يقدّم الباحث الجزائري يحيى بلحسن المقيم في مدينة ليل دراسة مستفيضة حول ظاهرة "الشفهي والكتابي"، في الثقافة الإسلامية المبكرة، في وقت لا تزال فيه الدّراسات العربية الجادّة التي اهتمّت بهذا الموضوع نادرة، إن لم تكن منعدمة.
ويوضّح المؤلّف، في مقدمة الكتاب، أنّ "أيّ ثقافة إنسانيّة مرّت لا محالة بالقناة الشّفهيّة، ونعتقد أنّه حان الأوان ألّا نشكك وألّا نتوجّس من كلّ مَن حاول الاقتراب أكثر من النّصّ. إنّ إرجاع النصّ إلى الإطار الشّفهيّ الذي وُلد فيه ونما فيه أيضاً يجعلنا أقربَ إلى فهم مُراده، ومحاولة استيعاب مقصد النّصّ وغايته لا تعني أبدًا تشكيكاً أو هدمًا له."
كما يلفت المؤلّف النظر، في المقدمة ذاتها، إلى أن "صِلَتُنا بالاستشراق خصوصاً والغرب عموماً ينبغي إعادة النظر فيها، فنخرج من المأزقَين معاً: مأزق نبذ الغرب مطلقاً والتقوقع على الذات، ومأزق الانبهار به غير الفعّال والذوبان كلّيّةً فيه. فليس كلّ ما طرحه الغرب من أفكار سلبيّاً، وليس كلّ ما هو موجود في تراثنا ومصادرنا إيجابيّاً".
الكتاب نفسه، وقد صدر حديثًا عن "الآن ناشرون وموزعون"، بالأردن، وجاء في 230 صفحة، وقد صممت غلافه م. سجود العناسوة، جاء في مقدمة وخمسة فصول، حملت العناوين الآتية: إضاءات حول "الأصل الشفهي"، الذاكرة عماد النقل الشفهي، الشفهي والكتابي في البحث العلمي، الكتابات الإسلامية الأولى، ظهور الكتاب تدريجيا.
ويجمع الكاتب والباحث بلحسن خلاصة دراسته في خاتمة، يؤكد خلالها أن "الخطاب الشفهي يختلف عن النص المكتوب المقيّد بأنه يحيل لا محالة إلى الأشياء الموجودة والمحيطة بزمان ومكان الخطاب. فهو يُوجِّه ويُحيل إلى هذا الواقع ويستحضره بالإشارة بمفهومها الواسع. فقد تكون الإشارة باليد أو النظرة أو اختلاف نبرات الصوت أو استحضار صورة أو حدث أو واقع معتاد، يكون معلوما، على الأقل، لدى المخاطَب. فاستصحابنا للأصل الشفهي ونحن نقرأ النص، يجعلنا لا نرى دلالته الخام فقط ولكننا نحاول أن نعثر على ما يحيط بالنص من إشارات وسياقات، إن حافظ عليها النص المكتوب، وهي بلا شك، قد توضّح أكثر، إن وُجِدَتْ، دلالة النص الأولى التي قصدها صاحب الخطاب".
ويضيف بلحسن: "ومثل ما حدث في كل الثقافات الإنسانية القديمة غالبا، لا شك أن الشفهي والكتابي تعايشا منذ البدايات الأولى للإسلام، وإن كانت الوسيلة الشفهية هي الوسيلة التي كانت غالبة في ذلك المجتمع الإسلامي الأول بحكم ظروف معينة مثل نقص التعليم وضعف وسائل الكتابة كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك".
برغم تفوّق أحدهما على الآخر في فترات تاريخية معينة، كما يقول بلحسن، لم يحدث أن تغلّب إجراء على الآخر تغلّبا تاما، بحيث تمكّن من إلغاء "غريمه" من التداول والاستعمال كليّة. ففي البدايات الأولى، كما رأينا ذلك، ورغم أن "العلم"، أي طلب الحديث، كان يعتمد خاصة على الرواية الشفهية، لم يُهمل ولم يُلغ الكتابة تماما، هذه الأخيرة التي ظلت تنتعش وتنمو باضطراد رغم جميع العراقيل التي عرفتها. بعد دخول صناعة الورق إلى العالم الإسلامي ثم بعد اختراع المطبعة، أو بالأحرى بعد استفادة العرب المتأخّرة منها، قفز الكتابي متقدّما عن الشفهي. ورغم أن هذا التطوّر التقني ساهم في انتشار الكتابي انتشارا واسعا، لم يندثر الشفهي وظلّ يقاوم ويتشبّث بالحياة في ميادين متعدّدة.
ويرى مؤلّف الكتاب أن الإنسان كما يحتاج "إلى التعبير والتواصل المتأني والمتأمّل الذي يتحقق في الكتابي، لا يمكنه الاستغناء عن المباشرة والمواجهة والعفوية المتمثِّلة في الشفهي، بل يكون هذا الشكل التواصلي الأخير أجدى وأنفع وأكثر ملاءمة أحيانا، كما نلمس ذلك في خطاب المحامي أو الواعظ أو المعلّق على سبيل التمثيل. فلا تُقَلِّص الكتابة في حقيقة الأمر، رغم انتشارها وتوسّعها، من أهمية الشفهي، بل بالعكس قد تساعده على الانتعاش. يعلم القارئ أن العفوية المطلقة والارتجال التام لا وجود لهما، فكلٌّ من المحامي أو الواعظ أو المعلّق يُحضّر مرافعته أو موعظته أو تعليقه كتابيا، ويتأمّل خطابه ويدقّق فيه قبل أن يلج ساحة المحكمة أو المسجد أو الملعب ليباشر إلقاءه شفهيا".
إن العودة واللجوء إلى الدين سيزداد قوة في هذا الربع الثاني من القرن الواحد والعشرين،
وسيعود الإنسان تبعا لذلك إلى نصوصه الدينية يستقرئها ويطلب الحل عندها، ولا يمكن للمجتهد في قراءة النص إلا أن يتبع منهجا في قراءته هذه، سمى القدماء هذا المنهج "أصول الفقه". ولعل العقلاء يعلمون أن تطبيق منهج قديم كما وصلنا دون تجديد حقيقي فيه تناسب زمننا لن يؤدي إلى أي تجديد ما، ولذلك يعتبر صاحب الكتاب أن البحث في "أصل الشفهي والكتابي" ليس ترفا أو دون جدوى، بل هو لبنة تُضاف إلى منهج أصول التعامل مع النص. إن صاحب الكتاب يُقدّر أن جدوى وفائدة "قاعدة الشفهي والكتابي" يتمثّل بشكل خاص في أنها تمكِّننا من العودة إلى معين النص قبل تُكدِّره دلاء الأحداث والاجتهادات البعدية التي اضطرت أن تُساير تطورات المجتمع الإسلامي الواسع.
يذكر أن بلحسن باحث وأكاديمي جزائري مقيم في فرنسا، متخصص في التاريخ الإسلامي، أستاذ التعليم العالي في جامعة ليل الفرنسية سابقا، مهتم بدراسة الإسلام المبكر. من بين منشوراته، نذكر: "صحيفة المدينة –دراسة نقدية-"(2019).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat