صفحة الكاتب : السيد عبد الستار الجابري

البعد الروحي للاحرام  - التتمة ح4 " لبيك داعيا الى دار السلام لبيك" 
السيد عبد الستار الجابري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم ﴿ وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الايات لقوم يذكرون* لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون﴾ 
وقال جل شانه ﴿ انما مثل الحياة الدنيا كما انزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما ياكل الناس والانعام حتى اذ اخذت الارض زخرفها وازينت وظن اهلها انهم قادرون عليها اتاها امرنا ليلا او نهارا فجعلناها حصيدا كان لم تغن بالامس كذلك نفصل الايات لقوم يتفكرون* والله يدعو الى دار السلام ويهدي من يشاء الى صراط مستقيمن﴾ 
وردت لفظة دار السلام في القران مرتان الاولى في سورة الانعام وكانت تتحدث عن ان القوم الذين يذّكرون سيكون جزاؤهم دار السلام عند ربهم، فدار السلام في هذه الاية جزاء لصنف خاص من الناس، هم من وعد الله تبارك وتعالى ان يكون وليهم، والولاية هنا مقام خاص غير مقام الربوبية فالله رب الجميع وخالق الجميع ورازق الجميع الا انه في مقام الولاية ولي الذين يذّكرون دون غيرهم.
والمذّكرون هم الذين عملوا في دار الدنيا على اساس التفصيل الوارد في الايات الشريفة، فهم المتبعون للصراط الالهي المستقيم.
ففي هذا المقطع من التلبية اشارة الى عدة مطالب مهمة في مسالة السير الى الله وتحقيق الاثار المعنوية للنسك:
1.  ان هناك داران دار الدنيا ذات المتع الزائلة، ودار السلام.
2.  ان دار الدنيا يجتمع فيها البر والفاجر وكل منهما مخلوق لله مرزوق منه يبتليه الله في هذه الدار بانواع الابتلاءات.
3.  ان دار السلام يختص بها الابرار دون غيرهم من الخلق.
4.  ان الرب والخالق والرازق والمحيي والمييت واحد لكن الاولياء مختلفون، فالله ولي الذين امنوا، والطاغوت ولي الذين كفروا.
5.  ان الطريق الالهي بين واضح وقد ذكرت تفاصيله في ايات القران الكريم والسنة المطهرة، وما عداه طرق ضلال وانحراف، وان الذي لا يتبع سبيل الهدى والصراط المستقيم الذي بيتنه وفصلته الايات الشريفة فهو سالك سبل الضلال والردى.
هذا ما يستفاد من دلالة الايتين الشريفتين من سورة الانعام المار ذكرهما، وما يستفاد من الايتين الشريفتين في سورة يونس (عليه السلام) فبيان لمقارنة للفرق بين دار الدنيا ذات الزينة المحفوفة بالمكاره والدار الاخرة:
1.  ان دار الدنيا دار التغير والتحول وعدم الثبات وان ما فيها من خيرات ونعم وجمال وقوة وقدرة آني لا دوام له.
2.  وفي واقع الحياة الدنيا ان التقدير فيها جار على اساس تاثير العلل المادية فعند تحقق العلة التامة المركبة من وجود المقتضي وتوفر الشرط وزوال المانع فان الاثار تترتب وتظهر النتائج، ولكن قطف ثمار النتائج متوقف على عدم وجود علل اخرى تتسبب في زوال ما تحقق من نتائج نتيجة لتحقق الاجزاء الثلاث للعلة الاولى، فان التقدير الالهي ربما يقتضي تحقق علة زوال ما تحقق، وهذا ما اشارت له الاية 24 من سورة يونس (عليه السلام)، فان كل شأن دنيوي ينطبق عليه المثال القراني، فنبات الارض مثال للمقتضي اذ ان البذرة فيها مقتضي الانبات وشرط وجود الرطوبة اللازمة يحققها الماء، فاذا اختلط الماء بالنبات ارتفع المانع فينبت البذر، وبوجود الارض واستمرار الماء يتحقق شرط نمو النبات، وهذا يجري في حياة الانسان المادية في جميع تفاصيلها، فالسلطة متى ما توفرت اجزاء عليتها التامة من القدرة والمال والاتباع وضعف المنافس فانها ستكون من نصيب اولئك الاشخاص، وكذا الحال في التجارة والصناعة والنشاطات المختلفة.
3.  يؤكد القران الكريم على حقيقة عملية مشهودة للجميع وهي ان مظاهر الاقتدار الدنيوي نتيجتها الافول مهما امتد بها الزمن، لان دوام الاقتدار فرع دوام علته التامة وغالبا ما يتخلف جزئها الثالث – عدم المانع – حيث ان الشروط في الغالب تكون ذات ديمومة سواء كانت تكوينية كالامطار في المثال القراني او اجتماعية كالمال والاتباع، او تكون هناك علة تامة يكون المقتضي فيها نتاج العلة الاولى، ولذا عبر القران الكريم عن تلك الشؤون الدنيوية ﴿حتى اذا اخذت الارض زخرفها وازينت وظن اهلها انهم قادرون عليها اتاها امرنا ليلا او نهارا فجعلناه حصيدا كان لم تغن بالامس﴾ فالامر الذي يرد الى الارض التي اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج هو المانع من استدامة تلك الحال من الازدهار، وتلك الموانع اسقطت عبر التاريخ امبراطوريات وممالك وانهت حضارات وازالت امم.
فلا يمضي الزمن حتى يظهر لذي السلطان من يعارض سلطانه سواء من بين رعيته او من قوى خارجية فيتبدل رخاؤه شقاء ونعيمه بلاء وغناه فقرا وامنه خوفا حتى يزول السلطان عن صاحبه، ومثله الحال في ذي الثروة والتجارة والزعامة الاجتماعية والتربع على كرسي التخصص العلمي.
فحال الدنيا التغير والزوال وعدم الثبات والتقلب والمغرور من ظن ثبوت الحال فيها، وكما قيل ان دوام الحال من المحال.
واما دار السلام فهي دار النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال﴿وجنات لهم فيها نعيم مقميم﴾ لهم فيها ما يشاؤون عند ربهم دانية عليهم قطوفها ويحلون فيها اساور من ذهب ولباسهم فيها حرير، وفضلا عن تلك النعم العظيمة والهبات الجليلة فان اعظم نعمة تغدق على من في دار السلام هي رضوان الله تعالى ﴿ورضوان من الله اكبر﴾.
فدعوة الله الى درا السلام تعني ان الله تعالى يدعو الناس الى الاستفادة من وجودهم في دار الدنيا لبناء دار الاخرة، وان يعي الانسان ان مرحلة الحياة الدينا هي الطريق الى دار السلام اذا احسن التعاطي مع مجريات الاحداث في حياته الدنيا وسار على المنهج الذي رسمه الله تعالى له ﴿واطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم﴾ اولي الامر الذين لا يخرجون الناس من الهدى ولا يسوقونهم في طرق الضلال، عدل الكتاب العزيز واحد الثقلين.
ومن هنا فان ما يستفاد من الايات الكريمة في سورتي الانعام ويونس اللتان تحدثتا عن دار السلام :
1.  ان دار السلام لا يناهلها الا الانسان الذي سلك الطريق الموصل اليها، واما من سلك طرقا اخرى فانها تشط به عن طريق الحق وتبعده عن نيل السعادة في الدر الاخرة.
2.  ان الطريق الى دار السلام قد بين في ايات الكتاب العزيز وعلى الباحث عن طريق النجاة ان ياتي القران من دون اراء وافكار وعقائد مسبقة، لان من ياتي القران برأي سابق لا يطلب الهدى في القران، بل يحاول ان يطوع القران حسب هواه، فمن طلب الهدى في الكتاب العزيز عليه ان يلقي بما عنده وراء ظهره كي تبنى شخصيته على اساس معطيات ايات الذكر الحكيم كي يتمكن من استيضاح الطريق القويم والصراط المستقيم ليسلكه فيهدى بتوفيق الله الى دار الخلود والسعادة الابدية.
3.  ان الذي ينكب عن الصراط المستقيم ويمضي على الانحراف عن الجادة السوية الى نهاية المطاف فانه سيخسر حياته الابدية لان تلك الدار خالصة للمذّكرين.
4.  ان المذّكرين الذين يسلكون الطريق الذي رسمه الله لهم سيكون الله وليهم والمتكفل لشؤونهم والاخذ بايديهم للوصول الى دار المقامة والخلد.
5.  لا يتحقق كون الانسان من المذّكرين الا بالاقتران بين العلم والعمل، فان العلم بلا عمل لا يوصل الى رضا الحق تبارك وتعالى، وكذلك فان العمل على غير هدى قد يقود الانسان الى مهاوي الضلال والردى، كالذي يسير تائها في الصحراء لا يزيده كثرة المسير الا بعدا.
6.  ان التوفيق للهداية من الاطاف الالهية فالله تعالى متفضل على الانسان ايجادا وارشادا وتوفيقا للهداية، فكل شيء في هذا الكون بين يدي الله تعالى يتصرف فيه كيف يشاء بما لا ينافي عدله ورحمته.
7.  من المجموع يتضح ان لا جبر في المسالة وان الله تعالى قد بين سبل الحق ووفق لسلوك ذلك السبيبل، وان الانسان قد يختار سبيل ااضلال بمحض ارادته اما لتركه العمل الموصل للحق او لسلوكه الطريق المبعد عنه.
الخلاصة
ان هذا المقطع من التلبية يتضح منه ان هناك دار سلام هي المحل الذي يسعى الانسان للوصول اليه لان الوصول اليها عنوان تحقق الكمال الانساني بتحقيقه لمقتضيات العبودية لله تبارك وتعالى فينال جزاءه بالخلود في دار السلام.
وان الله تعالى يدعو عباده لدار النعيم المقيم حبا بهم ورحمة لهم دون حاجة منه اليهم.
وهذا المقطع من التبلية تاكيد لهذه الحقيقة العظيمة، وتحقق هذه المعاني في قلب الناسك وعقله وارتكازها في وجدانه من شانها ان تبني من الناسك انسانا جديدا يعيش واقع السلوك الى رضى الرب تبارك وتعالى.
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد عبد الستار الجابري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/08/26



كتابة تعليق لموضوع : البعد الروحي للاحرام  - التتمة ح4 " لبيك داعيا الى دار السلام لبيك" 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net