الصوم بوصفه فعل محبّة: تجربة شخصية في رمضان
همام طه
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
همام طه

أنا أصوم من أجل أسرتي.
أنا الوحيد القادر على الصوم من بين أفراد أسرتي، فهم معذورون لأسباب طبية وظروف صحية دائمة.
ولذلك أنا أجد نفسي ملزماً بالصوم ليكون في البيت صائم واحد على الأقل فيعيش بيتنا وأهله الأجواء الرمضانية والطقوس الروحانية ومتعة المشاركة في إعداد الإفطار والسحور وترقّب مواقيتهما وكل ما يقدّمه شهر الصيام من كسر للروتين وتغيير في نمط الحياة يمنحها إثارة وتجديداً وحيوية.
نحن نصوم من أجل الذين نحبّهم.
فبرأيي، لكل إنسان دافعه الذاتي والشخصي جداً للصوم، والجانب المعتقدي والإيماني هو أحد هذه الدوافع بالتأكيد وربما على رأسها؛ ولكن لا أحد منا يصوم "إيماناً واحتساباً" على وجه الحقيقة، فهذه العبارة التي وردت في الحديث المنسوب للرسول (عليه الصلاة والسلام): "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"؛ هي في نظري تعبير مجازي يُضمِر دافعاً روحياً أعمق للصوم؛ هذا الدافع هو: الحُبّ.
ذلك أن الإيمان والاحتساب ليسا قراراً دينياً يُتخذ بمعزل عن التفاعلات العاطفية الإنسانية الداخلية.
ليس الإيمان والاحتساب فعلاً ميكانيكياً بل هما فعل روحي متداخل ومتمازج ومتفاعل مع منظومة عواطف ومشاعر وانفعالات عميقة في دواخلنا.
إن الصوم إخلاصاً وتقرّباً لله هو السبب الذي نعلنه لأنفسنا وللآخرين.
لكن السبب الحقيقي هو الصوم حبّاً وانتماءً وولاءً للذين نحبّهم.
فنحن جميعاً نصوم كي نندمج اجتماعياً وعاطفياً وإنسانياً وروحياً بالكون الصغير المحيط بنا (الأسرة)؛ ليقودنا اندماجنا الأسري هذا للاندماج بالكون الكبير الذي يضم المجتمع من حولنا والناس والعالم والأسرة الإنسانية جمعاء، ثم ننتقل روحياً للاندماج بالأسرة الكونية الأكبر التي تشمل الطبيعة والكائنات والكواكب والمجرّات.
الصوم من أجل الأسرة، الصغيرة ثم الأكبر فالأكبر، هو فعل روحي يُعبِّر عن علاقة محبّة قوية وصلة مودّة متينة وارتباط وجداني وثيق هدفه الالتحام بالبشر الذين نحيا بينهم وبهم ولهم.
هل أبالغ؟ لا، لستُ مبالغاً في معتقدي هذا.
جاء في القرآن: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ).
تُوجّه الآية الرسول بأن يقول للناس: أجري المعنوي الذي أريده منكم على تبليغ الرسالة، ولا أريد غيره، هو أن تحبّوا أسرتي.
وفي تفسير آخر: أريد منكم أن تحبّوني لأني قريب منكم وأنتمي إليكم.
بمعنى أن "الرسالة" في كفّة و"الأسرة" (صغيرةً كانت أم كبيرةً) في الكفّة المقابلة.
تتضمن هذه الآية ثلاثة مفاهيم جوهرية: الدين أو الرسالة الروحيّة، والمودة (الحبّ)، والقربى (القربى بأشكالها الأسرية والعاطفية والاجتماعية والإنسانية والكونية).
نستطيع القول إن الآية تحمل في عمقها تصوراً لما يمكن أن نسميه "المحبّة الروحيّة"، وهي شكل من القرب القلبي والعقلي والروحي والضميري العميق بين الإنسان والخالق، أو بين الإنسان وتلك الحقيقة الروحيّة المتوهجة في داخله، أو بين الإنسان والإنسان، أو بين الإنسان والكون من حوله.
إنها علاقة تتسم بالصدق والثقة، والأصالة والتجدّد، والاحترام المتبادل، والتفاهم والتناغم، والانسجام والتكامل، والاتصال العميق الذي يتجاوز الأقوال والأفعال السطحية والممارسات الطقوسية، ليصل إلى المستوى الأعمق من المشاعر والتفكير.
بمعنى أن الممارسة الدينية لا تكتمل إلا إذا تجلّت في صورة علاقات إنسانية قائمة على الحب الصافي والتضحية الإيجابية، بعيداً عن الاستغلال والابتزاز العاطفي أو الإكراه. وهذا ينقلنا من رؤية الدين كمنظومة أوامر ونواهٍ إلى كونه تجربة وجدانية تعكس نفسها في العلاقات بين الناس.
تبدو لي المعادلة واضحة:
الدِين يُقابل الحبّ!
الدِين يُساوي الحبّ!
الدِين يُعادل الحبّ!
نعم، الصوم فعل محبّة؛ لأن الدين كلّه فعل محبّة يُعبَّر به ويُعبَّر من خلاله عن الحبّ والقرب والعلاقة الوثيقة والارتباط العاطفي والروحي والتأملي العميق بالخالق والمفاهيم الروحيّة، وهي المعاني التي من المفترض أن تنعكس وتتجلى أخلاقاً كريمةً وسلوكاً إيجابياً في العلاقات الإنسانية بين البشر. الدين في جوهره علاقة شخصية ذاتية داخلية استبصارية، وعلاقة تواصلية تآلفية وتكاملية بين الفرد والمفهوم الروحي أو الذات الإلهية، يتخللها مشاعر الحبّ، الشوق، الخشوع، الأمل، والبحث عن المعنى. إنه ليس مجرد امتثال للأوامر، بل حالة وجدانية تتغلغل في أعماق الإنسان، تؤثر في عواطفه، أفكاره، ورؤيته للحياة.
يقول النص القرآني: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب).
بمعنى أن السجود، الذي يحتلّ مكانة مركزيّة في الصلاة، التي تحتلّ بدورها مكانة مركزية في الدين، هو فعل محبّة يشتمل على معنى القرب والتقارب والاقتراب الروحي من الخالق أو الذات الربّانية أو من ذلك المفهوم الروحي الجليل الذي يحمله العابد أو العابدة في داخليهما.
وكما يقرّبنا السجود، بمعناه الروحي، للخالق، فإن الصوم، بمعناه الروحي أيضاً، يجعلنا أقرب للخالق وللمخلوقين والمخلوقات، كل المخلوقين والمخلوقات، وتحديداً أولئك الذين تربطنا بهم قرابة أسرية أو علاقة محبّة خاصة.
في نهاية المطاف، الصوم، كنوع من التضحية التي نصبر عليها أو المشقة التي نتحمّلها بإرادتنا، هو ليس مجرد عبادة تؤدى، بل هو فعل روحي عاطفي ينم عن ارتباطنا العميق بالآخرين وبالعالم من حولنا. هو تعبير عن الحب المتبادل والانتماء، بداية من الأسرة الصغيرة وصولاً إلى الكون بأسره. إننا عندما نصوم، نعيد تشكيل علاقتنا بالعالم، حيث يصبح الصوم تجسيداً لحبٍ لا متناهٍ، يستمر في التأثير على كل ما حولنا. في كل صوم، نختبر تجربة جديدة في التقارب الروحي مع الخالق، وتوثيق الروابط الإنسانية العميقة، لنكتشف معاً أن الصوم، في جوهره، هو فعل حبّ واتصال روحي يتجاوز حدود الزمن والمكان.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat