الإصلاح الإداري الشامل.. ضرورةٌ لا تحتمل التأجيل
د . محمد وهاب عبود
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . محمد وهاب عبود

كثبان رملية من الأوراق المتراكمة ومتاهات من الممرات والأختام والتواقيع وأبواب موصدة تبتلع الوقت والأمل معاً.... هذا ليس وصفا لمشهد سريالي في رواية كئيبة، بل هو الواقع اليومي المرير الذي يكابده المواطن العراقي في رحلته الشاقة والمضنية عبر دهاليز الإدارة الحكومية. معركة يومية ضد طواحين الهواء البيروقراطية، معركة تستنزف الأعصاب وتهدر الكرامة وتخلق هوة سحيقة وفجوة عميقة بين المواطن والمؤسسات الحكومية التي يفترض أن تكون في خدمته.
لقد تحول النظام الإداري في كثير من مفاصل الدولة من أداة لتنظيم الحياة وتسهيل شؤون الناس، إلى عبء ثقيل وسد منيع يحول دون وصول المواطن إلى أبسط حقوقه. إن “سرطان البيروقراطية”، بتعقيداته المتشعبة وإجراءاته العقيمة و”روتينية القاتل”، لم يعد مجرد معرقل للتنمية ومعطل للمصالح، بل أصبح بيئة خصبة لنمو الفساد وتفشي استغلال المنصب. ففي ظل غياب الشفافية وتعقيد المساطر الإدارية تصبح الحاجة إلى “تسهيل الأمور” مدخلا للرشوة والمحسوبية ويتحول الموظف من خادم للشعب إلى متحكم بمصائرهم، يمنح ويمنع وفق أهواء شخصية أو منافع ذاتية.
وتزداد المأساة عمقا حين تُقابل معاناة المواطن بالغطرسة واللامبالاة من قبل بعض من يجلسون خلف المكاتب. تلك النظرة الفوقية وذلك التعامل المتعالي الذي يشعر المواطن معه بأنه متهم أو متسول وليس صاحب حق، يقتل الانتماء ويغذي الشعور بالغربة داخل الوطن. إضف إلى ذلك تلك “الضبابية” المقصودة أحيانا في تفسير التعليمات والقوانين والتخبط في إصدار القرارات الذي يضيع الحقوق ويشتت الجهود ويجعل المواطن يدور في حلقة مفرغة من المراجعات التي لا تنتهي. إن الاجتهادات الشخصية والتعسف في استخدام السلطة ليسا مجرد ممارسات فردية خاطئة، هما دليل على خلل بنيوي عميق في فهم فلسفة الوظيفة العامة.
الحل لا يكمن فقط في تبسيط الإجراءات، وإن كان ذلك ضروريا وملحا، إنما يتطلب ثورة حقيقية في العقلية الإدارية وتبنيا شاملا لـ “الأتمتة” والتحول الرقمي. إن أتمتة المعاملات الحكومية ليست ترفا تكنولوجيا، هي ضرورة قصوى؛ فهي تقلل الاحتكاك المباشر الذي يفتح أبواب الفساد وتوحد الإجراءات وتضمن الشفافية وتحفظ وقت وجهد المواطن والدولة على حد سواء. النظر إلى تجارب دول مثل إستونيا التي حولت نفسها إلى مجتمع رقمي متقدم، حيث تنجز معظم المعاملات الحكومية إلكترونيا بكفاءة وسرعة، لقد أثبتت هذه التجارب أن الإرادة السياسية والتخطيط السليم قادران على تفكيك أعقد التركات البيروقراطية.
ولكن الأهم من التكنولوجيا، هو ترسيخ المبدأ الأساسي الذي من أجله وجدت الإدارة أصلا: خدمة المواطن. يجب أن يُدرك كل مسؤول وموظف، من أعلى الهرم إلى قاعدته، أن وجوده في هذا المكان هو لخدمة الناس وتيسير أمورهم، وليس الانتقام منهم أو استغلال حاجتهم. وكما قال بيتر دراكر، أحد أبرز علماء الإدارة: “لا يكفي أن تفعل الأشياء بطريقة صحيحة، بل الأهم أن تفعل الأشياء الصحيحة”. والشيء الصحيح هنا هو خدمة المواطن بكرامة وكفاءة.
إن استمرار هذا الحال، وهذا التعسف الإداري المقيت، وهذا الشعور المتنامي لدى المواطن بأن الإدارة خصم له وليست سندا، هو خطر داهم على الدولة بأكملها. إنه يقوض الثقة، ويزعزع الاستقرار، ويفرغ مفهوم المواطنة من محتواه. إن إصلاح النظام الإداري وتطهيره من شوائب البيروقراطية والفساد والغطرسة ليس مجرد مطلب شعبي، بل هو صمام أمان للدولة، وضرورة حتمية لبناء عراق يشعر فيه المواطن بالاحترام والكرامة ويلمس فيه أن مؤسسات دولته وجدت حقا لأجله. إن تحرير الإدارة من أغلالها هو تحرير للمواطن وللدولة معا.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat