صفحة الكاتب : علي سالم

السياسة العقابية في الجرائم الاقتصادية: بين الردع العام وحماية الاستثمار
علي سالم

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

   تشكل الجرائم الاقتصادية تهديداً مباشراً لاستقرار المجتمعات ونموها الاقتصادي، نظراً لتأثيرها الواسع على مناخ الاستثمار والثقة العامة في النظم المالية والتجارية، ولهذا السبب أصبحت السياسة العقابية تجاه هذه الجرائم محوراً للتشريعات الحديثة، التي تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين الردع العام وحماية الاستثمار، بما يضمن الحفاظ على النظام الاقتصادي وحماية حقوق الأفراد والمؤسسات.

      ترتكز السياسة العقابية في الجرائم الاقتصادية على فلسفة مزدوجة تهدف من جهة إلى تحقيق الردع العام، من خلال فرض عقوبات صارمة تحد من انتشار هذه الجرائم، ومن جهة أخرى إلى حماية البيئة الاستثمارية، من خلال توفير مناخ آمن يشجع تدفق الاستثمارات المحلية والأجنبية، وترتكز هذه السياسة على إدراك أن آثار الجرائم الاقتصادية - مثل غسيل الأموال والتهرب الضريبي والفساد المالي - لا تقتصر على الجاني والضحية فقط، بل تمتد إلى تقويض الثقة في المؤسسات الاقتصادية وتهديد الاستقرار المالي للدولة.

      ولتحقيق الردع العام، تتبنى التشريعات الجزائية عقوبات رادعة تتراوح بين الأحكام بالسجن والغرامات الباهظة، بالإضافة إلى مصادرة الأموال الناتجة عن النشاط الإجرامي، وتبعث العقوبات الشديدة برسالة واضحة مفادها أن الجرائم الاقتصادية لا يتم التعامل معها بتساهل، خاصة وأن هذه الجرائم غالباً ما ترتكب باستخدام وسائل متطورة ولها آثار بعيدة المدى، إلا أن الشدة المفرطة قد تؤدي إلى نتائج عكسية، مثل إحجام المستثمرين عن دخول السوق خوفاً من التعرض لعقوبات شديدة قد تفرض أحياناً نتيجة لتفسيرات قانونية مختلفة.

      وفي المقابل، تسعى السياسة الجزائية إلى حماية الاستثمار؛ من خلال توفير آليات قانونية مرنة تأخذ في الاعتبار طبيعة الأنشطة الاقتصادية وتوازن العقوبة بالعدالة، فعلى سبيل المثال، تعتمد بعض التشريعات على مبدأ "المصالحة" في الجرائم الاقتصادية، وخاصة في القضايا المتعلقة بالتهرب الضريبي أو المخالفات التجارية غير الجسيمة، حيث يُسمح للمخالف بتسوية النزاع مالياً دون اللجوء إلى عقوبات بالسجن، إن هذا النهج يعد وسيلة فعّالة للحفاظ على استقرار السوق وتعزيز الثقة بالنظام القضائي، كما أنه يظهر مرونة تشجع على تصحيح الأخطاء بدلاً من الإفلات من العدالة.

      ورغم الجهود المبذولة لتحقيق هذا التوازن، إلا أن السياسة الجزائية في الجرائم الاقتصادية لا تزال تواجه تحديات متعددة، فالتطور السريع للأدوات المالية والتكنولوجية يسهل ارتكاب هذه الجرائم ويعقد اكتشافها، فضلاً عن ذلك فإن التفاوت بين التشريعات الوطنية والدولية يعيق أحياناً التعاون في ملاحقة المتورطين، وخاصة في الجرائم العابرة للحدود مثل غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

      ولذلك، هناك حاجة إلى تطوير سياسات جزائية تتماشى مع طبيعة الجرائم الاقتصادية المتجددة، من خلال تعزيز التعاون الدولي وتحديث التشريعات لمواكبة التطورات الاقتصادية والتكنولوجية، كما أن تعزيز الشفافية والرقابة على الأنشطة المالية والتجارية يشكل جزءاً أساسياً من هذه السياسة، للحد من فرص ارتكاب الجرائم الاقتصادية وحماية بيئة الاستثمار من المخاطر المحتملة.

     وفي الختام، فإن السياسة الجزائية في الجرائم الاقتصادية تمثل ركيزة أساسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وحماية الاستثمار، من خلال التوازن الدقيق بين الردع العام والحفاظ على مناخ استثماري آمن، ويتطلب نجاح هذه السياسة التعاون المستمر بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لضمان تطبيق العدالة وتحقيق الأهداف الاقتصادية المرجوة.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي سالم
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/04/11



كتابة تعليق لموضوع : السياسة العقابية في الجرائم الاقتصادية: بين الردع العام وحماية الاستثمار
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net