صفحة الكاتب : د . مظفر الشريفي

دعوى علم أهل البيت صلوات الله عليهم بكل شيء
د . مظفر الشريفي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

[بحث مُستل من كتاب (بل عبادٌ مكرمون- دراسة قرآنية وحديثية في نقد الغلوّ) لكاتب المقال].

قال الله سبحانه:

  • {يَسأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرساها قُل إِنَّما عِلمُها عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقتِها إِلا هُوَ ثَقُلَت فِي السَّماواتِ والأَرضِ لا تَأتِيكُم إِلا بَغتَةً يَسأَلُونَكَ كَأنَّكَ حَفِيٌّ عَنها قُل إِنَّما عِلمُها عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمُونَ * قُل لا أَملِكُ لِنَفسِي نَفعاً وَلا ضَرّاً إِلا ما شاءَ اللهُ وَلَو كُنتُ أَعلَمُ الغَيبَ لاستَكثَرتُ مِنَ الخَيرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ} [سورة الأعراف: 187-188]،
  • {يَسأَلُكَ النّاسُ عَنِ السّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلمُها عِندَ اللهِ وَما يُدرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [سورة الأحزاب: 63]،
  • {تِلكَ مِن أَنباءِ الغَيبِ نُوحِيها إِلَيكَ ما كُنتَ تَعلَمُها أَنتَ وَلا قَومُكَ مِن قَبلِ هَذا فاصبِر إِنَّ العاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ} [سورة هود ع: 49]،
  • {قُل لا يَعلَمُ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ الغَيبَ إِلا اللهُ وَما يَشعُرُونَ أَيّانَ يُبعَثُونَ} [سورة النمل: 65]،
  • {وَيَقُولُونَ لَولا أُنزِلَ عَلَيهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ فَقُل إِنَّما الغَيبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ} [سورة يونس ع: 20]،
  • {قُل لا أَقُولُ لَكُم عِندِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعلَمُ الغَيبَ وَلا أَقُولُ لَكُم إِنِّي مَلَكٌ إِن أَتَّبِعُ إِلا ما يُوحَى إِلَيَّ قُل هَل يَستَوِي الأَعمَى والبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [سورة الأنعام:50]،
  • {قُل إِنْ ضَلَلتُ فإنَّما أَضِلُّ عَلَى نَفسِي وإنِ اهتَدَيتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سورة سبأ: 50]،
  • {قُل إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي وَكَذَّبتُم بِهِ ما عِندِي ما تَستَعجِلُونَ بِهِ إِنِ الحُكمُ إِلا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيرُ الفاصِلِينَ * قُل لَو أَنَّ عِندِي ما تَستَعجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمرُ بَينِي وَبَينَكُم واللهُ أَعلَمُ بِالظّالِمِينَ * وَعِندَهُ مَفاتِحُ الغَيبِ لا يَعلَمُها إِلا هُوَ} [سورة الأنعام: 57-59]،
  • {قُل ما كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدرِي ما يُفعَلُ بِي وَلا بِكُم إِنْ أَتَّبِعُ إِلا ما يُوحَى إِلَيَّ وَما أَنا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [سورة الأحقاف: 9]،
  • {نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحسَنَ القَصَصِ بِما أَوحَينا إِلَيكَ هَذا القُرآنَ وإنْ كُنتَ مِن قَبلِهِ لَمِنَ الغافِلِينَ} [سورة يوسف ع: 3]،
  • {وَكَذَلِكَ أَوحَينا إِلَيكَ رُوحاً مِن أَمرِنا ما كُنتَ تَدرِي ما الكِتابُ وَلا الإِيمانُ وَلَكِنْ جَعَلناهُ نُوراً نَهدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِن عِبادِنا وإنَّكَ لَتَهدِي إِلَى صِراطٍ مُستَقِيمٍ} [سورة الشورى: 52]،
  • {قُل إِنْ أَدرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَم يَجعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} [سورة الجن: 25]،
  • {وَمِمَّنْ حَولَكُم مِنَ الأَعرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعلَمُهُم نَحنُ نَعلَمُهُم سَنُعَذِّبُهُم مَرَّتَينِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذابٍ عَظِيمٍ} [سورة التوبة: 101]،
  • {وَما كُنتَ بِجانِبِ الغَربِيِّ إِذ قَضَينا إِلَى مُوسَى الأَمرَ وَما كُنتَ مِنَ الشّاهِدِينَ * وَلَكِنّا أَنشَأنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيهِمُ العُمُرُ وَما كُنتَ ثاوِياً فِي أَهلِ مَديَنَ تَتلُو عَلَيهِم آياتِنا وَلَكِنّا كُنّا مُرسِلِينَ * وَما كُنتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذ نادَينا وَلَكِنْ رَحمَةً مِن رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوماً ما أَتاهُم مِن نَذِيرٍ مِن قَبلِكَ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ} [سورة القصص: 44-46]،
  • {إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلمُ السّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيثَ وَيَعلَمُ ما فِي الأَرحامِ وَما تَدرِي نَفسٌ ماذا تَكسِبُ غَداً وَما تَدرِي نَفسٌ بِأَيِّ أَرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سورة لقمان: 34]،
  • {وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيكَ مِن أَنباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ} [سورة هود ع: 120]،
  • {وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكَ وَرَحمَتُهُ لَهَمَّت طائِفَةٌ مِنهُم أَن يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُم وَما يَضُرُّونَكَ مِن شَيءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيكَ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَم تَكُن تَعلَمُ وَكانَ فَضلُ اللهِ عَلَيكَ عَظِيماً} [سورة النساء: ١١٣]،
  • {يَومَ يَجمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبتُم قالُوا لا عِلمَ لَنا إِنَّكَ أَنتَ عَلامُ الغُيُوبِ} [سورة المائدة: 109].

يبين كتاب الله تعالى تأكيداً لبشرية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أنه لا يعلم كل شيء ويحتاج لزيادة العلم كما قال سبحانه: {وَقُلْ رَبِّ زِدني عِلماً} [سورة طه: 114]. كما إنه صلى الله عليه وآله مُعرَّض لأن يصاب بسوء بسبب عدم علمه بالغيب كما في قوله تعالى: {وَلَو كُنتُ أَعلَمُ الغَيبَ لاستَكثَرتُ مِنَ الخَيرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ} [سورة الأعراف: 188]. وأمر الأئمة والزهراء سلام الله عليهم أوضح لأن رسول الله صلى الله عليه وآله أعلم الخلق وأكملهم وأفضلهم.

كما تُبين الآيات أيضاً الفقر التكويني للنبي صلى الله عليه وآله، وأن هذا الفقر هو الأصل في طبيعته كبشر، وأنه لا يملك لنفسه الشريفة نفعاً ولا ضراً إلا بمشيئة الله تعالى، وأنه يحتاج للهداية من الله تعالى كما في قوله سبحانه: {قُل إِنْ ضَلَلتُ فإنَّما أَضِلُّ عَلَى نَفسِي وإنِ اهتَدَيتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سورة سبأ: 50]، وقال جلّ وعلا: {أَلَم يَجِدكَ يَتِيماً فآوَى، وَوَجَدَكَ ضالاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عائِلاً فأغنَى} [سورة الضحى: 6-8]. وذكر السيد الطباطبائي في تفسير الآية: (قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضالاً فَهَدَى} المراد بالضلال عدم الهداية، والمراد بكونه صلى الله عليه وآله وسلم ضالاً حاله في نفسه مع قطع النظر عن هدايته تعالى، فلا هدى له صلى الله عليه وآله وسلم ولا لأحد من الخلق إلا بالله سبحانه، فقد كانت نفسه في نفسها ضالة وإن كانت الهداية الالهية ملازمة لها منذ وجدت. فالآية في معنى قوله تعالى: {ما كُنتَ تَدرِي ما الكِتابُ وَلا الإِيمانُ} الشورى: 52، ومن هذا الباب قول موسى على ما حكى الله عنه: {فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضّالِّينَ} الشعراء: 20، أي لم أهتد بهدى الرسالة بعد. ويقرب منه ما قيل: إن المراد بالضلال الذهاب من العلم كما في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُما فَتُذَكِّرَ إِحدَاهُما الأُخرَى} البقرة: 282، ويؤيده قوله: {وإنْ كُنتَ مِن قَبلِهِ لَمِنَ الغافِلِينَ} يوسف: 3)[1].

وظاهر الآيات الكريمة ينفي أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وآله علم الساعة وعلم الغيب المطلق ولو اكتساباً. وإنما يمكن أن يعلم بعض الغيب كما في قوله تعالى: {قُل إِنْ أَدرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَم يَجعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً * عالِمُ الغَيبِ فَلا يُظهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَداً * إِلا مَنِ ارتَضَى مِن رَسُولٍ فانَّهُ يَسلُكُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ رَصَداً * لِيَعلَمَ أَن قَد أَبلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِم وأحاطَ بِما لَدَيهِم وأحصَى كُلَّ شَيءٍ عَدَداً} [سورة الجن: 25-28].

لذا فإن الروايات التي تعطي لأهل البيت صلوات الله عليهم علم كل شيء أو علم ما دون العرش أو غير هذا من تعابير الإحاطة العلمية الشاملة إنما هي تتناقض مع القرآن الكريم كما في الآيات أعلاه وغيرها. ولو قيل بأن الآيات النافية لهكذا علم إنما تنفي العلم الذاتي بينما أهلُ البيت صلوات الله عليهم يعلمون اكتساباً لا ذاتاً، فهي دعوى لا تتوافق مع ظاهر الآيات الكريمة التي تشمل العلم الذاتي والاكتسابي معاً، وتنافي الغرض من ذكر هذه الآيات في الكتاب الكريم، فمثلاً لو كان النبي صلى الله عليه وآله يعلم الغيب اكتساباً لا ذاتاً - كما يقول البعض - لاستكثر من الخير وما مسه السوء، ولا يُشترط للاستكثار من الخير وإبعاد السوء أن يكون العلم بالغيب ذاتياً.

وقد أمَرَنا أهل البيت صلوات الله عليهم بأحاديث متواترة أن نعرض ما يرِدُنا من روايات منسوبة لهم على كتاب الله تعالى وأن نرفضها إن خالفته. وهذه المخالفة تعني أنهم لم يقولوها لأنهم لا يخالفون كتاب ربهم. وقد ذكرنا في الفصل الثاني من كتاب "بل عباد مكرمون" تحت عنوان "روايات العرض على الكتاب الكريم" بعض أحاديث العرض. وينبغي هنا التفريق بين ما إذا كان أهل البيت صلوات الله عليهم يعلمون كل شيء وبين ما إذا أرادوا أن يعلموا شيئاً علموه، إذ أن الثاني ممكن، ويجلّ مقامهم أن يطلبوا علم ما لا ينبغي لهم كعلم الساعة. وتفيد سيرتهم صلوات الله عليهم أنهم لم يكونوا يعلمون بكل شيء رغم أنهم أعلم الناس وأكملهم. وتوجد شواهد كثيرة جداً على هذا، لعل من أوضحها قول الله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعضِ أَزواجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبَّأَت بِهِ وَأَظهَرَهُ اللهُ عَلَيهِ عَرَّفَ بَعضَهُ وَأَعرَضَ عَن بَعضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَت مَن أَنبَأَكَ هَذا قالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} [سورة التحريم: 3]، فالنبي صلى الله عليه وآله لم يكن يعلم أنها قد نبأت بما أسره إليها إلى أن أظهره الله عليه. وكذلك آية سورة التوبة {وَمِمَّنْ حَولَكُم مِنَ الأَعرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعلَمُهُم نَحنُ نَعلَمُهُم} التي تدل بوضوح على عدم علم النبي صلى الله عليه وآله فعلاً بالمنافقين.

وتوجد روايات كثيرة تنفي صراحةً علم أهل البيت صلوات الله عليهم بكل شيء، نذكر بعضها:

  1. عَن مُعَمَّرِ بنِ خَلادٍ قالَ: سَأَلَ أَبا الحَسَنِ عليه السّلام رَجُلٌ مِن أَهلِ فارِسَ فَقالَ لَه أتَعلَمُونَ الغَيبَ؟ فَقالَ: {قالَ أَبُو جَعفَرٍ عليه السّلام يُبسَطُ لَنا العِلمُ فَنَعلَمُ ويُقبَضُ عَنّا فَلا نَعلَمُ، وقالَ: سِرُّ الله عَزَّ وجَلَّ أَسَرَّه إِلَى جَبرَئِيلَ عليه السّلام وأَسَرَّه جَبرَئِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وأَسَرَّه مُحَمَّدٌ إِلَى مَن شاءَ الله}[2].
  2. عَن عَمّارٍ السّاباطِي قالَ سَأَلتُ أَبا عَبدِ الله عليه السّلام عَنِ الإِمامِ يَعلَمُ الغَيبَ؟ فَقالَ: {لا، ولَكِن إِذا أَرادَ أَن يَعلَمَ الشَّيءَ أَعلَمَه الله ذَلِكَ}[3].
  3. عن صفوان بن يحيى قال: سمعت أبا الحسن عليه السّلام يقول: كان جعفر بن محمد عليهما السّلام يقول: {لولا أنا نزداد لأنفدنا}[4].
  4. عن سليمان الديلمي قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام فقلت له: سمعتك وأنت تقول غير مرة: {لولا أنا نزداد لأنفدنا} فقال: {أما الحلال والحرام فقد أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله بكماله وما يزاد الإمام في حلال ولا حرام}، قلت له: فما هذه الزيادة؟ فقال: {في سائر الأشياء سوى الحلال والحرام}[5].
  5. عَن سَمَاعَةَ عَن الإمام الكاظم سلام الله عليه قَالَ: قُلْتُ لَه أكُلُّ شَيءٍ فِي كِتَابِ الله وسُنَّةِ نَبِيِّه صلى الله عليه وآله أَوْ تَقُولُونَ فِيه قَالَ: {بَل كُلُّ شَيءٍ فِي كِتَابِ الله وسُنَّةِ نَبِيِّه صلى الله عليه وآله}[6].
  6. عن الإمام الصادق سلام الله عليه: {يُبسَطُ لَنا فَنَعلَمُ، ويُقبَضُ عَنّا فَلا نَعلَمُ، وَالإِمامُ يُولَدُ وَيلِدُ، ويَصِحُّ ويَمرَضُ، ويَأكُلُ ويَشرَبُ، ويَبولُ ويَتَغَوَّطُ، ويَفرَحُ ويَحزَنُ، ويَضحَكُ ويَبكي، ويَموتُ ويُقبَرُ، ويُزادُ فَيَعلَمُ. ودَلالَتُهُ في خَصلَتَينِ: فِي العِلمِ، وَاستِجابَةِ الدَّعوَةِ. وكُلُّ ما أخبَرَ بِهِ مِنَ الحَوادِثِ الَّتي تَحدُثُ قَبلَ كَونِها كَذلِكَ، بِعَهدٍ مَعهودٍ إلَيهِ مِن رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله تَوارَثَهُ مِن آبائِهِ عليهم السّلام. وكَوْنُ ذلك ممّا عَهده إليه جبرئيل عن علام الغيوب}[7].
  7. عن الباقر سلام الله عليه: {لو انا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من كان قبلنا ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه فبينها لنا}[8].
  8. عن الإمام الصادق سلام الله عليه: {والله ما نقول بأهوائنا ولا نقول برأينا الا ما قال ربنا}[9].
  9. روي أن رجلاً سأل الإمام الصادق سلام الله عليه عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل إن كان كذا وكذا ما كان القول فيها؟ فقال له: {مهما أجبتك فيه لشيء فهو عن رسول الله صلى الله عليه وآله، لسنا نقول برأينا من شيء}[10].
  10. عن جابر بن يزيد عن الباقر سلام الله عليه: {يا جابر إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلى الله عليه وآله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم}[11].
  11. عن أمير المؤمنين سلام الله عليه من كلام له قبل قتله: {أَيُّها النّاسُ، كُلُّ امرِئٍ لاقٍ ما يَفِرُّ مِنهُ فِي فِرارِهِ. الأَجَلُ مَساقُ النَّفسِ، وَالهَرَبُ مِنهُ مُوافاتُهُ. كَم أَطْرَدْتُ الأَيّامَ أَبحَثُها عَن مَكنُونِ هَذا الأَمرِ، فَأَبَى اللهُ إلا إِخفاءَهُ! هَيهاتَ عِلمٌ مَخزُونٌ}[12].

وحول هذا الكلام قال ابن ميثم البحراني: (وقوله: {كم أطردت الأيّام}. أي صيّرتها طريدة لي أتّبع بعضها بعضاً بالبحث وتعرّف مكنون هذا الأمر: أي الَّذي وقع له من القتل، وذلك المكنون هو وقته المعيّن بالتفصيل ومكانه، فإنّ ذلك ممّا استأثر الله تعالى بعلمه كقوله تعالى {إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلمُ السّاعَةِ وَيُنَزِّلُ} وإن كان قد أخبره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بكيفيّة قتله مجملاً كما روى عنه أنّه قال: {ستضرب على هذه - وأشار إلى هامّته - فيخضب منها هذه - وأشار إلى لحيته -}. وعنه أنّه قال: {أتعلم من أشقى الأوّلين قال: نعم عاقر الناقة. فقال له: أتعلم من أشقى الآخرين قال: لا. قال: من يضربك هاهنا فيخضب هذه}. وأمّا بحثه هو فعن تفصيل الوقت والمكان ونحوهما من القرائن المشخّصة، وذلك البحث إمّا بالسؤال من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مدّة حياته وكتمانه إيّاه أو بالفحص والتفرّس من قرائن أحواله في سائر أوقاته مع الناس. فأبى الله إلا أن تخفى عنه تلك الحال. {هيهات}: أي بعد ذلك العلم فهو علم مخزون)[13].

  1. عن ابن المغيرة، قال: كنت عند أبي الحسن عليه السلام أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن عليه السلام فقال يحيى: جعلت فداك انهم يزعمون أنك تعلم الغيب؟ فقال: {سبحان الله سبحان الله ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي الا قامت}. قال، ثم قال: {لا والله ما هي الا وراثة عن رسول الله صلى الله عليه وآله}[14].
  2. عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنهم يقولون، قال: {وما يقولون؟} قلت: يقولون تعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب، فرفع يده إلى السماء، وقال: {سبحان الله سبحان الله، لا والله ما يعلم هذا الا الله}[15].
  3. في دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين سلام الله عليه: {وَمالي لا أبكي وَلا أَدري اِلى ما يَكُونُ مَصيري}. بل إن مجمل أدعيتهم سلام الله عليهم إنما ينبئ عن محدودية علمهم وأنهم لا يحيطون علماً بكل شيء.

وامتثالاً لما ورد في الكتاب والسنة فإن علمائنا الأبرار قد أكدوا محدودية هذا العلم وأنه لا يسع كل شيء رغم أن أهل البيت صلوات الله عليهم هم أعلم الناس. وفيما يلي بعض أقوالهم:

  1. قال الشيخ المفيد: (فأما إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون الغيب فهو منكر بيِّن الفساد، لأن الوصف بذلك إنما يستحقه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد، وهذا لا يكون إلا الله عزّ وجلّ، وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلا من شذّ عنهم من المفوضة ومن انتمى إليهم من الغلاة)[16].

وقال أيضاً: (وليس من شرط الأنبياء عليهم السلام أن يحيطوا بكل علم، ولا أن يقفوا على باطن كل ظاهر. وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وآله أفضل النبيين وأعلم المرسلين، ولم يكن محيطاً بعلم النجوم، ولا متعرضاً لذلك، ولا يتأتّى منه قول الشعر ولا ينبغي له. وكان أمياً بنص التنزيل، ولم يتعاط معرفة الصنائع. ولما أراد المدينة استأجر دليلاً على سنن الطريق. وكان يسأل عن الأخبار ويخفى عليه منها ما لم يأت به إليه صادق من الناس)[17].

  1. ذكر السيد المرتضى: (ومعاذ الله أن نوجب له "أي الإمام عليه السلام" من العلوم إلا ما تقتضيه ولايته ويوجبه ما وَلِيَه وأُسند إليه من الأحكام الشرعية. وعلمُ الغيب خارج عن هذا)[18]، ثم قال: (وأبطلنا قول من خالفنا وذهب إلى جواز كونه "أي الإمام عليه السلام" غير عالم بكثير من الأحكام المشروعة التي تعبد بعلمها، وندب إلى معرفتها، فأين هذا من العلم بالحرف والمهن والقيم والأروش، وكل ذلك مما لا تعلق له بالشريعة ولا كُلف أحد من الأمة إماماً كان أو مأموماً العلم به لا على سبيل الندب ولا الايجاب؟ وإنما تكليفهم المتعلق بالشريعة في ذلك أن يرجعوا إلى أهل القيم والمعرفة بالصناعات، لا أن يقوموا ذلك بأنفسهم).
  2. قال شيخ الطائفة الطوسي: (إنما لا يجوز عليهم السهو والنسيان فيما يؤَدُّونه عن الله، فأما غير ذلك فإنه يجوز أن ينسوه أو يسهو عنه مما لم يؤد ذلك إلى الاخلال بكمال العقل، وكيف لا يجوز عليهم ذلك وهم ينامون ويمرضون ويغشى عليهم، والنوم سهو، وينسون كثيراً من متصرفاتهم أيضاً وما جرى لهم فيما مضى من الزمان)[19].

وقال أيضاً: (وإنما قلنا "إنه يجب أن يكون أفضل فيما هو إمام فيه" لأنه يجوز أن يكون في رعيته من هو أفضل منه فيما ليس هو إمام فيه ككثير من الصنائع والمهن وغير ذلك، والمعتبر كونه أفضل فيما هو إمام فيه)[20]. ثم قال: (ولا يلزم إذا قلنا أنه يجب أن يكون عالماً بما أسند إليه، أن يكون عالماً بما ليس هو إماماً فيه كالصنائع وغير ذلك، لأنه ليس هو رئيساً فيها. ومتى وقع فيها تنازع من أهلها ففرضه الرجوع إلى أهل الخبرة والحكم بما يقولونه. وكل من وَلِيَ ولاية صغرت أو كبرت كالقضاء والإمارة والجباية وغير ذلك فإنه يجب أن يكون عالماً فيما أسند إليه ولا يجب أن يكون عالماً بما ليس بمستند إليه، لأن من ولي القضاء لا يلزم أن يكون عالماً بسياسة الجند، ومن ولي الأمارة لا يلزم أن يكون عالماً بالأحكام، وهكذا جميع الولايات، ولا يلزم أيضاً أن يكون عالماً بصدق الشهود والمقرين على أنفسهم، لأنه إنما جعل إماماً في الحكم بالظاهر دون الباطن. وإنما يجب أن يكون الإمام عالماً بما أسند إليه في حال كونه إماماً، فأما قبل ذلك فلا يجب أن يكون عالماً. ولا يلزم أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام عالماً بجميع الشرع في حياة النبي صلى الله عليه وآله، أو الحسن والحسين عليهما السلام عالِمَين بجميع ذلك في حياة أبيهما، بل إنما يأخذ المؤهل للإمامة العلم ممن قبله شيئاً بعد شيء ليتكامل عند آخر نفس من الإمام المتقدم عليه بما أسند إليه).

  1. قال الشيخ الطبرسي: (ووجدت بعض المشايخ، ممن يتسم بالعدوان والتشنيع، قد ظلم الشيعة الإمامية في هذا الموضع من تفسيره، فقال: هذا يدل على أن الله سبحانه يختص بعلم الغيب، خلافاً لما تقول الرافضة: إن الأئمة يعلمون الغيب! ولا شك أنه عنى بذلك من يقول بإمامة الاثني عشر، ويدين بأنهم أفضل الأنام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هذا دأبه وديدنه فيهم، يشنع في مواضع كثيرة من كتابه عليهم، وينسب الفضائح والقبائح إليهم، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق، فإنما يستحق الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات، لا بعلم مستفاد. وهذه صفة القديم سبحانه، العالم لذاته، لا يشركه فيها أحد من المخلوقين. ومن اعتقد أن غير الله سبحانه يشركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملة الاسلام.

فأما ما نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام، ورواه عنه الخاص والعام، من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها، مثل قوله يومئ به إلى صاحب الزنج: {كأني به يا أحنف وقد سار بالجيش الذي ليس له غبار، ولا لجب، ولا قعقعة لجم، ولا صهيل خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم، كأنها أقدام النعام}. وقوله يشير إلى مروان: {أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقى الأمة منه ومن ولده موتاً أحمر}. وما نقل من هذا الفن عن أئمة الهدى عليهم السلام من أولاده مثل ما قاله أبو عبد الله عليه السلام لعبد الله بن الحسن، وقد اجتمع هو وجماعة من العلوية والعباسية، ليبايعوا ابنه محمداً: {والله ما هي إليك، ولا إلى ابنيك، ولكنها لهم - وأشار إلى العباسية - وإن ابنيك لمقتولان}. ثم نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري، فقال له: {أرأيت صاحب الرداء الأصفر؟} - يعني أبا جعفر المنصور - قال: نعم. فقال: {إنا والله نجده يقتله}، فكان كما قال. ومثل قول الرضا عليه السلام: {بورك قبر بطوس، وقبران ببغداد}، فقيل له: قد عرفنا واحداً فما الآخر؟ فقال: {ستعرفونه}. ثم قال: {قبري وقبر هارون هكذا}- وضم إصبعيه - وقوله في القصة المشهورة لأبي حبيب النباحي، وقد ناوله قبضة من التمر: {لو زادك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لزدناك} وقوله في حديث علي بن أحمد الوشا، حين قدم "مرو" من "الكوفة": {معك حلة في السفط الفلاني دفعتها إليك ابنتك وقالت اشتر لي بثمنها فيروز}. والحديث مشهور. إلى غير ذلك مما روي عنهم عليهم السلام، فإن جميع ذلك متلقى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مما أطلعه الله عليه، فلا معنى لنسبة من روى عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنه يعتقد كونهم عالمين للغيب. وهل هذا إلا سبب قبيح، وتضليل لهم، بل تكفير لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير، والله يحكم بينه وبينهم، وإليه المصير)[21].

  1. ذكر الشيخ الحر العاملي: (قد تواترت الأخبار أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السلام ما كانوا يعلمون الغيب كله، والقرآن صريح بذلك، نعم كانوا يعلمون كثيراً من المغيبات بتعليم الله سبحانه لهم، وكان علمهم يزيد في ليالي القدر والجمعة وغيرها، وكانوا إذا أرادوا أن يعلموا شيئاً علموا)[22].
  2. قال السيد الطباطبائي: (وقوله: {وَما أَدرِي ما يُفعَلُ بِي وَلا بِكُم} نفي لعلم الغيب عن نفسه فهو نظير قوله: {وَلَو كُنتُ أَعلَمُ الغَيبَ لاستَكثَرتُ مِنَ الخَيرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ} الاعراف: 188، والفرق بين الآيتين أن قوله: {وَلَو كُنتُ أَعلَمُ الغَيبَ} الخ، نفي للعلم بمطلق الغيب واستشهاد له بمس السوء وعدم الاستكثار من الخير، وقوله: {وَما أَدرِي ما يُفعَلُ بِي وَلا بِكُم} نفي للعلم بغيب خاص وهو ما يفعل به وبهم من الحوادث التي يواجهونها جميعاً، وذلك أنهم كانوا يزعمون أن المتلبس بالنبوة لو كان هناك نبي يجب أن يكون عالماً في نفسه بالغيوب ذا قدرة مطلقة غيبية كما يظهر من اقتراحاتهم المحكية في القرآن. فأمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يعترف - مصرحاً به - أنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم فينفي عن نفسه العلم بالغيب، وأن ما يجري عليه وعليهم من الحوادث خارج عن إرادته واختياره وليس له في شيء منها صنع، بل يفعله به وبهم غيره وهو الله سبحانه.

فقوله: {وَما أَدرِي ما يُفعَلُ بِي وَلا بِكُم} كما ينفي عنه العلم بالغيب ينفي عنه القدرة على شيء مما يصيبه ويصيبهم مما هو تحت أستار الغيب.

ونفي الآية العلم بالغيب عنه صلى الله عليه وآله وسلم لا ينافي علمه بالغيب من طريق الوحي كما يصرح تعالى به في مواضع من كلامه كقوله: {ذلكَ مِن أَنباءِ الغَيبِ نُوحِيه إِلَيكَ} آل عمران: 44، يوسف: 102، وقوله: {تِلكَ مِن أَنباءِ الغَيبِ نُوحِيها إِلَيكَ} هود: 49، وقوله: {عالِمُ الغَيبِ فَلا يُظهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَداً إِلا مَنِ ارتَضَى مِن رَسُولٍ} الجن: 27، ومن هذا الباب قول المسيح عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُم بِما تَأكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُم} آل عمران: 49، وقول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن: {لا يَأتِيكُما طَعامٌ تُرزَقانِهِ إِلّا نَبَّأتُكُما بِتَأوِيلِهِ قَبلَ أَن يَأتِيَكُما} يوسف: 37.

وجه عدم المنافاة أن الآيات النافية للعلم بالغيب عنه وعن سائر الأنبياء عليهم السلام إنما تنفيه عن طبيعتهم البشرية، بمعنى أن تكون لهم طبيعة بشرية أو طبيعة هي أعلى من طبيعة البشر من خاصتها العلم بالغيب، بحيث يستعمله في جلب كل نفع ودفع كل شر كما نستعمل ما يحصل لنا من طريق الأسباب، وهذا لا ينافي انكشاف الغيب لهم بتعليم إلهي من طريق الوحي. كما أن إتيانهم بالمعجزات فيما أتوا بها ليس عن قدرة نفسية فيهم يملكونها لأنفسهم بل بإذن من الله تعالى وأمر، قال تعالى: {قُل سُبحانَ رَبِّي هَل كُنتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً} الاسراء: 93، جواباً عما اقترحوا عليه من الآيات، وقال: {قُل إِنَّما الآياتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} العنكبوت: 50، وقال: {وَما كانَ لِرَسُولٍ أَن يَأتِيَ بِآيَةٍ إِلّا بِإِذنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالحَقِّ} المؤمن: 78.

ويشهد بذلك قوله بعده متصلاً به: {إِن أَتَّبِعُ إِلا ما يُوحَى إِلَيَّ} فإن اتصاله بما قبله يعطي أنه في موضع الاضراب، والمعنى: إني ما أدري شيئا من هذه الحوادث بالغيب من قبل نفسي وإنما أتبع ما يوحى إلي من ذلك)[23].

  1. قال الشيخ محمد جواد مغنية: (وهذا يتفق تماماً مع قول الشيعة الإمامية بأن الإمام عبد من عبيد الله، وبشر في طبيعته، وصفاته، وليس ملكاً ولا نبياً. أما رئاسته العامة للدين والدنيا فإنها لا تستدعي أكثر من العلم بأحكام الشريعة، وسياسة الشؤون العامة. وكيف ينسب إلى الشيعة الإمامية القول بأن أئمتهم يعلمون الغيب، وهم يؤمنون بكتاب الله، ويتلون قوله تعالى حكاية عن نبيه {لَو كُنتُ أَعلَمُ الغَيبَ لاستَكثَرتُ مِنَ الخَيرِ}. وقوله {إِنَّما الغَيبُ للهِ}. وقوله {قُل لا يَعلَمُ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ الغَيبَ إِلا اللهُ})[24]. ثم قال الشيخ مغنية: (وبكلمة: إن علوم الأئمة وتعاليمهم يحدها - في عقيدة الشيعة - كتاب الله وسنة نبيه، وإن كل إمام من الأول إلى الثاني عشر قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكل ما في هذين الأصلين من الألف إلى الياء، بحيث لا يشذ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلاً وتأويلاً، ولا شيء من سنة رسول الله قولاً وفعلاً وتقريراً، وكفى بمن أحاط بعلوم الكتاب والسنة فضلاً وعلماً، أن هذه المنزلة لا تتسنى ولن تتسنى لأحد غيرهم، ومن هنا كانوا قدوة الناس جميعاً بعد جدهم الرسول تماماً كالقرآن والسنة). واستشهد الشيخ بدعاء الإمام زين العابدين سلام الله عليه في الصحيفة السجادية: {اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَنزَلتَهُ عَلَى نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلّى اللّه عليه وآله مُجمَلاً، وَأَلهَمتَهُ عِلمَ عَجائِبِهِ مُكَمَّلاً، وَوَرَّثتَنا عِلمَهُ مُفَسَّراً، وَفَضَّلتَنا عَلَى مَن جَهِلَ عِلمَهُ، وَقَوَّيتَنا عَلَيهِ لِتَرفَعَنا فَوقَ مَن لَم يُطِق حَملَهُ}.

وبعد الآيات البينات والأحاديث الشريفة وأقوال علماء الطائفة يأتي من يغلو في أهل البيت صلوات الله عليهم ويجعلهم كأنهم أرباب مع الله تعالى ويقول عن الإمام العسكري سلام الله عليه: (إنه محيط "بعلم الله"، وعلم الله تعالى لا حَدّ له ولا عَدّ له)[25]، ولم يقل إنه محيط ببعض علم الله مثلاً. وقد استند إلى رواية مفردة ضعيفة الدلالة على هذا. ووجه اتهامنا له بالغلوّ في هذا القول هو أن علم الله جلّ وعلا إنما هو من صفات الذات الإلهية وليس من صفات الأفعال، ومَن عنده علم الله تعالى لا يصح وصفه بأنه بشر، بل هو فوق البشرية بكثير، وسوف يمتلك الصفات الإلهية ويستطيع أن يفعل ما يشاء ويعلم ما في نفس الله ويحيط بالله علماً، بل سيكون إلهاً مثل الله سبحانه أو سيكون هو الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً. قال تعالى: {لَو كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرشِ عَمّا يَصِفُونَ} [سورة الأنبياء ع: 22]. لذا لا يمكن أن نصف أحداً بأنّ لديه علم الله، ولا يوجد أحد من الخلق يمكنه تحمل هذا العلم غير المحدود، وصريح القرآن الكريم ينفي وجود هكذا صفة لأحد من الخلق كما في قول الله تعالى: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [سورة الشورى: 11] وقوله جلّ شأنه: {يَعلَمُ ما بَينَ أَيدِيهِم وَما خَلفَهُم وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلماً} [سورة طه: 110] وغيرها من الآيات الواضحة الدلالة التي مرّ ذكر بعضها آنفاً. بل إن أصل الدين قائم على المغايرة بين الله تعالى وبين خلقه في العلم والقدرة وكل صفات الله سبحانه.

وهكذا غلوّ يحسَب قائله أنه يُعظِّم به أهل البيت صلوات الله عليهم، لكنه في الواقع يعصي أمرهم فيما ورد عنهم من النهي عن الغلو فيهم، ويخرجهم عن البشرية التي صرّح بها القرآن المجيد لأكرم الخلق محمد صلى الله عليه وآله، أي إنه سيخلق تناقضاً بين القرآن الكريم وبين دعواه هذه، وهذا يكشف زيف كلامه. ويكفينا في تسقيط هذا الغلوّ كلام أهل البيت صلوات الله عليهم في مختلف أحاديثهم وأدعيتهم الذي ينفي بوضوح هذا الافتراء عليهم، وكذا سيرتهم التي تدل على عدم إحاطتهم العلم بكل شيء، وأقوال علماء الطائفة كما مرّ علينا آنفاً. ومن الغريب والمؤسف أن يستدل البعض بروايات آحاد لا توجب علماً ويتركون كلام الله ورائهم ظهرياً، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَى قُلُوبٍ أَقفالُها} [سورة محمد |: 24].

ومما يتعلق بالموضوع ننقل هذا النص النافع: (لا يسعنا العبور على هذه المسألة ببساطة، وهي أن الثورة التي قادها نبيّنا صلى الله عليه وآله والأئمّة الأطهار عليهم السلام في العالم إنما كانت ثورة في دائرة العقائد والأخلاق والأحكام، وإنّ ما تمخّضت عنه رسالة هؤلاء المعصومين لم يكن من الكيمياء أو الفيزياء أو الرياضيات أو الطبّ. وبطبيعة الحال فقد تمكَّن المسلمون لاحقاً ـ وذلك بتأثير من الرؤية الإسلامية ـ من الإبداع في هذه العلوم، وكانت لهم خطوات جبّارة فيها، بَيدَ أن هذا التأثير على المدى الطويل وبالواسطة شيء، والثورة المباشرة في هذا الشأن شيء آخر. لقد شارك النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله في الكثير من الحروب الإسلامية، ولم تشهد أيّ واحدةٍ من هذه الحروب تقدُّماً على مستوى التصنيع العسكري وتطوير السلاح من قبل النبيّ، بحيث يتفوّق فيه على ما يمتلكه الأعداء من الأسلحة في ذلك الوقت. وحتّى ما كان في حرب الخندق والأحزاب، الذي كان باقتراحٍ وتخطيط من سلمان رضي الله عنه، وهو الأمر الذي أثار دهشة العرب، لم يكن اختراعاً من رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا اختراعاً من سلمان الفارسي، وإنما كان حفر الخندق جزءاً من التكتيكات القتالية في ذلك العصر، غاية ما هنالك أنّه لم يكن معهوداً في شبه الجزيرة العربية، وكان معمولاً به في أماكن أخرى، مثل: إيران. وعليه فإن الثورة التي قادها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله إنما كانت ثورة في العقائد والأحكام والأخلاق، وحتّى ما وقع من الحروب لم يُحدث فيه الإسلام نقلةً نوعية في مستوى التسلُّح، وإنما حصلت النقلة في الغايات والقِيَم القتالية على مستوى الأخلاق والأحكام التي ميَّزت الحروب الإسلامية من حروب غير المسلمين)[26].

 

[1]) تفسير الميزان، ج 20، ص 310.

[2]) الكافي، ج ١، ص 256.

[3]) الكافي، ج ١، ص 257، والاختصاص، ص 286.

[4]) الكافي، ج ١، ص 254.

[5]) الاختصاص، ص 313.

[6]) الكافي، ج ١، ص 62، ومثله في الاختصاص، ص 293.

[7]) الخصال، ص ٥٤٢.

[8]) بصائر الدرجات، ص 319.

[9]) بصائر الدرجات، ص 320.

[10]) بصائر الدرجات، ص 320.

[11]) الاختصاص، ص 280.

[12]) نهج البلاغة، الخطبة رقم 149.

[13]) شرح نهج البلاغة، ج ٣، ص ٢٠٩.

[14]) اختيار معرفة الرجال، ج ٢، ص ٥٨٧.

[15]) اختيار معرفة الرجال، ج ٢، ص 588.

[16]) أوائل المقالات، ص ٦٨.

[17]) المسائل العكبرية، ص ٣٤.

[18]) الشافي في الامامة، ج ٣، ص ١٦٤.

[19]) تفسير التبيان، ج ٤، ص ١٦٥.

[20]) الاقتصاد، ص 191.

[21]) مجمع البيان، ج ٥، ص ٣٥٢، عند تفسير الآية 123 من سورة هود ع: {وَللهِ غَيبُ السَّماواتِ وَالأَرضِ}.

[22]) إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج ٥، ص ٣٧٧.

[23]) تفسير الميزان، ج 18، ص 190.

[24]) الشيعة في الميزان، ص ٤٢.

[25]) مقال بعنوان: (الإمام محيط بعوالم الوجود) على شبكة المعلومات "الانترنيت".

[26]) علم الأئمة عليهم السلام في أصول الكافي، موقع "نصوص معاصرة".


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مظفر الشريفي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/06/18



كتابة تعليق لموضوع : دعوى علم أهل البيت صلوات الله عليهم بكل شيء
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net