صفحة الكاتب : باسل عباس خضير

واقع الصحافة الورقية في العراق : ( الجرايد ستة بألف ) في شوارع بغداد
باسل عباس خضير

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.


إنها ليست مزحة وذلك ليس  افتراء وإنما واقع الحال عند بائعة الصحف الذين يفترشون الساحات والأرصفة في الحبيبة بغداد ، فعند المرور بمنطقة باب المعظم المعروفة بنشاطها الذي لا ينقطع طيلة ساعات النهار ، تسمع مناداة البائعين المروجين لصحف العراق وهم يصيحون بأعلى الأصوات او بمكبرات الصوت ( جرايد ستة بألف دينار ) ويعني ذلك من الناحية الواقعية إن ثمن الصحيفة يقل عن 200 دينار وهو المبلغ الذي لا يكفيك لشراء قنينة الماء ، وتلك الأصوات المروجة ، محزنة ليس للعاملين في مهنة المتاعب فحسب وإنما لمحبي الصحافة العراقية وجمهورها التي يمتد عمرها أكثر من قرن ، إذ عرف العراق الصحافة قبل العديد من البلدان في عهد الوالي العثماني مدحت باشا عندما جلب مطبعة آلية من باريس سماها مطبعة الوالية  وأمر بإصدار جريدة ( زوراء ) الرسمية ببغداد في 15 حزيران عام 1869 ، وذلك يؤكده المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني ، الصحافة العراقية إذن  ولدت قبل استقلال البلاد وقبل نشأت الكثير من الدول العربية والأجنبية التي تتباهى بصحافتها اليوم  ، واغلب المارين بقرب من تلك الأكشاك او البسطيات يتساءلون بهمسات او بأصوات مسموعة هل إن الألف دينار تغطي كلفة 6 جرايد بالفعل ، و لماذا وصلت الصحافة العراقية لهذا الحال ، وهل هناك أملا في إصلاح أمور صحافتنا الورقية لكي يعاد لها الاعتبار  ؟!  ، والإجابات عن تلك الأسئلة  لا تتطلب جهدا كبيرا في التفسير والتحليل كما أن حلولها  لم تعد تحتمل الانتظار .
 وبخصوص كلفة الإصدار ،  فان الصحيفة الورقية ( الجريدة ) الواحدة يكلف بما  لايقل عن دولار أي  1350 دينار ، وهذا الرقم تم اعتماده من قبلنا عندما تولينا رئاسة تحرير إحدى الصحف وهو يمثل أدنى مستوى ممكن ومضغوط من التكاليف ، فإصدار الصحيفة يتطلب تكاليف ثابتة من الإيجار والحاسبات وأجهزة الاتصال والانترنيت وأجور العاملين على الملاك وأجور الخدمات من الكهرباء والماء والصيانة ، كما تتطلب قدرا من التكاليف المتغيرة التي تشمل مكافآت المراسلين ومن يعملون بالقطعة فضلا عن أجور الفرز والطباعة والتوزيع والنقل وغيرها من المتطلبات ، وتتأثر التكاليف بمجملها بعدد المطبوع في الإصدار الواحد وقابليته على التوزيع داخل وخارج بغداد ، و يفترضى أن تغطى مجمل التكاليف من خلال مصادر الإيرادات التي تشمل  الاشتراكات والمبيعات والإعلانات والإعانات ، واغلب الإيرادات غائبة منذ سنين فالمبيعات بسعر زهيد جدا وقد تكون بالمجان لإرضاء المتعهد واقتناعه  بالتوزيع  وفي إدخال الصحيفة  ببورصة المطبوعات التي تنشط صباحا كل يوم ،  والإعلانات في الصحف بنوعين التجارية واغلبها حكومية وهي رغم قلتها فمعظمها يستحوذ عليها  أفراد من الأحزاب والمقربين من المعلن من موظفي المكاتب الإعلامية وغيرهم الذين يطلبون عمولات لا تقل عن 50% من أجور الإعلان ، والإعلانات الفردية المتعلقة بالفقدان او الأمور الشخصية  تتولاها مكاتب تدفع أجور زهيدة جدا لا تغطي جزءا يذكر من التكاليف ، وباختصار وتعميم فان اغلب الصحف  التي صدرت بعد 2003 لم تستطيع تغطية التكاليف وبعضها تعتمد في استمرارها على تمويل الجهات والمكاتب السياسية او الأفراد وغالبا ما يكون هذا التمويل بالتقطير .
وإجابة عن السؤال لماذا وصلت الصحافة الورقية لهذا الحال ، فان هناك عوامل وأسباب تفسر هذا ( الانحدار ) ، أولها إن العراق لم يكن سوقا رائجة في الصحافة الورقية فقبل 2003 كانت الصحافة مملوكة للدولة وتدار بتوجيهات وان عدد المطبوع لا يناسب عدد السكان ،  فصحف الثورة والجمهورية والقادسية وغيرها لم يكن مطبوع أي منها  يتجاوز 20 ألف لكل إصدار وهذا الرقم لا يشكل نسبة مهمة من عدد السكان الذي كان يبلغ 30 مليون ، وعند مقارنة مطبوعات الكويت والإمارات مقارنة بعدد سكانها نجد المقارنات تحوي الإحباط والتفسير إن عادات القراءة عندنا تختلف عن مصر وبريطانيا وأمريكا فإصداراتها بالملايين ولها طبعات محلية ودولية وفي الصباح والمساء واغلب المبيعات بالاشتراكات وليس من خلال الأكشاك  ، ثانيا إن قرارات السفير الأمريكي بريمر بعد الاحتلال ألغت وزارة الإعلام وكل جهات الرقابة على المطبوعات لغايات ودوافع معروفة ، مما ولد الرغبة والحافز  لإصدار مئات او الآلاف من الصحف والمجلات بمختلف مصادر التمويل وقد ضعفت  معايير الجودة او الكفاءة والمهنية عن الإصدار ، والتنافس اعتمد على من يدفع مزيدا من المال وذلك ترك انطباعا لدى مرتادي الصحف في العراق بان الصحافة تبعد مسافة لما يحملونه من الأمنيات ، ثالثا إن الأجيال الحالية من الشباب لم تنشأ على ثقافة الصحافة الورقية إذ تأثروا بتقنيات الاتصال والتواصل الاجتماعي ومتابعة القنوات الفضائية المفتوحة للجميع  ، ورابعا هو غياب الجهة التي تتبنى الإعلام ورعاية الصحافة الورقية  فقد تركت هذه الأمور في الكثير من الحالات حسب  المصالح والمزاج عدا قليل من الاستثناءات ، والجهات المعنية من وزارة الثقافة او هيئة الإعلام والاتصالات تركت هامشا وفراغات للمبادرات بعضها استغل حسنا والكثير لم يسجل انجازات ، ولا نخفي القول إن الصحافية الورقية بوضعها الحالي يعدونها من قرابين الاحتلال .
ولا يعني ما ذكرناه بان الصحافة الورقية تحولت إلى تراث او ( فلكلور )  بعيدا عن التداول والاهتمام ،  فصحيح إن دورها تقلص نوعا ما إلا أنها لا تزال تؤدي أدوارا في العديد من البلدان ومحبي الصحافة الورقية في العراق لا يزالون يتمسكون بها حتى وان انخفض عددهم إلى حد ما  ، وان انخفاض أسعار مبيعات الصحف بواقع خمسة او ستة بألف دينار لا يعود بأسبابه بها  وإنما يعود لغياب التنظيم بهذا الخصوص ، فالعرض أكثر من الطلب وعدد الصحف الصادرة ربما تعطي الانطباع بصعوبة الاختيار كما إن هناك أسباب تتعلق بما ينشره فيها فبعضها لم تستطع مجاراة السرعة في تداول المنشورات مقارنة بوسائل التواصل الاجتماعي ، والصحافة الالكترونية على المواقع باتت تنافس بشدة الصحافة الورقية لأنها أكثر جرأة وسرعة وتستقطب طيفا واسعا من الكتاب حتى وان كان جهدهم بالمجان  ، وقارئ اليوم أصبحت له الحرية في الاختيار والبحث عن ما يناسبه ويستطيع التمييز بين العمل الصحفي الإبداعي عن غيره  بغض النظر عن وسيلة العرض ، و الجريدة الورقية تبقى جريدة ففيها الرصانة وفيها الشجاعة  ومنها التوثيق ومن فوائدها العودة للمطبوع كمصدر يمكن اعتماده بمختلف المجالات ، ومن واجب العرفان أن لا نقول وداعا للصحافة الورقية او أن نودعها لمثواها الأخير فهي  تستحق ما يلزمها من الاهتمام لكي تبقى بحالة استمرار ، وذلك يتطلب رعاية المبتكر منها وعزل الدخلاء وان تحظى بالدعم المادي او المهني لإثبات جدارتها وأهميتها لدى الجمهور ، وتلك مهمات ليست سهلة ولا يمكن أن تجير لجهة ما لأنها لا يمكن بلوغها  إلا من خلال نشاط جمعي نافع تشترك فيه الأطراف المعنية بالموضوع ، نعم إنها الصحافة الورقية التي لم تدغدغ مشاعرنا بل تتفاعل في عروقنا ، وكأنها جزءا من الكريات البيضاء والحمراء في الدماء لمن يعرفون واجب الوفاء والعرفان .
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


باسل عباس خضير
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/03/29



كتابة تعليق لموضوع : واقع الصحافة الورقية في العراق : ( الجرايد ستة بألف ) في شوارع بغداد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net