صفحة الكاتب : د . مظفر الشريفي

الولاية التكوينية المدّعاة لأهل البيت صلوات الله عليهم- ج2
د . مظفر الشريفي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بحث مُستل من كتاب (بل عبادٌ مكرمون- دراسة قرآنية وحديثية في نقد الغلوّ) لكاتب المقال

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الاستشهاد بالمعاجز على الولاية التكوينية

يستشهد البعض بما روي من معاجز جرت على يد أهل البيت صلوات الله عليهم على أن لهم ولاية تكوينية شاملة. ولكن هذا قد يكون عن طريق الدعاء أو بتسخير إلهي خاص أو بفعل مباشر من المعصوم سلام الله عليه بلا دلالة على ولاية تكوينية عامة.

وللفائدة ننقل ما ذكره مؤلف كتاب "الشيعة والغلو" حول هذا الموضوع رغم طول كلامه، حيث قال:

(وثمّة طائفة كبيرة من الأخبار تتضمن قيامهم ببعض الأفعال الإعجازية وخوارق العادة في موارد شتى، وإذا لم يكن بعض هذه الأخبار صحيحاً فلا أقلّ من أن يُدَّعى الاطمئنان الإجمالي بصدور بعضها لكثرتها، وهو ما يثبت ولايتهم التكوينية. وإلى هذا الوجه استند بعض الفقهاء قال: "وثبوت هذه الولاية التكوينية للأئمة عليهم السلام يظهر من الروايات المختلفة الواردة في الحوادث المتفرقة والشواهد التاريخية بحيث يحصل للمتتبع الجزم به". ولا يسعنا هنا نقل تلك الأخبار لكثرتها، وبالإمكان مراجعتها في الكتب المعدة لذلك، من قبيل كتاب الحر العاملي "إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات"، أو كتاب السيد هاشم البحراني "مدينة المعاجز"، وهو من أوسع الكتب في بابه، أو كتاب "بحار الأنوار" أو غيرها من الكتب والموسوعات. ولكنّنا نعتقد أنّ هذه الأخبار قاصرة الدلالة على المطلوب، وذلك:

أولاً: أنها لا تتضمن دلالة لفظية أو حالية على تمكنهم من التصرف التكويني العام، وظهور المعجز والكرامة على أيديهم لا ينكر، بيد أنه لا يدلّ على الولاية التكوينية العامة لهم، بل إنّ معظم هذه الأخبار هي من قبيل الحادثة في واقعة، ولا تُدرى سائر ملابساتها، ما يجعل احتمال التمكين الخاص وارداً لمصلحة اقتضتها الرسالة، كما أنّ احتمال حصول الكرامة من باب استجابة الدعاء وارد في بعضها.

ثانياً: إنّ السمة العامة والغالبة على أخبار المعاجز هو ضعف السند، كما أنّها اشتملت على الغث والسمين، وبعض مصادرها مما لا يمكن التعويل عليه، كما أنّ بعض مضامين الأخبار التي اشتملت عليها لا يشك أنها موضوعة، وتندرج فيما أخبر عنه الإمام الرضا عليه السلام في رواية ابن أبي محمود[1] التي تكررت الإشارة إليها.

ثالثاً: إن كثرة المعجزات التي تنقلها تلك الأخبار مريبة من أكثر من جهة:

منها: أنه ما سرّ انفراد بعض الرواة القلائل، وربما المجاهيل، بنقل روايات المعاجز الكبرى مع توفر الدواعي لنقلها، وكونها مما يفترض أن يراه الجمع الكبير لكونها معاجز استثنائية وعامة وفيها تحدٍ لقوانين الطبيعة؟! من قبيل المعاجز الكونية التي فيها تصرف في الأفلاك أو تحريك الجبال، أو المعاجز الإحيائية التي يقدم النبي (ص) أو الإمام عليه السلام فيها على إحياء بعض الأموات ليعيش بعضهم مدة من الزمان وربما أنجب ذرية؟! أو قيامه بمسخ بعض البشر على هيئة كلاب! ثم على فرض حصول هذه المعجزات الكثيرة بالنسبة للنبي (ص) فلماذا يغيب ذكرها عن النص القرآني، باستثناء الحديث عن معجزة القرآن نفسه وما تضمنه من بعض الإخبارات الغيبية، بينما تحضر هذه المعاجز بكثرة في النص الروائي؟!

ومنها: ما سرُّ هذا التضخم المبالغ فيه في المعاجز ولا سيما التي يقدم عليها الإمام عليه السلام لأدنى ملابسة مع عدم وجود ضرورة تحتم حصولها؟ إن المعاجز المنسوبة إليهم عليهم السلام بلغت من الكثرة حداً يخيّل إليك أنّ حياة الأئمة عليهم السلام كانت جارية على أساس الإعجاز وخرق قوانين الطبيعة وليس على أساس السنن؟! وإذا كان وجه الحاجة إلى المعجزة أنّها تعدّ دليلاً على صدقهم عليهم السلام كما يقال، وكما يظهر من بعض الروايات، فهل ثمّة حاجة لكل هذا العدد الكبير الذي يبلغ الآلاف؟ ألا يكفي البعض منها؟ ولا سيما مع وجود النص من النبي (ص) عليهم، ومع أهليتهم العلميّة والأخلاقية والروحيّة التي تعدّ خير دليل على إمامتهم وصدقهم؟!

إنّ موسى بن عمران عليه السلام لم يحتج إلى أزيد من تسع معاجز في مدة نبوته كما نصّ عليه الذكر الحكيم: {وَلَقَد آتَينا مُوسَى تِسعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَاسأَل بَنِي إِسرائِيلَ إِذ جاءَهُم فَقالَ لَهُ فِرعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسَى مَسحُوراً} [سورة الإسراء: 101]، مع شدّة عناد بني إسرائيل وكثرة لجاجهم، بينما نجد أن إماماً واحداً يصدر عنه مئات المعاجز!

ولو أننا اعتمدنا إحصائيّة السيد البحراني في "مدينة المعاجز" نجد أنّ الإمام علي عليه السلام ظهر على يديه خمسمائة وخمس وخمسون معجزة؟! والإمام الحسن عليه السلام له تسع وتسعون معجزة، والإمام الحسين عليه السلام له مئة وثلاث وتسعون معجزة والإمام علي بن الحسين عليه السلام له مئة وست معاجز، والإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام له مئة وثماني عشرة معجزة، والإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام له مئتان وثلاث وستون معجزة، والإمام موسى الكاظم عليه السلام له مئة وثلاث وثلاثون معجزة، والإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام مئة وإحدى وستون معجزة، والإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام له أربع وثمانون معجزة، والإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام له ثلاث وتسعون معجزة، والإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام له مئة وأربع وثلاثون معجزة، والإمام المهدي المنتظر عليه السلام له مئة وسبع وعشرون معجزة.

ومنها: أننا نلاحظ أنّ هذه المعجزات والكرامات التي تبلغ الآلاف لم تترك أثراً بيِّناً في الأمة الإسلامية، فلو كانت هذه الأفعال الإعجازية حقيقية وصادرة عنهم لأحدثت تحولاً في الأمة، لجهة إقبال عامة المسلمين على اتباع خط أهل البيت عليهم السلام؟! ودعوى أن الأمة تلقتها بالرفض مردودة، لأنه لازم ذلك هو توقف وانقطاع صدورها، لأن الاستمرار فيها والإكثار منها برغم التكذيب سيكون لغواً وعبثاً، ومخالفاً للحكمة الإلهية، كما يلمح إليه قوله تعالى: {وَما مَنَعَنا أَن نُرسِلَ بِالآياتِ إِلا أَن كَذَّبَ بِها الأَوَّلُونَ وَآتَينا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرسِلُ بِالآياتِ إِلا تَخوِيفاً}.

ألا يساعد ذلك على الاستنتاج بأن الكثير من هذه المعاجز قد وضعت بهدف الإساءة إلى الأئمة من أهل البيت عليهم السلام وتشويه مذهبهم، طبقاً لما جاء في رواية ابن أبي محمود؟! وكأنّه يُراد تسخيف بناء مذهب التشيع، مع علمنا يقيناً أنّ هذا الخط قد قام على أساس الحجة والبرهان. إنّ التضخم المذكور في المعجز دفع بعض الباحثين إلى الجزم بكون هذه المعاجز هي من الموضوعات، وأنها تعبّر عن تضخم في عالم الخيال كتعويض نفسي عن انحسار عالم الواقع وانكماشه بسبب الهزائم والمظالم التي تعرض لها الشيعة. وأرى من الضروري في الختام أن أنبّه إلى ضرورة دراسة أخبار المعاجز، دراسة متأنية موضوعية ناقدة، ولا سيما أنّ الأمر غدا مدعاة لنقد مدرسة أهل البيت عليهم السلام واتهامها بتغييب العقل نتيجة اعتقادها بمثل هذه المعاجز)[2]. انتهى كلامه.

ويمكن أن نقول إن الأئمة سلام الله عليهم إنما هم أوصياء وخلفاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وليسوا أصحاب رسالة، وأكثر من قصّ القرآن الكريم قصصهم من الأنبياء والرسل لم يذكر أن لهم معاجز، حتى نوح سلام الله عليه الذي هو من أولي العزم، وكأن في هذا دلالة على أن مخاطبة العقول بالحجج الواضحة البالغة ومناغمة الفطرة فيما دعا إليه الأنبياء سلام الله عليهم هو السبيل الأساس الذي انتهجوه، أما المعاجز فهي سبيل ثانٍ للأقوام المعاندة التي تلوثت فطرتهم بشكل كبير ولا تستجيب لنداء العقل.

ومن الواضح أن الرسالة أهم من وصاية الأنبياء والرسل سلام الله عليهم، وهذا يعني أنها أحوج للمعجزات. ومع هذا فعدد المعاجز التي ذكرها القرآن الكريم محدود لعدد من الأنبياء سلام الله عليهم المذكورين فيه وليس كلهم.

وما يتعلق بإمامة الأئمة الإثني عشر سلام الله عليهم وخلافتهم للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله فإنما هي مستمدة بالدرجة الأساس من رسول الله صلى الله عليه وآله وهي متوقفة على صحة رسالته صلى الله عليه وآله. ونحن معاشر الشيعة نعتقد أن الإمامة من العقائد الأساسية التي يجب الإيمان بها عن يقين، وهذا يعني أن دليل إمامتهم حق لا ريب فيه، قد تمت فيه الحجة على العِباد وليس دليلاً ظنياً، وهو مما يتقبله العقل بيُسر ولا يجانب الفطرة، وهو واضح بما يكفي للإيمان به لغير المعاند كما عَنِ المُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ قالَ: (سَمِعتُ أَبا عَبدِ الله عليه السلام يَقُولُ: ﴿أَما والله لَيَغِيبَنَّ إِمامُكُم سِنِيناً مِن دَهرِكُم، ولَتُمَحَّصُنَّ حَتَّى يُقالَ ماتَ، قُتِلَ، هَلَكَ، بِأَيِّ وادٍ سَلَكَ. ولَتَدمَعَنَّ عَلَيه عُيُونُ المُؤمِنِينَ، ولَتُكفَأنَّ كَما تُكفَأُ السُّفُنُ فِي أَمواجِ البَحرِ، فَلا يَنجُو إِلا مَن أَخَذَ الله مِيثاقَه وكَتَبَ فِي قَلبِه الإِيمانَ وأَيَّدَه بِرُوحٍ مِنه. ولَتُرفَعَنَّ اثنَتا عَشرَةَ رايَةً مُشتَبِهَةً لا يُدرَى أَيٌّ مِن أَيٍّ﴾. قالَ: فَبَكَيتُ ثُمَّ قُلتُ فَكَيفَ نَصنَعُ؟ قالَ: فَنَظَرَ إِلَى شَمسٍ داخِلَةٍ فِي الصُّفَّةِ فَقالَ: ﴿يا أَبا عَبدِ الله تَرَى هَذِه الشَّمسَ؟﴾ قُلتُ نَعَم، فَقالَ: ﴿والله لأَمرُنا أَبيَنُ مِن هَذِه الشَّمسِ﴾)[3]. ولا فرق في المقصود بهذه الرواية إنْ كان هو أمر جميع الأئمة سلام الله عليهم أو أمر الإمام الغائب سلام الله عليه فقط، فالكل واضح وتام الحجة بلا حاجة إلى تسطير المعاجز.

كما إن ما روي من معاجز كثيرة كان أكثرها في أماكن خاصة، فالأئمة سلام الله عليهم قد عاشوا ظروف التقية، على اختلاف في شدتها، مما يجعل تأثير المعاجز محدوداً. وهذا الظرف يجعل من يروي كل واقعة شخصاً واحداً فقط أو ربما أكثر بقليل، وهذا يقلل درجة التصديق بحدوث المعجزة لدى الآخرين في زمانهم سلام الله عليهم وبعد زمانهم. وإذا أردنا اليوم أن نحتج على الغير حول صحة إمامة الأئمة الإثني عشر سلام الله عليهم فلا يكفي ذكر هذه المعاجز لأن دليلها ليس يقينياً وما من سبيل ليصدقها الآخرون، فمروياتها لا تصل لدرجة القطع إن عرضناها للغير. أما إن عرضناها أمام من هو مؤمن أصلاً بهم سلام الله عليهم فالأمر هيِّن، لأنه يمكن الوثوق إجمالاً بصدور بعض المعاجز عنهم سلام الله عليهم.

ومِن هذا كله نستخلص أن الاحتجاج بالمعاجز على الولاية التكوينية ضعيف لعدم وضوح أمر هذه المعاجز بما يكفي، وهذا يُنتج أن ما يمكن الاستدلال به من المعاجز هو عدد محدود إجمالي غير تفصيلي. أي سوف نقطع بصدور بعض المعاجز إجمالاً لكننا لا نقطع بصدور معجزة معينة لأن أخبارها من الآحاد. وما دام المتيقَّن من المعاجز إجمالياً فلا نعرف خصوصيته بالضبط لأن المعاجز المروية مختلفة الخصوصيات والكيفيات. لذا لا يمكن الاستدلال منها على الولاية التكوينية الشاملة. وبتوضيح أكثر فإن بعض المعاجز كانت بصيغة الدعاء، وبعضها يمكن عدّه تسخيراً من الله تعالى لبعض المواد والقوانين الطبيعية بما يخالف المتعارف عند الناس لأجل المعصوم سلام الله عليه، وبعضها يمكن عدّه إعمالاً لقدرة خاصة منحها الله تعالى للمعصوم سلام الله عليه، أي ولاية تكوينية محدودة. لذا لا يمكن البت بأن ما صدر هو نتيجة الولاية التكوينية لأننا لا نعلم بالضبط من أي صنف صدرت المعاجز. وحتى لو جزمنا بتنوعها وأنّ بعضَ ما صدر إنما هو نتيجة ولاية تكوينية، فهي محدودة قطعاً ولا تدل على وجود ولاية أوسع منها تشمل القدرة على التصرف بكل الكون.

 

التعارض بين روايات الولاية التكوينية وبين القرآن الكريم وبقية الروايات

لو أصرّ البعض على فهم الولاية التكوينية من بعض الروايات فعليه أن يتدبر في كتاب الله تعالى مما ذكرناه من الآيات ومما لم نذكره ليرى التعارض بين القرآن المجيد ودلالة هذه الأحاديث على الولاية التكوينية الشاملة، وكذلك تعارضها مع ما تكاثر وروده عن أهل البيت صلوات الله عليهم بما ينفي هذه الولاية المدعاة من حيث فقرهم وعجزهم الفعليين لا الذاتيين فحسب. وقد بلغت هذه الروايات من الكثرة حداً يفيد القطع بأن هذا هو اعتقادهم الذي يمثل واقعهم، وهو موافق لكتاب الله تعالى، كما في مختلَف أدعيتهم صلوات الله عليهم مثل دعاء الإمام الحسين سلام الله عليه يوم عرفة الذي جاء فيه: ﴿وَلَم تَجعَل إلَيَّ شَيئاً مِن أمري﴾، ودعاء الإمام زين العابدين سلام الله عليه في الصحيفة السجادية إذا عرضت له مهمة أو نزلت به ملمّة: ﴿فَقَد ضِقتُ لِما نَزَلَ بِي يا رَبِّ ذَرعاً، وَامتَلأتُ بِحَملِ ما حَدَثَ عَلَيَّ هَمّاً، وَأَنتَ القادِرُ عَلَى كَشفِ ما مُنِيتُ بِهِ، وَدَفعِ ما وَقَعتُ فِيهِ، فَافعَل بِي ذَلِكَ وَإِن لَم أَستَوجِبْهُ مِنكَ﴾، وكذلك في دعائه سلام الله عليه  إذا حزنه أمر وأهمته الخطايا: ﴿وَمَن يُقَوِّينِي وَأَنتَ أَضعَفتَنِي﴾ و ﴿وَأَعتَرِفُ بِضَعفِ قُوَّتِي وَقِلَّةِ حِيلَتِي، فَأَنجِز لِي ما وَعَدتَنِي، وَتَمِّم لِي ما آتَيتَنِي، فَإِنِّي عَبدُكَ المِسكِينُ المُستَكِينُ الضَّعِيفُ الضَّرِيرُ الحَقِيرُ المَهِينُ الفَقِيرُ الخائِفُ المُستَجِيرُ﴾، وغير هذا كثير جداً في كلامهم صلوات الله عليهم، والذي يدل على فقرهم الفعلي بخلاف الولاية التكوينية التي تعني غنىً حقيقياً فعلياً. وقد ذكرنا بعضه في طيّات هذا الكتاب، خاصة ما ذكرناه تحت عنوان "سنة أهل البيت صلوات الله عليهم المؤكدة لعبوديتهم".

وكشاهد أيضاً هو ما عَن الصادق سلام الله عليه: ﴿إِنَّ جَبرَئِيلَ عليه السّلام أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله فَخَيَّرَه وأَشارَ عَلَيه بِالتَّواضُعِ، وكانَ لَه ناصِحاً، فَكانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله يَأكُلُ إِكلَةَ العَبدِ ويَجلِسُ جلسَةَ العَبدِ تَواضُعاً لله تَبارَكَ وتَعالَى. ثُمَّ أَتاه عِندَ المَوتِ بِمَفاتِيحِ خَزائِنِ الدُّنيا، فَقالَ هَذِه مَفاتِيحُ خَزائِنِ الدُّنيا بَعَثَ بِها إِلَيكَ رَبُّكَ لِيَكُونَ لَكَ ما أَقَلَّتِ الأَرضُ مِن غَيرِ أَن يَنقُصَكَ شَيئاً، فَقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله: فِي الرَّفِيقِ الأَعلَى﴾[4]. وبناءً على قول مدّعي الولاية التكوينية والتفويض فإن النبي صلى الله عليه وآله عنده خزائن الدنيا والآخرة فضلاً عن مفاتيحها أوْ له صلاحية التصرف فيها لأن له الولاية على ما دون الله تعالى، بينما هذه الرواية الشريفة تؤكد عدم امتلاكه هكذا خزائن أو مفاتيح، والولاية التكوينية إن لم تَعنِ امتلاكه لهذه الخزائن فهي على الأقل تعني امتلاكه لمفاتيحها. وهو صلى الله عليه وآله لم يُرِد هكذا مفاتيح.

وكذلك ما في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين سلام الله عليه من خطبة له في ذكر النبي صلى الله عليه وآله: ﴿قَد حَقَّرَ الدُّنيا وصَغَّرَها، وأَهوَنَ بِها وهَوَّنَها، وعَلِمَ أَنَّ الله زَواها عَنه اختِياراً، وبَسَطَها لِغَيرِه احتِقاراً، فَأَعرَضَ عَنِ الدُّنيا بِقَلبِه، وأَماتَ ذِكرَها عَن نَفسِه، وأَحَبَّ أَن تَغِيبَ زِينَتُها عَن عَينِه، لِكَيلا يَتَّخِذَ مِنها رِياشاً، أَو يَرجُوَ فِيها مَقاماً﴾. وهنا يلاحظ قوله: ﴿وعَلِمَ أَنَّ الله زَواها عَنه اختِياراً﴾، فإن الله تعالى لم يملكه زمام الدنيا والولاية عليها.

وأيضاً هذه الرواية الشريفة التي تبين أن هنالك أموراً لا قِبَل لهم بها صلوات الله عليهم، فلو كانت لهم ولاية تكوينية لن يقف شيء في الكون أمامهم. والرواية هي عَن عَبدِ الله بنِ عَبدِ الرَّحمنِ عَن الإمام الباقر سلام الله عليه، قالَ: قالَ لِي: ﴿ألا أُعَلِّمُكَ دُعاءً تَدعُو بِه، إِنّا أَهلَ البَيتِ إِذا كَرَبَنا أَمرٌ وتَخَوَّفنا مِنَ السُّلطانِ أَمراً لا قِبَلَ لَنا بِه نَدعُو بِه﴾، قُلتُ بَلَى بِأَبِي أَنتَ وأُمِّي يا ابنَ رَسُولِ الله. قالَ: ﴿قُل: يا كائِناً قَبلَ كُلِّ شَيءٍ ويا مُكَوِّنَ كُلِّ شَيءٍ ويا باقِي بَعدَ كُلِّ شَيءٍ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وافعَل بِي كَذا وكَذا﴾[5].

أما ما ورد في الخطبة المعروفة بالقاصعة الواردة في حق الأنبياء سلام الله عليهم وما كانت عليه سيرتهم فلم يقتصر أمير المؤمنين سلام الله عليه على بيان فقرهم التكويني سلام الله عليه، بل بيّن الحكمة في ذلك. وهذا يصلح للرد على مدّعي الولاية التكوينية، حيث قال سلام الله عليه: ﴿ولَو أَرادَ الله سُبحانَه لأَنبِيائِه حَيثُ بَعَثَهُم أَن يَفتَحَ لَهُم كُنُوزَ الذِّهبانِ ومَعادِنَ العِقيانِ ومَغارِسَ الجِنانِ وأَن يَحشُرَ مَعَهُم طُيُورَ السَّماءِ ووُحُوشَ الأَرَضِينَ لَفَعَلَ. ولَو فَعَلَ لَسَقَطَ البَلاءُ وبَطَلَ الجَزاءُ واضمَحَلَّتِ الأَنباءُ، ولَما وَجَبَ لِلقابِلِينَ أُجُورُ المُبتَلَينَ، ولا استَحَقَّ المُؤمِنُونَ ثَوابَ المُحسِنِينَ، ولا لَزِمَتِ الأَسماءُ مَعانِيَها. ولَكِنَّ الله سُبحانَه جَعَلَ رُسُلَه أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزائِمِهِم، وضَعَفَةً فِيما تَرَى الأَعيُنُ مِن حالاتِهِم، مَعَ قَناعَةٍ تَملأُ القُلُوبَ والعُيُونَ غِنًى، وخَصاصَةٍ تَملأُ الأَبصارَ والأَسماعَ أَذًى. ولَو كانَتِ الأَنبِياءُ أَهلَ قُوَّةٍ لا تُرامُ، وعِزَّةٍ لا تُضامُ، ومُلكٍ تُمَدُّ نَحوَه أَعناقُ الرِّجالِ، وتُشَدُّ إِلَيه عُقَدُ الرِّحالِ، لَكانَ ذَلِكَ أَهوَنَ عَلَى الخَلقِ فِي الاعتِبارِ، وأَبعَدَ لَهُم فِي الاستِكبارِ، ولآمَنُوا عَن رَهبَةٍ قاهِرَةٍ لَهُم أَو رَغبَةٍ مائِلَةٍ بِهِم، فَكانَتِ النِّيّاتُ مُشتَرَكَةً والحَسَناتُ مُقتَسَمَةً. ولَكِنَّ الله سُبحانَه أَرادَ أَن يَكُونَ الاتِّباعُ لِرُسُلِه والتَّصدِيقُ بِكُتُبِه والخُشُوعُ لِوَجهِه والاستِكانَةُ لأَمرِه والاستِسلامُ لِطاعَتِه أُمُوراً لَه خاصَّةً لا تَشُوبُها مِن غَيرِها شائِبَةٌ. وكُلَّما كانَتِ البَلوَى والاختِبارُ أَعظَمَ كانَتِ المَثُوبَةُ والجَزاءُ أَجزَلَ﴾.

ولو قيل في شأن هذه الخطبة وغيرها أن هذا لا يدل على عدم قدرتهم الحقيقية بل يدل على ظاهر حالهم فقط لقلنا إن الحكمة المذكورة فيها كافية للرد على هذا. ويضاف له أن هذه القدرة والولاية الشاملة المدّعاة لا يعلمها الأنبياء سلام الله عليهم ولا أقوامهم الذين استضعفوهم كقوم لوط سلام الله عليه الذي قال: {لَو أَنَّ لِي بِكُم قُوَّةً أَو آوِي إِلَى رُكنٍ شَدِيدٍ} [سورة هود ع: 80]، فلو كانت له ولاية تكوينية لَما قال هذا. ولو كان أولو العزم أو غيرهم من الأنبياء سلام الله عليهم جميعاً يمتلكون الولاية التكوينية لما قال موسى سلام الله عليه شاكياً إلى الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لا أَملِكُ إِلّا نَفسِي وَأَخِي فَافرُق بَينَنا وَبَينَ القَومِ الفاسِقِينَ} [سورة المائدة: 25] بعد قول قومه له: {فَاذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنّا هَاهُنا قاعِدُونَ} [سورة المائدة: 24] لأن صاحب هذه الولاية يملك كل شيء وليس نفسه وأخاه فقط ولأنه يستطيع أن يفعل ما يشاء بلا لجوء للدعاء.

ولو تنزلنا وقلنا بوجود الولاية التكوينية عند الأنبياء سلام الله عليهم حتى مع عدم استعمالهم لها وعدم علم أقوامهم بها فهل يبقى لها إلا وجود نظري رغم أن المفروض أنها فكرة عملية تنفع العِباد من الإنس والجن؟ وهذا يؤكد أن هذه الدعوى غير واقعية وتعارض القرآن الكريم، خاصة سير الأنبياء سلام الله عليهم الواردة فيه. ولو قال البعض إن الأنبياء سلام الله عليه لا يملكون هذه الولاية التكوينية الشاملة وإنما يملكها أهل البيت صلوات الله عليهم فقط، قلنا إن المفروض أن الزمان لا يشكل حاجزاً أمام هذه الولاية التكوينية، أي إن ولاية أهل البيت صلوات الله عليهم لا يحدّها الزمان، ويمكن إعمالها في أي زمان ماضٍ أو حاضر أو آت. والمفروض أن لوطاً سلام الله عليه يعلم بها، ومع هذا ارتجى أن يكون له قوة أو يأوي إلى ركن شديد. وهذا يكشف وهم الولاية التكوينية الشاملة.

ومما يؤيد قولنا ما ورد عن أمير المؤمنين سلام الله عليه بعد ذكره لإبراهيم سلام الله عليه: ﴿ولي بابن خالته لوط أسوة إذ قال لقومه: {لَو أَنَّ لِي بِكُم قُوَّةً أَو آوِي إِلَى رُكنٍ شَدِيدٍ}، فإن قلتم: إن لوطاً كانت له بهم قوة فقد كفرتم، وإن قلتم لم يكن له قوة فالوصي أعذر﴾[6]. ومَن له ولاية تكوينية تكون له كل القوة. وعن الباقر سلام الله عليه: ﴿فما بال أمير المؤمنين عليه السلام قعد عن حقه حيث لم يجد ناصراً، أو لم تسمع الله تعالى يقول في قصة لوط: {قال لَو أَنَّ لِي بِكُم قُوَّةً أَو آوِي إِلَى رُكنٍ شَدِيدٍ}، ويقول في حكاية عن نوح: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}، ويقول في قصة موسى: {رَبِّ إِنِّي لا أَملِكُ إِلّا نَفسِي وَأَخِي فَافرُق بَينَنا وَبَينَ القَومِ الفاسِقِينَ}. فإذا كان النبي هكذا فالوصي أعذر﴾[7].

 

استعمال الرُسل سلام الله عليهم للولاية التكوينية

إن أولى الخلق بامتلاك الولاية التكوينية هم الرسل سلام الله عليهم لغرض إقناع الناس بصدق رسالتهم، ولكن مع هذا لم نجد في القرآن الكريم مورداً استعمل فيه الرسل ما يمكن أن نقول أنه ولاية تكوينية - ولو جزئية - إلا في بعض معجزات عيسى سلام الله عليه كما في قول الله تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسرائِيلَ أَنِّي قَد جِئتُكُم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُم أَنِّي أَخلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيراً بِإِذنِ اللَّهِ وَأُبرِئُ الأَكمَهَ وَالأَبرَصَ وَأُحيِي المَوتَى بِإِذنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِما تَأكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُم إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُم إِنْ كُنتُم مُؤمِنِينَ} [سورة آل عمران: 49]، لأن ظاهر الآية الكريمة أن معجزة خلق الطير وإحياء الموتى حدثت بفعله سلام الله عليه مباشرة. وهما معجزتان محدودتان زماناً ومكاناً وقدرة، ولا يمكن الاستفادة منهما كدليل على ولاية شاملة. ويمكن القول أيضاً أن جريان الريح فقط كان بأمر سليمان سلام الله عليه، بينما تسخيرها له كان من الله تعالى، قال سبحانه: {فَسَخَّرنا لَهُ الرِّيحَ تَجرِي بِأَمرِهِ رُخاءً حَيثُ أَصابَ} [سورة ص: 36]. هذا وقد أنكر بعض علمائنا أن معجزات عيسى حدثت بفعله سلام الله عليه وإنما هي فعل الله سبحانه كما سيأتي قريباً نقل أقوال بعضهم بإذن الله تعالى.

أما تليين الحديد لداوود سلام الله عليه: {وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ} [سورة سبأ: 10] فهو فعل الله تعالى، وهذا لا يُعد ولاية تكوينية بالمعنى الذي يريده القوم.

وما فعله الذي عنده علم من الكتاب الذي أتى بعرش ملكة سبأ كما قال تعالى: {قالَ الَّذِي عِندَهُ عِلمٌ مِنَ الكِتابِ أَنا آتِيكَ بِهِ قَبلَ أَنْ يَرتَدَّ إِلَيكَ طَرفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُستَقِرّاً عِندَهُ قالَ هَذا مِن فَضلِ رَبِّي لِيَبلُوَنِي أَأَشكُرُ أَم أَكفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّما يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [سورة ص: 40]، فغير معلوم كيف أحضره حتى نقول إنه وفق ولاية تكوينية ما أو ليس كذلك، فقد قال السيد الطباطبائي: (ولم يرد في لفظ الآية نبأ من هذا الاسم الذي ذكروه بل الذي تتضمنه الآية أنه كان عنده علم من الكتاب، وأنه قال: أنا آتيك به، ومن المعلوم مع ذلك أن الفعل فعل الله حقيقة، وبذلك كله يتحصل أنه كان له من العلم بالله والارتباط به ما إذا سأل ربه شيئاً بالتوجه إليه لم يتخلف عن الاستجابة)[8]. وكلام السيد هذا ينفي الولاية التكوينية للذي أتى بعرش الملكة لأن الإتيان كان فعل الله حقيقة.

ومما يجدر ذكره أن مؤيدي الولاية التكوينية لا يستطيعون أن يثبتوا لنا - على نحو اليقين - معجزة تكوينية واحدة لإمام زماننا سلام الله عليه، ولذلك لا نعلم ما هي فائدة هذه الولاية لنا. بل ورد عنه عجل الله فرجه الشريف ما ينفي هذا كما روى الشيخ الطوسي: (اختلف جماعة من الشيعة في أن الله عزّ وجلّ فوّض إلى الأئمة صلوات الله عليهم أن يخلقوا أو يرزقوا، فقال قوم هذا محال لا يجوز على الله تعالى، لأن الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله عزّ وجلّ، وقال آخرون بل الله تعالى أقدَرَ الأئمة على ذلك وفوّضه إليهم فخلقوا ورزقوا. وتنازعوا في ذلك تنازعاً شديداً. فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمد بن عثمان العمري فتسألونه عن ذلك فيوضح لكم الحق فيه، فإنه الطريق إلى صاحب الأمر عجل الله فرجه، فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلّمت وأجابت إلى قوله، فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته توقيعٌ نُسختُه: ﴿إن الله تعالى هو الذي خلق الأجسام وقسّم الأرزاق، لأنه ليس بجسم ولا حال في جسم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأما الأئمة عليهم السلام فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق ويسألونه فيرزق، إيجاباً لمسألتهم وإعظاماً لحقهم﴾)[9].

أقوال علمائنا في رفض الولاية التكوينية

تبين مما سطرناه ضعف الأدلة المزعومة على الولاية التكوينية ومعارضتها للقرآن الكريم، ويضاف لهذا سكوت أجلة علمائنا المتقدمين الذين كتبوا في العقائد عن القول بها رغم استقصائهم لمختلف المسائل العقائدية ورغم أهميتها البالغة لو كانت ثابتة، بل يظهر من بعض عباراتهم عدم ثبوتها. ومن اعتقد ثبوتها بعد ذلك هو بعض العلماء وليس كلهم، وخاصة من عُرفوا بالغلو والتأثر بفكر ابن عربي كرجب البرسي وحيدر الآملي وملا صدرا، ثم تبعهم غيرهم على هذا. كما إن مصطلح "الولاية التكوينية" لم يؤْثَر عن أئمة الهدى سلام الله عليهم ولا عن علمائنا المتقدمين، ولم يُعرف إلا في القرن الرابع عشر الهجري على يد الشيخين النائيني المتوفى سنة 1355ﻫ والاصفهاني المتوفى سنة 1361ﻫ [10].

ومن الأمثلة على رفض فكرة الولاية التكوينية لأهل البيت صلوات الله عليهم من قبل علمائنا المتقدمين والمتأخرين ما يلي:

  1. قال الشيخ المفيد: (المعجز فعل الله تعالى، وهو قائم مقام التصديق. ومن صدقه الله تعالى فهو صادق لاستحالة أن يصدق الله الكذاب)[11]. وهذا القول ينفي أن يكون ما ظهر من معاجز على يد الأنبياء سلام الله عليهم بقدرتهم، وإنما هو من فعل الله تعالى، وهذا يعني عدم امتلاكهم لولاية تكوينية على فعل المعاجز التي هي من أجلى مصاديق الولاية التكوينية.

وقال أيضاً: (فالموت هو يضاد الحياة، يبطل معه النمو ويستحيل معه الاحساس، وهو محل الحياة فينفيها، وهو من فعل الله تعالى، وليس لأحد فيه صنع، ولا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى)[12]. وهذا القول واضح بعدم قدرة أحد غير الله سبحانه على الإماتة بخلاف قول مدعي الولاية التكوينية الشاملة.

  1. ذكر السيد المرتضى: (والقديم تعالى هو المختص بالقدرة على الاعجاز والاقدار)[13].
  2. قال الشيخ الطوسي: (والدليل على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله: لأنه ادّعى النبوة وظهر المعجز على يده، والمعجز فعل الله تعالى، فيكون نبياً حقاً ورسولاً صدقاً)[14].

وقال أيضاً: (ويعلم أيضاً عند ذلك صحة النبوات، لأن النبي إذا أدعى النبوة وظهر على يده علم معجز يعجز عن فعله جميع المحدثين علم أنه من فعل الله، ولولا صدقه لما فعله، لأن تصديق الكذاب لا يحسن)[15].

  1. قال الشيخ الكراجكي: (وان جميع حجج الله تعالى محيطون علماً بجميع ما يفتقر إليهم فيه العباد، وانهم معصومون من الخطأ والزلل عصمة اختيار، وان الله فضلهم على خلقه، وجعلهم خلفاء القائمين بحقه. وانه أظهر على أيديهم المعجزات تصديقاً لهم فيما ادعوه من الانباء والاخبار، وانهم مع ذلك بأجمعهم عباد مخلوقون وبشر مكلفون، يأكلون ويشربون ويتناسلون ويحيون بإحيائه ويموتون بإماتته، تجوز عليهم الآلام المعترضات. فمنهم من قُتل ومنهم من مات، لا يقدرون على خلق ولا رزق، ولا يعلمون الغيب الا ما أعلمهم إلٰه الخلق، وان أقوالهم صدق وجميع ما أتوا به حق)[16]، ثم قال: (وانه سبحانه أظهر على أيديهم الآيات، وأعلمهم كثيراً من الغائبات والأمور المستقبلات، ولم يعطهم من ذلك إلا ما قارن وجهاً يعمله من اللطف والصلاح. وليسوا عارفين بجميع الضمائر والغائبات على الدوام، ولا يحيطون العلم بكل ما علمه الله تعالى. والآيات التي تظهر على أيديهم هي فعل الله دونهم، أكرمهم بها ولا صنع لهم فيها. وانهم بشر محدثون وعباد مصنوعون لا يخلقون ولا يرزقون، ويأكلون ويشربون، وتكون لهم الأزواج وتنالهم الآلام والأعلال ويُستضامون ويخافون فيتقون، وإن منهم من قُتل ومنهم من قُبض).
  2. ذكر الشيخ الطبرسي: (وإنما وصل قوله: {بِإِذنِ اللهِ} بقوله: {فَيَكُونُ طَيراً} دون ما قبله، لأن تصور الطين على هيئة الطير، والنفخ فيه، مما يدخل تحت مقدور العباد. فأما جعل الطين طيراً حتى يكون لحماً ودماً، وخلق الحياة فيه، فمما لا يقدر عليه غير الله، فقال: {بِإِذنِ اللهِ} ليعلم أنه من فعله تعالى، وليس بفعل عيسى)[17].
  3. قال السيد الخوئي عند كلامه عن الغلاة: (ومنهم من ينسب إليه الاعتراف بألوهيته سبحانه إلا أنّه يعتقد أنّ الأُمور الراجعة إلى التشريع والتكوين كلها بيد أمير المؤمنين أو أحدهم عليهم السلام، فيرى أنّه المحيي والمميت وأنّه الخالق والرازق وأنّه الذي أيّد الأنبياء السالفين سرّاً وأيّد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله جهراً. واعتقادهم هذا وإن كان باطلاً واقعاً وعلى خلاف الواقع حقاً، حيث إنّ الكتاب العزيز يدل على أن الأُمور الراجعة إلى التكوين والتشريع كلَّها بيد الله سبحانه، إلا أنّه ليس مما له موضوعية في الحكم بكفر الملتزم به. نعم، الاعتقاد بذلك عقيدة التفويض لأنّ معناه أنّ الله سبحانه كبعض السلاطين والملوك قد عزل نفسه عما يرجع إلى تدبير مملكته وفوّض الأمور الراجعة إليها إلى أحد وزرائه، وهذا كثيراً ما يتراءى في الأشعار المنظومة بالعربية أو الفارسية، حيث ترى أن الشاعر يسند إلى أمير المؤمنين عليه السلام بعضاً من هذه الأُمور. وعليه فهذا الاعتقاد إنكار للضروري، فإنّ الأُمور الراجعة إلى التكوين والتشريع مختصّة بذات الواجب تعالى)[18].

وقال أيضاً "كما نقلناه سابقاً": (ومضمون التوقيع الذي أوله "اللهم إني أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك"، غريب من أذهان المتشرعة وغير قابل للاذعان بصدوره عن المعصوم عليه السلام)[19]. فهذا التوقيع فيه عبارة يَستدل بها البعض على الولاية التكوينية وهي: (لا فَرقَ بَينَكَ وَبَينَها إلا أَنَّهُم عِبادُكَ وَخَلقُكَ).

  1. قال السيد الخميني: (وجعلوا -أي العلماء- الكرامات والمعجزات من قبيل استجابة الدعاء وأن الحق سبحانه هو الفاعل لكل هذه الأمور)[20].

وهذا الكلام يعني أن علمائنا لا يعتقدون بالولاية التكوينية لأنها تعني أن الكرامات والمعجزات هي فعل المعصوم سلام الله عليه المباشر وليس عن طريق الدعاء.

  1. ذكر السيد محمد باقر الصدر أن نسبة الخلق والإحياء والإماتة[21] ونحو ذلك من أنحاء التدبير الغيبي لهذا العالم إلى أحد من الناس هو إنكار لضروري الدين[22].
  2. قال السيد كاظم الحائري: (أما لو أراد القائلون بالولاية التكوينية أن المعصوم عليه السلام يتمكن دائماً أن يفعل ما يريد، أي: لا يعجز عن أي شيء، فهذا خلاف صريح القرآن)[23].

ومما يؤسف له أن البعض تطرّف واتّهمَ من لا يؤمن بالولاية التكوينية بأنه منكر للضروري، فقد سُئل: (هل الإيمان بالولاية التكوينية للمعصوم عليه السلام دخيل في تحقيق سلامة الاعتقاد وبالتالي العدالة؟) فأجاب: (ثبوت الولاية التكوينيّة للمعصومين عليهم السلام من الضروريّات، ومنكرها منكر للضروريّ)[24]. ويبدو أنه يقصد ضروري المذهب. وحينئذ لا أدري كيف تحققت هذه الضرورة رغم ضعف أدلتها، ومعارضتها للقرآن المجيد وأقوال علماء الطائفة.

لذا هل يمكن القول بأن العلماء كالمفيد والمرتضى والطوسي منكرون لضروري من ضروريات المذهب لأنهم لم يقروا بالولاية التكوينية؟ ومتى تم اكتشاف هذه الضرورة التي كانت خفية على أولئك الأجلّة؟ وكيف تُعد من ضروريات الدين والحال أن القائلين بها مختلفون في تعريفها وسعتها؟ فبعضهم أدرج حتى الدعاء الذي يُستجاب للمعصومين صلوات الله عليهم ضمنها، وكذلك تسخير الله لبعض الكائنات لأجل الدين أو المعصوم سلام الله عليه. والبعض خلط بين وساطة الفيض والتفويض وبين الولاية التكوينية. ولذا فبأي تعريف لها سيندرج منكر الضروري؟ وهل أصبح فقه مذهب أهل البيت صلوات الله عليهم بهذا الضعف المستند على ظنون لم تقم حجة عليها؟ وإذا بقي التعامل بهذا المنهج المتطرف الإقصائي القائم على الظنون فالنتيجة هي تشتت وتشرذم شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وتكثير العداء فيما بينهم لأن البعض سيُخرج الآخر من المذهب استناداً لهكذا أقوال.

ومن المفارقات أن السيد الخوئي الذي هو أستاذ هذا القائل قد ذكر نقيض هذا الكلام فيما سطرناه آنفاً من كلامه، حيث عدّ من يجعل ولاية التشريع والتكوين بيد أهل البيت صلوات الله عليهم منكراً للضروري، لأن الأُمور الراجعة إلى التكوين والتشريع مختصّة بالله تعالى. وكذا ما ذكره السيد الشهيد الصدر أعلاه.

ولملاحظة أين وصل بنا الحال مع البعض الذين ابتعدوا عن نهج كبار علمائنا ننقل هذا النص عن الشيخ مرتضى الأنصاري:

  1. (ويكفي في معرفة الأئمة صلوات الله عليهم: معرفتهم بنسبهم المعروف، والتصديق بأنهم أئمة يهدون بالحق، ويجب الانقياد إليهم والأخذ منهم. وفي وجوب الزائد على ما ذكر من عصمتهم الوجهان. وقد ورد في بعض الأخبار: تفسير معرفة حق الإمام عليه السلام بمعرفة كونه إماماً مفترض الطاعة)[25]، ثم قال: (وبالجملة: فالقول بأنه يكفي في الإيمان الاعتقاد بوجود الواجب الجامع للكمالات المنزه عن النقائص وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وبإمامة الأئمة عليهم السلام، والبراءة من أعدائهم والاعتقاد بالمعاد الجسماني الذي لا ينفك غالباً عن الاعتقادات السابقة، غير بعيد، بالنظر إلى الأخبار والسيرة المستمرة).

ومما يلاحظ في هذا النص عدم تعقيد الإيمان ولا وجود لوجوب الإيمان بالولاية التكوينية أو غيرها مما يدّعيه البعض اليوم. كما إن إنكار المقامات فوق البشرية لا دخل له بالإيمان بإمامة الأئمة صلوات الله عليهم، فالمطلوب هو الاعتقاد بأنهم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وأنهم مفترضو الطاعة وحجج الله علينا.

 


[1]) وهي الرواية الواردة في كتاب عيون أخبار الرضا ع، ج ١، ص ٢٧٢، ويقول فيها الإمام الرضا عليه السلام: ﴿يا ابن أبي محمود إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلوّ، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا. فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعداءنا بأسمائهم ثلبونا بأسماءنا، وقد قال الله عز وجل: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدواً بِغَيرِ عِلمٍ}﴾.

[2]) الشيعة والغلو، ص 520.

[3]( الكافي، ج ١، ص ٣٣٦.

[4]) الكافي، ج ٨، ص 131.

([5] الكافي، ج ٢، ص ٥٦٠.

[6]) علل الشرائع، ج ١، ص ١٤٩.

[7]) كفاية الأثر، ص ٢٤٧.

([8] تفسير الميزان، ج ١٥، ص ٣63.

[9]) الغَيبة، ص ٢٩٣. وأيضاً في الاحتجاج، ج 2، ص 284.

[10]) الولاية التكوينية بين القرآن والبرهان، ص 39، و "الشيعة والغلو" ص 480.

[11]) النكت الاعتقادية، ص ٣٧.

[12]) تصحيح اعتقادات الإمامية، ص ٩٤.

[13]) الذخيرة في علم الكلام، ص ٣٢٨.

[14]) الرسائل العشر، ص ١٠٥.

[15]) الاقتصاد، الشيخ الطوسي، ص ١٩.

[16]) كنز الفوائد، ص ١١٠.

[17]) تفسير مجمع البيان، ج ٢، ص ٢٩٨.

[18]) كتاب الطهارة من تقرير بحثه في شرح العروة الوثقى، ج ٣، ص 68.

[19]) معجم رجال الحديث، ج ٨، ص ٨٧.

[20]) الأربعون حديثاً، ضمن فصل في بيان معنى تفويض الأمر إلى رسول الله |.

[21]) هذه الأمور من فروع الولاية التكوينية.

[22]) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج ٣، ص 306.

[23]) الإمامة وقيادة المجتمع، ص 153.

[24]) أجوبة المسائل في الفكر والعقيدة والتاريخ والأخلاق، ج 2، ص ١٥٥.

[25]) فرائد الأصول، ج ١، ص 567.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مظفر الشريفي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/06/26



كتابة تعليق لموضوع : الولاية التكوينية المدّعاة لأهل البيت صلوات الله عليهم- ج2
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net