآفاق لتخيّل الأحداث وكأن القارئ يحياها من جديد، يقول مفلح العدوان:
"ياه.. كم عانيت من الظلم يا لوط!
أنت، حتى خروجك، واستراحتك هنا، مختلف عليها.
لا أريد أن أرى ذاك الكهف.. كُلُّه شبهات، وشكوك.
أحمل ما تبقى من وسواس يزنُّ في رأسي، وأتابع دربي إلى قرى "لوط"، إلى "البحر الميت"، والفصل صيف، والعرق ينزُّ كأنّ في الزيارة عقاباً، أو عتاباً، أو دعوة لتهجِّي أيِّ ظل قريب كي تكون الرؤية واضحة جلية.
عميقاً أترك ملح المرأة وأمضي..
أبحث عن شهادة وفاة هذا البحر، فأراه مكشوفاً أمام عينيَّ، وأرى زواره يعيدونه سيرته الأولى صخباً، وطرباً، وتوقاً لزمن الصالحين قبل أن يفسدوا!".
وفي قصة "العثماني" يستعرض المؤلف عدداً من الأحداث التاريخية التي طعَّمها بأسماء بعض الشخصيات، مثل سعيد بن خالد بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية الأموي العثماني الفديني، الذي يقول مفلح العدوان على لسانه:
"جدِّي لم تقتله الفتنة، بل قتله الزمن الذي طعنه غدراً، بصمت أصحابه، وبِكَيد ذوي القربى.
لم يسعفه أحد، وكان أحد المُبشّرين بالخير، فلماذا لم يلتفّ حوله المؤمنون بِصدق الكتاب؟!
أين كانت "الحجاز" و"العراق" و"الشام"، حين قَطّعوا أصابعه، وهو يقرأ قَداسة الكلام، ثم مَزّقوه، كأنه ليس منهم؛ جدّي عثمان الأول الذي بات يَتَقمَّصني بدمه في هروبي الطويل هذا، ويتلبَّسني بِنسبي إليه، الذي وشمني به عنواناً طيلة سنوات عمري، فصرت أُنادَى بالعُثمانيّ.
وأنا لا أريد تكرار مأساة نهايته، ولا أريد الصمت على جُور الذين قتلوا جدي؟!
أين هي "الشام" الآن، وهم يحاصرونني؟".
وفي قصة "المَجوس يَحرِقون البَازلت!" يطرح مفلح العدوان عدداً من التساؤلات على لسان شخصية تاريخية أخرى هي "مِيشَع بن كَموش مَلك مُؤاب الذيباني"، فيقول:
"تَخبَّأت كل تلك السنوات بين هُدب التراب، وسُويداء الذاكرة.. فَمَن أشعل النار بجسدي؟ مَن سَرق بقايا رماد حروفي؟
النار.. النار..
تلك التي طهّرتني من الزمن الذي أنا مُقْبِلٌ عليه، فَتَكالبت عَلَيَّ بأيدٍ من ترابي، وَبِشُعلة من بني طِينتي، الذي منه بُعِثت مِسَلّة، واسمي مُتماهٍ مع ذات ميشع، ومَقرون حضوري بهذا المكان.. ذيبان"!"
مَن أَشعل النار بي؟!
مَن نَقل رُفاتي إلى بَلدٍ غَريبٍ، لا أرى فيه إلا غُرباء، هُم ليسوا مثلي؟
أنا المِسَلّة التي باركني الإله كَموش، وَحَفر الملك ميشع الحَرف عَليّ..
هذا آخر زمان..".
وفي قصة "سبيل الحوريات" يبدأها الكاتب بعنوان فرعي "حالة عشق" يقول فيها:
"أتأمَّل الرسم..
هذا حب من أول خط، وكأن للون سحر النظرة العذراء!
متى كان هذا؟!
مَرَّة حين تَجَشَّمت عَناء المَسير وَحيداً بين سقف السيل ودرج فرعون مروراً بسبيل الحوريات وسط البلد؛ مدينتي عَمّان، وَمَرَّة أخرى عندما قرأت أن الصبايا كُنّ يَلهَثن فِتنة وَيَزدَدن حُسناً ما إن يَدخُلن رُخام السَّبيل فتلتحم أجسادهن رسماً على حُلم المكان.
أُراوغ النبض.. أتملَّى نُقوش الفتنة هناك.
لم يَكُنَّ بلا أرواح، وكأن أُنثاي التي أعشق هي إحداهنّ، وهذه تجربتي الأولى في وَلَهٍ أسميه تَوقاً، وينعتونه استلاباً وأسراً.. تلك أنثاي، وهذا حُب، لا حبر على ورق!".
وفي القصة التي اختتمت بها المجموعة "المَوءودة الغريقة!" وكأن الكاتب قد اختار أن يتجول على حقب متتابعة من التاريخ، يبدأها بالتعريج على الكنعانيين، حتى يصل إلى صلاح الدين الأيوبي، فيقول مفلح العدوان:
"من أنا الآن؟
بائس أنا حين لا أعي أنني حارس المدينة المُطارَد فيها، لأني ضميرها المُختبئ في جوف البحر.
أغيب، وأعود مُتَجَسِّداً كل حين بِوجه من وجوه ماضيها..
ياه.. ما أنقى تلك اللحظة حين كنت أنفض رذاذ الماء من على جناحيّ، مُتأَمِّلاً البحر الأحمر الذي خبرته، والذي حين انتبه إلى حُلولي صار خاشعاً لمِهابة حُضوري، فتداعت في دواخلي خطواتي عندما خرجت من مجمع الآلهة الكنعاني، بعد أن انفضّ من حولي جَمع الآلهة الذين أرأسهم في قاعة اجتماعي بهم! ذَهبوا إلى كل الجهات، وتاقت ذاتي للراحة في مساحة أقتطعها لاسمي، وأباركها بحضوري.. أين أذهب في غيابي؟".
ومن الجدير بالذكر أن مفلح العدوان، قاص وروائي وكاتب مسرح وسيناريو وصحفي وباحث، مواليد الأردن عام1966م، حاصل على بكالوريوس هندسة كيميائية من الجامعة الأردنية، عام 1990م. مؤسس ورئيس مختبر السرديات الأردني لعدة دورات، عمل مديرا لوحدة الشؤون الثقافية في الديوان الملكي الهاشمي-الأردن، ومديرا للمركز الثقافي الملكي في وزارة الثقافة الأردنية، وكاتباً في جريدة الرأي الأردنية. صدر له في القصة القصيرة سبع مجموعات قصصية هي: "الرحى"، الدواج"، "موت عزرائيل"، "موت لا أعرف شعائره"، "شجرة فوق رأس"، "نحت آخر لتمثال المفكر/ مختارات قصصية"، "هب لي عيناً ثالثة". وله رواية واحدة عنوانها "العتبات" صدرت عام 2013م، وأصدر في البلدانيات والرحلة وأدب المكان العديد من الكتب: "عمان الذاكرة"، وثلاثة أجزاء من "موسوعة القرية الأردنية/ بوح القرى"، و"معان وقراها"، "سماء الفينيق/ رحلتي إلى فلسطين". وصدر له في المسرح والمونودراما "مسرحية عشيات حلم"، و"ظلال القرى وآدم وحيداً/ مسرحيتان"، "أربعة نصوص مسرحية: ظلال القرى/عشيات حلم/بلا عنوان/سجون"، "من قتل حمزة؟/ كتابة مشتركة"، "مرثية الوتر الخامس/ مونودراما".
وكتب سيناريوهات الكثير من الأفلام الوثائقية، وأقام عدة معارض فوتوغرافية. كما فاز مفلح العدوان بالعديد من الجوائز العربية والعالمية.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat