صفحة الكاتب : د . مظفر الشريفي

سنة أهل البيت صلوات الله عليهم المؤكدة لعبوديتهم
د . مظفر الشريفي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

سنة أهل البيت صلوات الله عليهم المؤكدة لعبوديتهم

 

 

[بحث مُستل من كتاب (بل عبادٌ مكرمون- دراسة قرآنية وحديثية في نقد الغلوّ) لكاتب المقال].

 

إن السنّة المطهرة لأهل البيت صلوات الله عليهم مليئة بما يؤكد بشريتهم، وأنهم عبادٌ لله تعالى يرجون رحمته ويخافون عذابه ويؤدّون ما وجب عليهم من فرائض كسائر المكلّفين. وفي أدعيتهم وباقي كلامهم وسيرتهم ما ينفي بوضوح ما يدّعيه البعض لهم من مقامات ربوبية كالولاية التكوينية على كل الخلق والتفويض التكويني الشامل. وفيما يلي نسرد بعض ما ورد من كلامهم وسيرتهم المؤكدة لعبوديتهم لله تعالى وأنهم لا يملكون شيئاً حتى لشيعتهم إلا بطاعة الله جلّ وعلا:

1- عَن الإمام الباقر سلام الله عليه: {حَسبُ الرَّجُلِ أَن يَقُولَ أُحِبُّ عَلِيّاً وأَتَوَلاه ثُمَّ لا يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ فَعّالاً. فَلَو قالَ إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ الله، فَرَسُولُ الله صلى الله عليه وآله خَيرٌ مِن عَلِيٍّ عليه السلام، ثُمَّ لا يَتَّبِعُ سِيرَتَه ولا يَعمَلُ بِسُنَّتِه ما نَفَعَه حُبُّه إِيّاه شَيئاً. فَاتَّقُوا الله واعمَلُوا لِما عِندَ الله، لَيسَ بَينَ الله وبَينَ أَحَدٍ قَرابَةٌ، أَحَبُّ العِبادِ إِلَى الله عزّ وجلّ وأَكرَمُهُم عَلَيه أَتقاهُم وأَعمَلُهُم بِطاعَتِه. يا جابِرُ والله ما يُتَقَرَّبُ إِلَى الله تَبارَكَ وتَعالَى إِلا بِالطّاعَةِ، وما مَعَنا بَراءَةٌ مِن النّارِ، ولا عَلَى الله لأَحَدٍ مِن حُجَّةٍ. مَنْ كانَ لله مُطِيعاً فَهُوَ لَنا وَلِيٌّ، ومَنْ كانَ للهِ عاصِياً فَهُوَ لَنا عَدُوٌّ، وما تُنالُ وَلايَتُنا إِلا بِالعَمَلِ والوَرَعِ}[1].

وقد علّق العلامة المجلسي على هذا الحديث بما يلي:

({لَيسَ بَينَ الله وبَينَ أَحَدٍ قَرابَةٌ} أي ليس بين الله وبين الشيعة قرابة حتى يسامحكم ولا يسامح مخالفيكم مع كونكم مشتركين معهم في مخالفته تعالى، أوْ ليس بينه وبين علي قرابة حتى يسامح شيعة علي ولا يسامح شيعة الرسول، والحاصل أن جهة القرب بين العبد وبين الله إنما هي بالطاعة والتقوى، ولذا صار أئمتكم أحب الخلق إلى الله. فلو لم تكن هذه الجهة فيكم لم ينفعكم شيء.

{وما مَعَنا بَراءَةٌ من النّارِ} أي ليس معنا صك وحكم ببراءتنا وبراءة شيعتنا من النار وإنْ عملوا بعمل الفجار.

{ولا عَلَى الله لأَحَدٍ مِنْ حُجَّة} أي ليس لأحد على الله حجة إذا لم يغفر له بأن يقول: كنت من شيعة علي فلِمَ لَمْ تغفر لي؟ لأن الله لم يحتم بغفران من ادعى التشيع بلا عمل، أو المعنى ليس لنا على الله حجة في إنقاذ من ادعى التشيع من العذاب. ويؤيده أن في مجالس ابن الشيخ: وما لنا على الله حجة.

{مَنْ كانَ لله مُطِيعاً} كأنه جواب عما يتوهم في هذا المقام أنهم عليهم السلام حكموا بأن شيعتهم وأولياءهم لا يدخلون النار، فأجاب عليه السلام بأن العاصي لله ليس بولي لنا ولا تُدرك ولايتنا إلا بالعمل بالطاعات والورع عن المعاصي)[2].

  1. عن الإمام الباقر سلام الله عليه: {يا مَعشَرَ الشِّيعَةِ، شِيعَةِ آلِ مُحَمَّدٍ، كُونُوا النُّمرُقَةَ الوُسطَى، يَرجِعُ إِلَيكُمُ الغالِي ويَلحَقُ بِكُمُ التّالِي}. فَقالَ لَه رَجُلٌ مِنَ الأَنصارِ يُقالُ لَه سَعدٌ جُعِلتُ فِداكَ ما الغالِي؟ قالَ: {قَومٌ يَقُولُونَ فِينا ما لا نَقُولُه فِي أَنفُسِنا، فَلَيسَ أُولٰئِكَ مِنّا ولَسنا مِنهُم}. قالَ فَما التّالِي؟ قالَ: {المُرتادُ يُرِيدُ الخَيرَ يُبَلِّغُه الخَيرَ يُؤجَرُ عَلَيه}. ثُمَّ أَقبَلَ عَلَينا فَقالَ: {واللهِ ما مَعَنا مِنَ اللهِ بَراءَةٌ، ولا بَينَنا وبَينَ اللهِ قَرابَةٌ، ولا لَنا عَلَى اللهِ حُجَّةٌ، ولا نَتَقَرَّبُ إِلَى الله إِلا بِالطّاعَةِ. فَمَن كانَ مِنكُم مُطِيعاً للهِ تَنفَعُه وَلايَتُنا، ومَن كانَ مِنكُم عاصِياً للهِ لَم تَنفَعه وَلايَتُنا. وَيحَكُم لا تَغتَرُّوا، وَيحَكُم لا تَغتَرُّوا}[3].

وقد علّق العلامة المجلسي على هذا الحديث بقوله: (وقيل: المراد أنه كما كانت الوسادة التي يتوسّد عليها الرجل إذا كانت رفيعة جداً أو خفيفة جداً لا تصلح للتوسّد بل لا بد لها من حد من الارتفاع والانخفاض، حتى يصلح لذلك، كذلك أنتم في دينكم وأئمتكم لا تكونوا غالين تجاوزون بهم عن مرتبتهم التي أقامهم الله عليها وجعلهم أهلاً لها، وهي الإمامة والوصاية النازلتان عن الألوهية والنبوة، كالنصارى الغالين في المسيح المعتقدين فيه الألوهية أو النبوة لآله، ولا تكونوا أيضا مقصرين فيهم تنزلونهم عن مرتبتهم وتجعلونهم كسائر الناس أو أنزل، كالمقصرين من اليهود في المسيح المنزلين له عن مرتبته، بل كونوا كالنمرقة الوسطى وهي المقتصدة للتوسّد {يَرجِعُ إِلَيكُمُ الغالِي ويَلحَقُ بِكُمُ التّالِي}.

قوله عليه السلام: {ما لا نَقُولُه فِي أَنفُسِنا} كالألوهيّة وكونهم خالقين للأشياء، والنبوة...

{ولا لَنا عَلَى الله حُجَّةٌ} أي بمحض قرابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من غير عمل لأنفسنا، ولا لتخليص شيعتنا)[4].

  1. عن الإمام الباقر سلام الله عليه: {يا خَيثَمَةُ أَبلِغْ مَوالِيَنا أَنّا لا نُغنِي عَنهُم مِنَ اللهِ شَيئاً إِلا بِعَمَلٍ، وأَنَّهُم لَن يَنالُوا وَلايَتَنا إِلا بِالوَرَعِ، وأَنَّ أَشَدَّ النّاسِ حَسرَةً يَومَ القِيامَةِ مَن وَصَفَ عَدلاً ثُمَّ خالَفَه إِلَى غَيرِه}[5].
  2. عَن أَحَد أَصحابِ أَبِي عَبدِ الله الصادق سلام الله عليه قالَ: خَرَجَ إِلَينا أَبُو عَبدِ الله عليه السلام وهُوَ مُغضَبٌ فَقالَ: {إِنِّي خَرَجتُ آنِفاً فِي حاجَةٍ فَتَعَرَّضَ لِي بَعضُ سُودانِ المَدِينَةِ، فَهَتَفَ بِي لَبَّيكَ يا جَعفَرُ بنَ مُحَمَّدٍ لَبَّيكَ، فَرَجَعتُ عَودِي عَلَى بَدئِي إِلَى مَنزِلِي خائِفاً ذَعِراً مِمّا قالَ، حَتَّى سَجَدتُ فِي مَسجِدِي لِرَبِّي وعَفَّرتُ لَه وَجهِي وذَلَّلتُ لَه نَفسِي وبَرِئتُ إِلَيه مِمّا هَتَفَ بِي. ولَو أَنَّ عِيسَى ابنَ مَريَمَ عَدا ما قالَ الله فِيه إِذاً لَصَمَّ صَمّاً لا يَسمَعُ بَعدَه أَبَداً وعَمِيَ عَمًى لا يُبصِرُ بَعدَه أَبَداً وخَرِسَ خَرساً لا يَتَكَلَّمُ بَعدَه أَبَداً}. ثُمَّ قالَ: {لَعَنَ الله أَبا الخَطّابِ وقَتَلَه بِالحَدِيدِ}[6].

وعلق العلامة المجلسي على هذا الحديث بقوله: (الظاهر أن هذا الكافر من أصحاب أبي الخطاب "محمد بن مقلاص الأسدي" وكان يعتقد ربوبيته عليه السلام كاعتقاد أبي الخطاب، فإنه أثبت ذلك له عليه السلام وادّعى النبوة من قبله عليه السلام على أهل الكوفة، فناداه عليه السلام هذا الكافر بما ينادي به الله في الحج وقال ذلك على هذا الوجه، فذعر من ذلك لعظيم ما نسب إليه وسجد لربه وبرأ نفسه عند الله مما قال ولعن أبا الخطاب لأنه كان مخترع هذا المذهب الفاسد)[7].

  1. عن مصادف، قال لما لبّى القوم الذين لبّوا بالكوفة (أي قالوا: لبّيك جعفر بن محمد لبّيك، كما يلبّون لله تعالى) دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فأخبرته بذلك، فخر ساجداً وألزق جؤجؤه بالأرض وبكى، وأقبل يلوذ بأصبعه ويقول: {بل عبدُ الله قنٌ داخر} مراراً كثيرة، ثم رفع رأسه ودموعه تسيل على لحيته، فندمت على أخباري إياه. فقلت: جعلت فداك وما عليك أنت من ذا؟ فقال: {يا مصادف ان عيسى لو سكت عما قالت النصارى فيه لكان حقاً على الله أن يصم سمعه ويعمي بصره، ولو سكتُّ عما قال فيّ أبو الخطاب لكان حقاً على الله أن يصمّ سمعي ويعمي بصري}[8].
  2. عَن الصادق سلام الله عليه: {ما بَعَثَ اللهُ نَبِيّاً حَتّى يَأخُذَ عَلَيهِ ثَلاثَ خِصالٍ: الإِقرارَ لَهُ بِالعُبُودِيَّةِ، وَخَلعَ الأَندادِ، وَأَنَّ اللهَ يُقَدِّمُ ما يَشاءُ وَيُؤَخِّرُ ما يَشاءُ}[9]،
  3. عَن الصادق سلام الله عليه: {إِنَّ جَبرَئِيلَ عليه السّلام أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله فَخَيَّرَه وأَشارَ عَلَيه بِالتَّواضُعِ وكانَ لَه ناصِحاً، فَكانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله يَأكُلُ إِكلَةَ العَبدِ ويَجلِسُ جلسَةَ العَبدِ تَواضُعاً لله تَبارَكَ وتَعالَى}[10].
  4. عَن الصادق سلام الله عليه: {إِنَّ الله اتَّخَذَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله عَبداً قَبلَ أَن يَتَّخِذَه نَبِيّاً، وإِنَّ عَلِيّاً عليه السلام كانَ عَبداً ناصِحاً للهِ عَزَّ وجَلَّ فَنَصَحَه، وأَحَبَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ فَأَحَبَّه}[11].
  5. عن بُرَيد بن معاوية عَن الباقر والصادق سلام الله عليهما قالَ: قُلتُ لَه ما مَنزِلَتُكُم ومَن تُشبِهُونَ مِمَّن مَضَى قالَ: {صاحِبُ مُوسَى وذُو القَرنَينِ كانا عالِمَينِ ولَم يَكُونا نَبِيَّينِ}[12].
  6. عَن مُحَمَّدِ بنِ مارِدٍ قالَ قُلتُ لأَبِي عَبدِ الله عليه السلام: حَدِيثٌ رُوِيَ لَنا أَنَّكَ قُلتَ إِذا عَرَفتَ فَاعمَل ما شِئتَ. فَقالَ: {قَد قُلتُ ذَلِكَ}، قالَ قُلتُ وإِنْ زَنَوا أَو سَرَقُوا أَو شَرِبُوا الخَمرَ؟ فَقالَ لِي: {إِنّا لله وإِنّا إِلَيه راجِعُونَ، والله ما أَنصَفُونا أَن نَكُونَ أُخِذنا بِالعَمَلِ ووُضِعَ عَنهُم. إِنَّما قُلتُ إِذا عَرَفتَ فَاعمَل ما شِئتَ مِن قَلِيلِ الخَيرِ وكَثِيرِه فَإِنَّه يُقبَلُ مِنكَ}[13].
  7. روي أن المأمون قال للإمام الرضا سلام الله عليه: يا أبا الحسن بلَغَني أن قوماً يَغْلُون فيكم ويتجاوزون فيكم الحد، فقال الرضا عليه السلام: {حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا ترفعوني فوق حقي فإن الله تبارك تعالى اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً، قال الله تبارك وتعالى: {ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤتِيَهُ اللهُ الكِتابَ وَالحُكمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنتُم تُعَلِّمُونَ الكِتابَ وَبِما كُنتُم تَدرُسُونَ * وَلا يَأمُرَكُم أَنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرباباً أَيَأمُرُكُم بِالكُفرِ بَعدَ إِذْ أَنتُم مُسلِمُونَ}. قال علي عليه السلام: يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي: محب مفرط ومبغض مفرط، وأنا أبرء إلى الله تبارك وتعالى ممن يغلو فينا ويرفعنا فوق حدِّنا كبراءة عيسى بن مريم عليه السلام من النصارى، قال الله تعالى: {وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابنَ مَريَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَينِ مِن دُونِ اللهِ قالَ سُبحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَن أَقُولَ ما لَيسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلتُهُ فَقَد عَلِمتَهُ تَعلَمُ ما فِي نَفسِي وَلا أَعلَمُ ما فِي نَفسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلامُ الغُيُوبِ * ما قُلتُ لَهُم إِلا ما أَمَرتَنِي بِهِ أَنِ اعبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُم وَكُنتُ عَلَيهِم شَهِيداً ما دُمتُ فِيهِم فَلَمّا تَوَفَّيتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيهِم وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ} وقال عزّ وجلّ: {لَنْ يَستَنكِفَ المَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبداً للهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ}، وقال عزّ وجلّ: {ما المَسِيحُ ابنُ مَريَمَ إِلا رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأكُلانِ الطَّعامَ}، ومعناه إنهما كانا يتغوطان. فمن ادّعى للأنبياء ربوبية وادّعى للأئمة ربوبية أو نبوة أو لغير الأئمة إمامة فنحن منه براء في الدنيا والآخرة}[14].
  8. عن أبي الدرداء: أَعبَدُ النّاسِ عَلِيُّ بنُ أَبِي طالِبٍ، سَمِعتُهُ قائِلاً بِصَوتٍ حَزِينٍ وَنَغمَةٍ شَجِيَّةٍ فِي مَوضِعٍ خالٍ: {إِلهِي كَم مِن مُوبِقَةٍ حَلَمْتَها عَنِّي فَقابَلتَها بِنِعمَتِكَ، وَكَم مِن جَرِيرَةٍ تَكَرَّمتَ عَلَيَّ بِكَشفِها بِكَرَمِكَ، إِلَهِي إِنْ طالَ فِي عِصيانِكَ عُمُرِي وَعَظُمَ فِي الصُّحُفِ ذَنبِي فَما أَنَا مُؤَمِّلٌ غَيرَ غُفرانِكَ، وَلا أَنَا بِراجٍ غَيرَ رِضوانِكَ}، ثُمَّ رَكَعَ رَكَعاتٍ فَأَخَذَ فِي الدُّعاءِ وَالبُكاءِ، فَمِن مُناجاتِهِ: {إِلَهِي أُفَكِّرُ فِي عَفوِكَ فَتَهُونُ عَلَيَّ خَطِيئَتِي، ثُمَّ أَذكُرُ العَظِيمَ مِن أَخذِكَ فَيَعظُمُ عَلَيَّ بَلِيَّتِي}، ثُمَّ قالَ: {آهِ إِنْ أَنَا قَرَأتُ فِي الصُّحُفِ سَيِّئَةً أَنَا ناسِيها وَأَنتَ مُحصِيها، فَتَقُولُ خُذُوهُ، فَيا لَهُ مِن مَأخُوذٍ لا تُنجِيهِ عَشِيرَتُهُ، وَلا تَنفَعُهُ قَبِيلَتُهُ، يَرحَمُهُمُ المَلأُ إِذا أُذِنَ فِيهِ بِالنِّداءِ. آهِ مِن نارٍ تُنضِجُ الأَكبادَ وَالكُلَى، آهِ مِن نارٍ نَزّاعَةٍ لِلشَّوَى، آهِ مِن غَمرَةٍ مِن مُلهِباتِ لَظَى}، ثُمَّ أَنعَمَ عليه السلام فِي البُكاءِ فَلَم أَسمَع لَهُ حِسّاً، فَقُلتُ غَلَبَ عَلَيهِ النَّومُ أُوقِظُهُ لِصَلاةِ الفَجرِ، فَأَتَيتُهُ فَإِذا هُوَ كَالخَشَبَةِ المُلقاةِ، فَحَرَّكتُهُ فَلَم يَتَحَرَّك، فَقُلتُ إِنّا للهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعُونَ، ماتَ وَاللهِ عَلِيُّ بنُ أَبِي طالِبٍ، قالَ فَأَتَيتُ مَنزِلَهُ مُبادِراً أَنعاهُ إِلَيهِم، فَقالَت فاطِمَةُ عليها السلام: {ما كانَ مِن شَأنِهِ؟} فَأَخبَرتُها فَقالَت: {هِيَ وَاللهِ الغَشيَةُ الَّتِي تَأخُذُهُ مِن خَشيَةِ اللهِ تَعالَى}، ثُمَّ أَتَوهُ بِماءِ فَنَضَحُوهُ عَلَى وَجهِهِ، فَأَفاقَ وَنَظَرَ إِلَيَّ وَأَنَا أَبكِي فَقالَ: {مِمَّ بُكاؤُكَ يا أَبا الدَّرداءِ؟ فَكَيفَ وَلَو رَأَيتُنِي وَدُعِيَ بِي إِلَى الحِسابِ، وَأَيقَنَ أَهلُ الجَرائِمِ بِالعَذابِ، وَاحتَوَشَتنِي مَلائِكَةٌ غِلاظٌ وَزَبانِيَةٌ فِظاظٌ، فَوَقَفتُ بَينَ يَدَيِ المَلِكِ الجَبّارِ، قَد أَسلَمَتنِي الأَحِبّاءُ، وَرَحِمَنِي أَهلُ الدُّنيا، لَكُنتَ أَشَدَّ رَحمَةٍ لِي بَينَ يَدَي مَن لا يَخفَى عَلَيهِ خافِيَةٌ}[15].
  9. عَن الصادق سلام الله عليه: {وكانَ أَبِي عليه السلام كَثِيرَ الذِّكرِ. لَقَد كُنتُ أَمشِي مَعَه وإِنَّه لَيَذكُرُ اللَّه، وآكُلُ مَعَه الطَّعامَ وإِنَّه لَيَذكُرُ اللَّه، ولَقَد كانَ يُحَدِّثُ القَومَ وما يَشغَلُه ذَلِكَ عَن ذِكرِ اللَّه، وكُنتُ أَرَى لِسانَه لازِقاً بِحَنَكِه يَقُولُ: لا إِلَه إِلا اللَّه، وكانَ يَجمَعُنا فَيَأمُرُنا بِالذِّكرِ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ}[16].
  10. عن علي بن الحسين سلام الله عليهما: {جهلوا والله أمر الله وأمر أوليائه معه. إن المراتب الرفيعة لا تُنال إلا بالتسليم للهِ جلّ ثناؤه وترك الاقتراح عليه والرضا بما يدبرهم به. إن أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لما يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم. لكنهم مع ذلك لا يريدون منه إلا ما يريده لهم}[17].
  11. عن رسول الله صلى الله عليه وآله: {والذي بعثني بالحق لا يُنجي إلا عملٌ مع رحمة، ولو عَصيتُ لهَوَيتُ. اللهم هل بلغت؟}[18].
  12. روي أن علياً زين العابدين سلام الله عليه: (كان إِذا قَرَأَ {مالِكِ يَومِ الدِّينِ} يُكَرِّرُها حَتَّى كادَ أَنْ يَمُوتَ)[19].
  13. روي أن علياً بن الحسين سلام الله عليهما كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يغشاك؟ فيقول: {أتدرون لمن أتأهب للقيام بين يديه}[20].
  14. عن الصادق سلام الله عليه يصف جده علياً بن الحسين سلام الله عليهما: {ولقد دخل أبو جعفر ابنه عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفر لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، فقال أبو جعفر عليه السلام: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له}[21].
  15. عن أحمد بن عبد الله عن أبيه قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح، فقال لي: أُدنُ فدنوتُ حتى حاذيته، ثم قال لي: أشرف إلى بيت الدار، فأشرفت فقال: ما ترى في البيت؟ فقلت: ثوباً مطروحاً فقال: انظر حسناً، فتأملت ونظرت فتيقنت فقلت: رجلٌ ساجدٌ (إلى أن قال): هذا أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، إني أتفقده الليل والنهار فلا أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أخبرك بها، إنه يصلي الفجر فيُعقِّب ساعة دبر الصلاة إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكّل من يترصد له الزوال، فلست أدري متى يقول الغلام: قد زالت الشمس، إذ يَثِب فيَبتدئُ الصلاةَ من غير أن يُحْدِث وضوءً، فأعلم أنه لم يَنَم في سجوده ولا أغفى. ولا يزال إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلى سجد سجدة فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس. فإذا غابت الشمس وثب من سجدته فصلى المغرب من غير أن يحدث حدثاً. ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العتمة. فإذا صلى العتمة أفطر على شواء يؤتى به، ثم يجدد الوضوء، ثم يسجد ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة، ثم يقوم فيجدد الوضوء ثم يقوم. فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر. فلست أدري متى يقول الغلام إن الفجر قد طلع، إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حول إلي.[22]
  16. عن الصادق سلام الله عليه: {فوالله ما نحن إلا عبيدُ الذي خلَقَنا واصطفانا، ما نَقدِرُ على ضرٍّ ولا نفعٍ. وإنْ رحِمَنا فبرحمته، وإنْ عذّبَنا فبذُنوبنا. والله ما لنا على الله من حُجّة، ولا مَعنا من الله براءة، وإنّا لميِّتون ومقبورون ومُنشَرون ومبعوثون وموقوفون ومَسئولون، ويلهم مالهم لعنهم الله، فلقد آذوا اللهَ وآذوا رسولَه صلى الله عليه وآله في قبره وأميرَ المؤمنين وفاطمةَ والحسنَ والحسينَ وعليَ بن الحسين ومحمدَ بن علي صلوات الله عليهم. وها أنا ذا بين أظهركم لحمُ رسول الله وجلدُ رسول الله، أبيت على فراشي خائفاً وَجِلاً مَرعُوباً، يَأمَنُون وأَفزَع، وينامون على فُرشِهم وأنا خائفٌ ساهرٌ وَجِلٌ أتقَلقَلُ بين الجبال والبراري، أبرأ إلى الله مما قال فيّ الأجدع البرادُ عبدُ بني أسد أبو الخطاب لعنه الله، والله لو ابتُلوا بنا وأمرناهم بذلك لكان الواجبُ ألا يقبلوه، فكيف وهم يروني خائفاً وَجِلاً، استعدي الله عليهم وأتبرأ إلى الله منهم. أُشهدكم أني امرؤٌ ولّدني رسولُ الله صلى الله عليه وآله وما معي براءةٌ من الله، إنْ أطعتُه رَحِمَني وإنْ عَصيتُه عذّبني عذاباً شديداً أو أشدّ عذابه}[23].

كيف يكون من وصف نفسه هكذا في هذه الرواية الشريفة قادراً على كل شيء وغنياً ومفوضاً تكوينياً؟ وكيف يريد البعض أن يعبِّر أهل البيت صلوات الله عليهم عن حالهم وواقعهم حتى يقتنعوا بعدم امتلاكهم فعلاً للولاية التكوينية والتفويض الواسعَين ووساطة الفيض؟ فهل يوجد تعبير أبلغ وأوضح مما في هذه الرواية؟

  1. عن الصادق سلام الله عليه: {لَعَنَ اللهُ مَن قالَ فِينا ما لا نَقُولُه في أَنفُسِنا، ولَعَنَ اللهُ مَن أَزالَنا عَن العُبودِيّةِ للهِ الّذِي خَلَقَنا وإلَيهِ مَآبنا ومَعادنا وبِيَدِه نَواصِينا}[24].
  2. عن أبي حمزة الثمالي، قال، قال علي بن الحسين عليهما السلام: {لعن الله من كذب علينا. إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي، لقد ادّعى أمراً عظيماً. ماله لعنه الله، كان علي عليه السلام والله عبداً لله صالحاً، أخو رسول الله، ما نال الكرامة من الله الا بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله صلى الله عليه وآله الكرامة من الله الا بطاعته لله}[25].

إن هذه الرواية الشريفة تدلّ على أن ما ناله رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين سلام الله عليه إنما هو بالطاعة ولم يكن منذ الأزل، بخلاف ما يستلزمه القول بالولاية التكوينية ووساطة الفيض. وذلك موافق لقول الله تعالى: {إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقاكُم} [سورة الحجرات: 13].

  1. عن طاووس الفقيه: رَأَيتُهُ "أي الإمام زين العابدين سلام الله عليه" يَطُوفُ مِنَ العِشاءِ إِلَى السَّحَرِ وَيَتَعَبَّدُ. فَلَمّا لَم يَرَ أَحَداً رَمِقَ السَّماءَ بِطَرفِهِ وَقالَ: {إِلَهِي غارَت نُجُومُ سَماواتِكَ، وَهَجَعَت عُيُونُ أَنامِكَ، وَأَبوابُكَ مُفَتَّحاتٌ لِلسّائِلِينَ. جِئتُكَ لِتَغفِرَ لِي وَتَرحَمَنِي وَتُرِيَنِي وَجهَ جَدِّي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله فِي عَرَصاتِ القِيامَةِ}. ثُمَّ بَكَى وَقالَ: {وَعِزَّتِكَ وَجَلالِكَ ما أَرَدتُ بِمَعصِيَتِي مُخالَفَتَكَ، وَما عَصَيتُكَ إِذ عَصَيتُكَ وَأَنا بِكَ شاكٌّ وَلا بِنَكالِكَ جاهِلٌ وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ، وَلَكِن سَوَّلَت لِي نَفسِي وَأَعانَنِي عَلَى ذَلِكَ سِترُكَ المُرخَى بِهِ عَلَيَّ، فَأَنا الآنَ مِن عَذابِكَ مَن يَستَنقِذُنِي وَبِحَبلِ مَن أَعتَصِمُ إِنْ قَطَعتَ حَبلَكَ عَنِّي. فَوا سَوأَتاه غَداً مِنَ الوُقُوفِ بَينَ يَدَيكَ إِذا قِيلَ لِلمُخِفِّينَ جُوزُوا وَلِلمُثقِلِينَ حطُّوا. أَمَعَ المُخِفِّينَ أَجُوزُ أَم مَعَ المُثقِلِينَ أَحُطُّ؟ وَيلِي كُلَّما طالَ عُمُرِي كَثُرَت خَطايايَ وَلَم أَتُبْ. أَما آنَ لِي أَن أَستَحِيَ مِن رَبِّي؟} ثُمَّ بَكَى ثُمَّ أَنشَأَ يَقُولُ:

أَتُحرِقُنـِي بِالنّارِ يا غايَـةَ المُنَـى      فَأَيـنَ رَجائِـي ثُـمَّ أَيـنَ مَحَبَّتِـي

 

أَتَيـتُ بِأَعمالٍ قِباحٍ رَدِيَّـةٍ وَما         فِي الوَرَى خَلقٌ جَنَى كَجِنايَتِي

ثُمَّ بَكَى وَقالَ: {سُبحانَكَ تُعصَى كَأَنَّكَ لا تُرَى، وَتَحلُمُ كَأَنَّكَ لَم تُعصَ، تَتَوَدَّدُ إِلَى خَلقِكَ بِحُسنِ الصَّنِيعِ كَأَنَّ بِكَ الحاجَةَ إِلَيهِم، وَأَنتَ يا سَيِّدِي الغَنِيُّ عَنهُم}. ثُمَّ خَرَّ إِلَى الأَرضِ ساجِداً فَدَنَوتُ مِنهُ وَشِلتُ رَأسَهُ وَوَضَعتُهُ عَلَى رُكبَتَيَّ وَبَكَيتُ حَتَّى جَرَت دُمُوعِي عَلَى خَدِّهِ، فَاستَوَى جالِساً وَقالَ: {مَن ذا الَّذِي أَشغَلَنِي عَن ذِكرِ رَبِّي؟} فَقُلتُ أَنا طاوُسٌ يَا ابنَ رَسُولِ اللهِ، ما هَذا الجَزَعُ وَالفَزَعُ وَنَحنُ يَلزَمُنا أَن نَفعَلَ مِثلَ هَذا وَنَحنُ عاصُونَ جافُونَ، أَبُوكَ الحُسَينُ بنُ عَلِيٍّ وَأُمُّكَ فاطِمَةُ الزَّهراءُ وَجَدُّكَ رَسُولُ الله. قالَ فَالتَفَتَ إِلَيَّ وَقالَ: {هَيهاتَ هَيهاتَ يا طاوُسُ دَع عَنِّي حَدِيثَ أَبِي وَأُمِّي وَجَدِّي. خَلَقَ اللهُ الجَنَّةَ لِمَن أَطاعَهُ وَأَحسَنَ وَلَو كانَ عَبداً حَبَشِيّاً، وَخَلَقَ النّارَ لِمَن عَصاهُ وَلَو كانَ قُرَشِيّاً. أَما سَمِعتَ قَولَهُ تَعالَى: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ}؟ وَاللهِ لا يَنفَعُكَ غَداً إِلا تَقدِمَةٌ تُقَدِّمُها مِن عَمَلٍ صالِحٍ}[26].

 

هذا كان مما ورد من أحاديث أهل البيت صلوات الله عليهم وسيرتهم المؤكدة لعبوديتهم لله تعالى.

وفيما يتعلق بأدعيتهم فإن الدعاء بحد ذاته يكشف عن فقرهم الذاتي والفعلي، ولو كانوا يمتلكون ما يُدّعى لهم من ولاية تكوينية لَمَا سألوا الله عن كبير الأمور وصغيرها، إذ سيُمْكنُهم أن يقضوا حوائجهم هذه - على الأقل الصغيرة منها - بلا حاجة للدعاء، لأن المفروض أن الله تعالى قد أقدرهم على فعل كل شيء وأعطاهم تفويضاً واسعاً على الأمور التكوينية. والتدبر في مختلف أدعيتهم صلوات الله عليهم يكشف عن الفقر الفعلي لا الذاتي فحسب، سواء كانوا يدعون لأنفسهم أو لغيرهم وسواء كان الدعاء للحوائج المعنوية أو المادية.

وقد يقول البعض بأن ما ورد من أدعية إنما هو لغرض التعليم وليس دعاءً حقيقة، والجواب هو أن هذا قد يصح لبعض الأدعية التي فيها يقول المعصوم سلام الله عليه لبعض أصحابه مثلاً: ادعُ بهذا الدعاء، ويعلمه الدعاء. ولكن بقية الأدعية تكون الروايات فيها واضحة بأن المعصوم بنفسه يدعو بهذا الدعاء وليس مجرد تمثيل "وحاشاهم"، خاصة مع تفاعله سلام الله عليه مع كلمات الدعاء وبكائه وخشوعه كما ورد في وصف الإمام الحسين سلام الله عليه أثناء دعائه يوم عرفة: (ثم اندفع في المسألة واجتهد في الدّعاء، وقال وعيناه سالتا دموعاً)[27]، وكما عن طاووس: (دخلت الحجر في الليل، فإذا علي بن الحسين عليهما السلام قد دخل فقام يصلي، فصلى ما شاء الله ثم سجد، قال: فقلت: رجل صالح من أهل بيت الخير، لأستمعن إلى دعائه، فسمعته يقول في سجوده: {عُبيدُك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك}. قال طاووس: فما دعوت بهن في كرب إلا فرج عني)[28]، وكما مرّ في رواية أبي الدرداء حينما أغشي على أمير المؤمنين سلام الله عليه مِن خشية الله تعالى، ورواية طاووس الأخرى.

ولا بأس بالتذكير ببعض ما ورد في الأدعية المشهورة التي يلهج بها المؤمنون من علماء وغيرهم منذ مئات السنين كدعاء كميل المروي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه. وهذا الدعاء الشريف يبين شدة خضوع الإمام وتذلّله لله تعالى وحاجته لرحمة ربه ومغفرته وإظهارَه للتقصير في حق الله سبحانه وخوفه منه جلّ وعلا. ورغم أن هذا الدعاء الشريف مشحون كله بما يؤيد ما ذكرناه لكننا نقتطف منه ما يلي: {يا كَريمُ يا رَبِّ وَأَنتَ تَعلَمُ ضَعفي عَن قَليلٍ مِن بَلاءِ الدُّنيا وَعُقُوباتِها وَما يَجري فيها مِنَ المَكارِهِ عَلى أَهلِها، عَلى أَنَّ ذلِكَ بَلاءٌ وَمَكرُوهٌ قَليلٌ مَكثُهُ، يَسيرٌ بَقاؤُهُ، قَصيرٌ مُدَّتُهُ. فَكَيفَ احتِمالي لِبَلاءِ الآخِرَةِ وَجَليلِ وُقُوعِ المَكارِهِ فيها، وَهُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ وَيَدُومُ مَقامُهُ وَلا يُخَفَّفُ عَن أَهلِهِ، لأَنَّهُ لا يَكُونُ إلا عَن غَضَبِكَ وَانتِقامِكَ وَسَخَطِكَ، وَهذا ما لا تَقُومُ لَهُ السَّماواتُ وَالأَرضُ. يا سَيِّدِي فَكَيفَ بي وَأَنا عَبدُكَ الضَّعيفُ الذَّليلُ الحَقيرُ المِسكينُ المُستَكينُ}[29]، فهل يا ترى لم يكن سلام الله عليه جاداً في قوله: {وَأَنتَ تَعلَمُ ضَعفي عَن قَليلٍ مِن بَلاءِ الدُّنيا وَعُقُوباتِها وَما يَجري فيها مِنَ المَكارِهِ عَلى أَهلِها} الذي يكشف ضعفاً فعلياً ناتجاً عن البشرية التي وضعه الله فيها؟ وعنه سلام الله عليه ايضاً ما يُعرف بالمناجاة الشعبانية التي ذُكر أنها مناجاة أمير المؤمنين والأئمة من ولده سلام الله عليهم، والتي ورد فيها: {وَبِيَدِكَ لا بِيَدِ غَيرِكَ زِيادَتي وَنَقصي وَنَفعي وَضرّي. اِلهي اِنْ حَرَمتَني فَمَن ذَا الَّذى يَرزُقُني، وَاِنْ خَذَلتَني فَمَن ذَا الَّذى يَنصُرُني. اِلهي اَعُوذُ بِكَ مِنَ غَضَبِكَ وَحُلُولِ سَخَطِكَ. اِلهي اِنْ كُنتُ غَيرَ مُستاَهِلٍ لِرَحمَتِكَ فَاَنتَ اَهلٌ اَنْ تَجُودَ عَلىَّ بِفَضلِ سَعَتِكَ}.

وكمثال بارز آخر هو دعاء عرفة عن الإمام الحسين سلام الله عليه، فهو أيضاً يمثل العبودية الحقة لأئمة الهدى سلام الله عليهم وأنهم لا يستغنون عن رحمة الله تعالى ورعايته لهم ويُظهرون امتنانهم لفضله سبحانه ويخافون غضبه ويعترفون بتقصيرهم بحقه عزّ وجلّ. وللفائدة ننقل هذا الجزء منه: {اللَّهُمَّ ما أَخافُ فَاكْفِني، وَما أَحذَرُ فَقِني، وَفي نَفسي وَديني فَاحرُسني، وَفي سَفَري فَاحفَظني، وَفي أَهلي وَمالي فَاخلُفني، وَفي ما رَزَقتَني فَبارِك لي، وَفي نَفسي فَذلِّلني، وَفي أَعيُنِ النَّاسِ فَعَظِّمني، وَمِن شَرِّ الجِنِّ وَالإِنسِ فَسَلِّمني، وَبِذُنُوبي فَلا تَفضَحني، وَبِسَريرَتي فَلا تُخزِني، وَبِعَمَلي فَلا تَبتَلِني، وَنِعَمَكَ فَلا تَسلُبني، وَاِلى غَيرِكَ فَلا تَكِلني. إلهي اِلى مَن تَكِلُني: اِلى قَريبٍ فَيَقطَعُني، أَم اِلى بَعيدٍ فَيَتَجَهَّمُني، أَم اِلَى المُستَضعِفينَ لي، وَأَنتَ رَبّي وَمَليكُ أَمري. أَشكُو اِلَيكَ غُربَتي وَبُعدَ داري وَهَواني عَلى مَن مَلَّكتَهُ أَمري. اِلهي فَلا تُحلِل عَلَيَّ غَضَبَكَ، فَإنْ لَم تَكُن غَضِبتَ عَلَيَّ فَلا اُبالي، سُبحانَكَ غَيرَ أَنَّ عافِيَتَكَ أَوسَعُ لي. فَأَسأَلُكَ يا رَبِّ بِنُورِ وَجهِكَ الَّذي أَشرَقَت لَهُ الأَرضُ وَالسَّماواتُ وَكُشِفَت بِهِ الظُّلُماتُ وَصَلُحَ بِهِ أَمرُ الأَوَّلينَ وَالآخِرِينَ أَن لا تُميتَني عَلى غَضَبِكَ، وَلا تُنزِل بي سَخَطَكَ، لَكَ العُتبى لَكَ العُتبى حَتّى تَرضى قَبلَ ذلِك}.

وكذلك هذا الجزء من نفس الدعاء: {ثُمَّ أَنَا يا اِلهي المُعَتَرِفُ بِذُنُوبي فَاغفِرها لي. أَنَا الَّذي أَسَأتُ، أَنَا الَّذي أَخطَأتُ، أَنَا الَّذي هَمَمتُ، أَنَا الَّذي جَهِلتُ، أَنَا الَّذي غَفِلتُ، أَنَا الَّذي سَهَوتُ، أَنَا الَّذِي اعتَمَدتُ، أَنَا الَّذي تَعَمَّدتُ، أَنَا الَّذي وَعَدتُ، وَأَنَا الَّذي أَخلَفتُ، أَنَا الَّذي نَكَثتُ، أَنَا الَّذي أَقرَرتُ، أَنَا الَّذِي اعتَرَفتُ بِنِعمَتِكَ عَلَيَّ وَعِندي، وَأَبُوءُ بِذُنُوبي فَاغفِرها لي. يا مَن لا تَضُرُّهُ ذُنُوبُ عِبادِهِ، وهُوَ الَغَنِيُّ عَن طاعَتِهِم، وَالمُوَفِّقُ مَن عَمِلَ صالِحاً مِنهُم بِمَعُونَتِهِ وَرَحمَتِه، فَلَكَ الحَمدُ اِلهي وَسيِّدي. اِلهي أَمَرتَني فَعَصَيتُكَ، وَنَهَيتَني فَارتَكَبتُ نَهيَكَ، فَأَصبَحتُ لا ذا بَرآءَةٍ لي فَأَعتَذِرُ، وَلا ذا قُوَّةٍ فَأَنتَصِرُ. فَبِأَي شيء أَستَقبِلُكَ يا مَولاي، أبِسَمعي أَم بِبَصَري، أَم بِلِساني، أَم بِيَدي أَم بِرِجلي، أَلَيسَ كُلُّها نِعَمَكَ عِندي، وَبِكُلِّها عَصَيتُكَ يا مَولاي، فَلَكَ الحُجَّةُ وَالسَّبيلُ عَلي. يا مَن سَتَرَني مِنَ الآباءِ وَالاُمَّهاتِ أَن يَزجُرُوني، وَمِنَ العَشائِرِ وَالإِخوانِ أَن يُعَيِّرُوني، وَمِنَ السَّلاطينِ أَن يُعاقِبُوني، وَلَوِ اطَّلَعُوا يا مَولاي عَلى مَا اطَّلَعتَ عَلَيهِ مِنّي اِذاً ما أَنظَرُوني، وَلَرَفَضُوني وَقَطَعُوني. فَها أَنَا ذا يا اِلهي بَينَ يَدَيكَ يا سَيِّدي خاضِعٌ ذَليلٌ، حَصيرٌ حَقيرٌ، لا ذُو بَرآءَةٍ فَأَعتَذِرَ، وَلا ذُو قُوَّةٍ فَأَنتَصِرُ، وَلا حُجَّةٍ فَأَحتَجُّ بِها، وَلا قائِلٌ لَم أَجتَرِح، وَلَم أَعمَل سُوءاً. وَما عَسَى الجُحُودُ وَلَو جَحَدتُ يا مَولاي يَنفَعُني، كَيفَ وَأَنّى ذلِكَ وَجَوارِحي كُلُّها شاهِدَةٌ عَلَي بِما قَد عَمِلتُ. وَعَلِمتُ يَقيناً غَيرَ ذي شَكٍّ أَنَّكَ سآئِلي مِن عَظائِمِ الاُمُورِ، وَأَنَّكَ الحَكَمُ العَدلُ الَّذي لا تَجُورُ، وَعَدلُكَ مُهلِكي، وَمِن كُلِّ عَدلِكَ مَهرَبي. فَإنْ تُعَذِّبني يا اِلهي فَبِذُنُوبي بَعدَ حُجَّتِكَ عَلَيَّ، وَإنْ تَعفُ عَنّي فَبِحِلمِكَ وَجُودِكَ وَكَرَمِكَ. لا إلهَ إلا أَنتَ سُبحانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمينَ، لا إلهَ إلا أَنتَ سُبحانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ المُستَغفِرينَ، لا إلهَ إلا أَنتَ سُبحانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ المُوَحِّدينَ، لا إلهَ إلا أَنتَ سُبحانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ الخائِفينَ، لا إلهَ إلا أَنتَ سُبحانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ الوَجِلينَ، لا إلهَ إلا أَنتَ سُبحانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ الَّراجينَ، لا إلهَ إلا أَنتَ سُبحانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ الرَّاغِبينَ، لا إلهَ إلا أَنتَ سُبحانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ المُهَلِّلينَ، لا إلهَ إلا أَنتَ سُبحانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ السَّائِلينَ، لا إلهَ إلا أَنتَ سُبحانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ المُسَبِّحينَ، لا إلهَ إلا أَنتَ سُبحانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ المُكَبِّرينَ، لا إلهَ إلا أَنتَ سُبحانَكَ رَبّي وَرَبُّ آبائِيَ الأَوَّلينَ}.

أيُّ عبودية هذه التي يُظهرها الإمام سلام الله عليه في هذا الدعاء الجليل القدر؟ وأيُّ تذلل وفناء أمام الرب العظيم المتكبر؟ وأيُّ اعتراف بالتقصير والفقر مقابل ساحة العظمة الإلهية؟ وأيُّ خوف هذا الذي ترتعد به فرائص الأئمة سلام الله عليهم من جبار السماوات والأرض سبحانه وتعالى؟

وأيضاً دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين سلام الله عليه الذي يمثل كسائر أدعيتهم عالية المضامين حقيقة عقيدتهم سلام الله عليهم باعترافهم بالعجز والفقر والتقصير أمام ربهم جلّ شأنه، وفيه ينفي الإمام سلام الله عليه دعاء ورجاء غير الله سبحانه بقوله: {الحَمدُ للهِ الَّذي لا أَدعُو غَيرَهُ وَلَو دَعَوتُ غَيرَهُ لَم يَستَجِبْ لي دُعائي، وَالحَمدُ للهِ الَّذي لا أَرجُو غَيرَهُ وَلَو رَجَوتُ غَيرَهُ لأَخلَفَ رَجائي}.

وكذلك أدعية الصحيفة السجادية المملوءة بالتذلل والرجاء واللجوء إلى الله وحده كما في دعائه سلام الله عليه فِي طلب الحوائج إلى الله تعالى: {وَمَن تَوَجَّهَ بِحاجَتِهِ إِلَى أَحَدٍ مِن خَلقِكَ أَو جَعَلَهُ سَبَبَ نُجْحِها دُونَكَ فَقَد تَعَرَّضَ لِلحِرمانِ، وَاستَحَقَّ مِن عِندِكَ فَوتَ الإِحسانِ}.

وكما في دعاء العيدين والجمعة عن الإمام الباقر سلام الله عليه الذي يقول فيه: {وَلَم أَفِد إلَيكَ اليَومَ بِعَمَلٍ صالِحٍ أَثِقُ بِهِ قَدَّمتُهُ، وَلا تَوَجَّهتُ بِمَخلُوقٍ أَمَّلتُهُ، وَلكِن أَتَيتُكَ خاضِعاً مُقِرّاً بِذُنوبي وَإساءَتي إلى نَفسي، فَيا عَظيمُ يا عَظيمُ يا عَظيمُ، اغفِر لِيَ العَظيمَ مِن ذُنُوبي، فإنَّهُ لا يَغفِرُ الذُّنوبَ العِظامَ إلا أَنتَ، يا لا إلهَ إلا أَنتَ، يا أَرحَمَ الرّاحِمينَ}[30].

وكمثال آخر هو دعاء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، فقد روي عن الإمام الباقر سلام الله عليه: {كانَ دُعاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله لَيلَةَ الأَحزابِ: يا صَرِيخَ المَكرُوبِينَ ويا مُجِيبَ دَعوَةِ المُضطَرِّينَ ويا كاشِفَ غَمِّيَ اكشِف عَنِّي غَمِّي وهَمِّي وكَربِي فَإِنَّكَ تَعلَمُ حالِي وحالَ أَصحابِي واكفِنِي هَولَ عَدُوِّي}[31]، وما عن الإمام الصادق سلام الله عليه إنه إذا قام آخِرَ الّليلِ يَرفَعُ صَوتَه حتّى يُسمِعَ أهلَ الدّارِ ويقول: {الّلهُمَّ أَعِنِّي عَلى هَولِ المُطَّلَعِ وَوَسِّع عَلَيَّ ضِيقَ المَضجَعِ وَارزُقنِي خَيرَ ما قَبلَ المَوتِ وَارزُقنِي خَيرَ ما بَعدَ المَوت}[32]. وكذا بقية أدعيتهم صلوات الله عليهم التي هي كالأدعية آنفة الذكر من حيث خلوص التوجه لله وحده ورجاء رحمته وخوف عذابه وإظهار التقصير بحقه سبحانه وبيان أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله تعالى.

ومما يُلاحظ أن الأئمة سلام الله عليهم كانوا ملتزمين بفعل المستحبات وترك المكروهات كسائر المكلفين الّذين يتقربون لربهم سبحانه، لذا نرى اهتمامهم بالأيام الشريفة وما فيها من أعمال كيوم عرفة الذي يتأكد فيه الدعاء وشهر رمضان وليلة الجمعة وغيرها.

 

ولو قال البعض بأن هكذا أدعية مروية بطرق آحاد - وقد يكون بعضها ضعيف السند - لا تصلح للاستدلال بها، قلنا إن علماء الطائفة وبقية المؤمنين قد ارتضوا هذه الكلمات بغض النظر عن سندها منذ مئات السنين، كما إن هذه المعاني المتداولة في هذه الأدعية هي نفس المعاني المتداولة في بقية الأدعية الكثيرة عن أهل البيت صلوات الله عليهم مما يفيد التواتر المعنوي، أي يحصل القطع بصدور هذه المضامين عنهم صلوات الله عليهم وأنها تمثل حقيقة معتقدهم وإن اختلفت الألفاظ، ويضاف لهذا موافقتها للقرآن المجيد. لذا فلو ورد في بعض ما يُنسب لهم صلوات الله عليهم مما يخالف هذا وجب ردّه وعدم قبوله لأنه يخالف الكتاب الكريم وعقيدة أهل البيت صلوات الله عليهم التي ذكرناها. ولو قبلنا به فإننا سنقع في محذور نسبة الأقوال المتناقضة لهم مما سيقدح في عصمتهم، وهذا غير مقبول في عقيدة الشيعة الإمامية أعزهم الله تعالى وثبتهم على نهج سادتهم محمد وآله صلوات الله عليهم.

وكمثال على هذه التناقضات ما ورد في بعض الأدعية المتداولة، والذي ورد في بدايته: (إلهي عَظُمَ البَلاءُ وَبَرِحَ الخَفاءُ وَانكَشَفَ الغِطاءُ وَانقَطَعَ الرَّجاءُ وَضاقَتِ الأَرضُ وَمُنِعَتِ السَّماءُ واَنتَ المُستَعانُ وَإلَيكَ المُشتَكى وَعَلَيكَ المُعَوَّلُ فِي الشِّدَّةِ والرَّخاءِ)، ثم بعد هذا التوجه لله تعالى والقول بأنه المستعان وإليه المشتكى وعليه المعوّل يلتفت الداعي إلى غير ربه سبحانه ويدعوه ويرجوه، وهو ما زال في محضر الدعاء لله تعالى فيقول: (يا مُحَمَّدُ يا عَلِيُّ يا عَلِيُّ يا مُحَمَّدُ اِكفِياني فَإنَّكُما كافِيانِ، وَانصُراني فَإنَّكُما ناصِرانِ، يا مَولانا يا صاحِبَ الزَّمانِ، الغَوثَ الغَوثَ الغَوثَ، اَدرِكني اَدرِكني اَدرِكني، السَّاعَةَ السَّاعَةَ السَّاعَةَ، العَجَلَ العَجَلَ العَجَل، يا اَرحَمَ الرَّاحِمينَ). فهل يعني قائل هذا الكلام بأن الله تعالى لم يكن قريباً منه فالتفَت لغيره؟ أو أنه سبحانه لم يكن أهلاً للاستعانة به فلجأ لسواه؟ أم ندم على قوله (وَعَلَيكَ المُعَوَّلُ فِي الشِّدَّةِ والرَّخاءِ) فعوّل على غيره؟ أم عَلم أن الله قد أعرض عنه فلجأ لواسطة بينه وبين ربه سبحانه؟ ألا يناقض هذا ما أوردناه آنفاً من دعاء الثمالي عن الإمام زين العابدين سلام الله عليه؟ وهل يرتضي الملوك والأكابر من الناس أن نمدحهم بهكذا مدح أَمامهم ثم نلتفت - وفي محضرهم - إلى أحد خدمهم ونقول له أنت الكافي والناصر الذي سيقضي حوائجنا؟ ألا يعتبرونه حينئذ إهانة كبيرة لهم وكذباً واستهزاءً من القائل الذي مدحهم أولاً؟

وطبعاً توجد أجوبة جاهزة عند البعض لكل غلوّ وتناقض ولا يرون أنفسهم من الغلاة، وربما سيقولون إن الالتفات إلى النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين سلام الله عليه لا يعتبر التفاتاً عن الله لأنهما واسطتا فيض أو إنهما شخصان إلهيان وما شاكل. وهكذا تأويلات بإمكانها أن تبرر حتى الشرك الجلي. والمبرِّرون هنا لا يريدون أن يفهموا ما ذكرناه آنفاً من دعاء أبي حمزة الثمالي ولا يريدون فهم أدب العبودية والدعاء. فأي أدب هذا الذي أمدح الله فيه وأتذلل له وأقول له (وأَنتَ المُستَعانُ وَإلَيكَ المُشتَكى وَعَلَيكَ المُعَوَّلُ فِي الشِّدَّةِ والرَّخاءِ) ثم لا أستعين به ولا أشكو له ولا أعوِّل عليه سبحانه، بل ألجأ أثناء الدعاء لغيره وأقول له اكفني وانصرني وأغثني؟ ثم أي خلط هذا الذي استعمله هذا القائل بقوله في ذيل دعاءه: (يا أرحم الراحمين) بعد استغاثته بصاحب الزمان سلام الله عليه؟ ألا يحق للمستمع الأجنبي عنا أن يفهم مِن هذا بأنه يدعو الإمام وليس الله عزّ وجلّ؟

ويضاف لمسألة أدعية أهل البيت صلوات الله عليهم هو دعاء المؤمنين لهم سواء إن كان على نحو الوجوب كما في تشهد الصلاة: (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد) أو الاستحباب كالتسليم على النبي صلى الله عليه وآله والدعاء بالرحمة له خلال التسليم بقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) والصلاة عليه في غير تشهد الصلاة، فهذه الصلاة هي دعاء له كما ورد عن الإمام الكاظم سلام الله عليه: {صَلاةُ اللهِ رَحمَةٌ مِنَ اللهِ وَصَلاةُ مَلائِكَتِهِ تَزكِيَةٌ مِنهُم لَهُ وَصَلاةُ المُؤمِنِينَ دُعاءٌ مِنهُم لَهُ}[33]، وذكر السيد الطباطبائي: (قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيماً} قد تقدم أن أصل الصلاة الانعطاف، فصلاته تعالى انعطافه عليه بالرحمة انعطافاً مطلقاً لم يقيَّد في الآية بشيء دون شيء، وكذلك صلاة الملائكة عليه انعطاف عليه بالتزكية والاستغفار، وهي من المؤمنين الدعاء بالرحمة)[34]. وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله كان وهو حي والآن وهو ميت تنزل عليه الرحمة الإلهية لأنه فقير محتاج لهذه الرحمة ولم يأذن الله له بأن يمتلك كل شيء. فلو كان غنياً بيده كل شيء كما يدّعي البعض لم يحتج لنزول هذه الرحمة ودعاء الناس له بأن ينالها، لأنها قد نزلت عليه كاملة وصار بها مالكاً لأزمة أمور الكون كلِّه كما يدّعون. ويدخل في نفس الباب باقي أدعيتنا لأهل بيته صلى الله عليه وعليهم كما في قولنا: (اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً).

وفيما يتعلق بمن يدعو الله تعالى لأجل أهل البيت صلوات الله عليهم فلا يبقى في نفسه قصد جدّي في الدعاء لو كانت لهم الولايات الشاملة، لأنه حين يدعو لهم لرفع منزلتهم أو لنزول الرحمة الإلهية عليهم أو لحفظ الحي منهم فهذا لا أثر له واقعاً حسب مبنى القوم لأن منزلتهم قد بلغت القمة وامتلكوا حتى صفات الله عزّ وجلّ، ولأن الرحمة قد شملتهم كاملة ولأنهم محفوظون من كل سوء، بل بيدهم حفظ باقي الخلائق. وهذا مما يكشف التناقض وعدم الواقعية والضعف الذي يستلزمه القول بالولايات الشاملة.

 

[1] (الكافي، ج٢، ص٧٤.

[2]) مرآة العقول، ج 8، ص 52.

[3]) الكافي، ج 2، ص 75.

[4]) مرآة العقول، ج 8، ص 54.

[5]) الكافي، ج ٢، ص ١٧٦.

[6]) الكافي، ج ٨، ص 225.

[7]) مرآة العقول، ج ٢٦، ص 157.

[8]) اختيار معرفة الرجال، ج ٢، ص ٥٨٨، وإثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج ٥، ص ٤٠١، وبحار الأنوار، ج ٢٥، ص ٢٩٣.

[9]) الكافي، ج ١، ص 147.

[10]) الكافي، ج ٨، ص 131.

[11]) الكافي، ج ٨، ص ١46.

[12]) الكافي، ج ١، ص 269.

[13]) الكافي، ج 2، ص 464.

[14]) عيون أخبار الرضا ع، ج ٢، ص ٢١٧.

[15]) الأمالي للشيخ الصدوق، ص 137، والمناقب، ج 2، ص 124، باختلاف يسير بين النصين.

[16]) الكافي، ج 2، ص 499.

[17]) الأمالي للشيخ الصدوق، ص ٥٣٩.

[18]) الإرشاد، ج 1، ص 182.

[19]) الكافي، ج ٢، ص ٦٠٢.

[20]) الإرشاد، ج ٢، ص ١٤٢.

[21]) الإرشاد، ج ٢، ص ١٤٢.

[22]) عيون أخبار الرضا ع، ج 1، ص 98.

[23]) اختيار معرفة الرجال، ج ٢، ص 491.

[24]) اختيار معرفة الرجال، ج ٢، ص 491.

[25]) اختيار معرفة الرجال، ج ٢، ص 324.

[26]) المناقب، ج ٤، ص ١٥١، وبحار الأنوار، ج 46، ص 81.

[27]) مفاتيح الجنان، دعاء عرفة.

[28]) الإرشاد، ج ٢، ص ١٤٣.

[29]) مفاتيح الجنان، دعاء كميل.

[30]) إقبال الأعمال، ج ١، ص ٤٧٧.

[31]) الكافي، ج ٢، ص 561.

[32]) الكافي، ج٢، ص٥٣٩.

[33]) ثواب الأعمال، ص 156.

[34]) تفسير الميزان ج ١٦، ص ٣٣٨.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مظفر الشريفي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/06/19



كتابة تعليق لموضوع : سنة أهل البيت صلوات الله عليهم المؤكدة لعبوديتهم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : ادارة الموقع ، في 2023/06/19 .

جناب الدكتور المحترم
يرجى ملاحظة ان اخر رسالتين اليكم حاولنا اجابتها على بريدكم الالكتروني لكن لا تصل اليكم
ولم نعلم ماهو السبب الى الان






حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net