قدسية الصداقة (2)
وصلنا في حوارنا السابق الى إننا نخبئ حتى عمّن نحبهم بعض نقاط ضعفنا خشية أن نفقدهم ، لكننا نبوح بكل أسرارنا لمن نتخذه صديقا وكأننا نستودعها في بئر عميقة لا يُرى قرارها أبدا .
وأنصح كل أب وأم أحتارا بشأن من شؤون أحد أولادهما ،او مدير متعجب من أمر موظف عزيز عليه ، ان يسألوا عنه صديقه المفضل.
ولعلّ بإمكاننا القول : الصديق هو الوحيد القادر على الأجابة عن أي سؤال محيّر يرفع العَجَبَ ، ويدفع الشبهة من غير أنْ يكشف أسرار صاحبه .
إنه بإختصار : حافظ الأسرار ، وحارس الأغوار ، والداعم لنا في كل إنتصار ، والعارف بما يجول في خواطرنا بالليل والنهار .
حينما نكون كتابا مفتوحا بين يديّ الصديق فإننا نأخذ منه عهدا غير منطوق ،ولا مكتوب، بان يكون سحابة بيضاء تظللنا أينما سرنا ، وتسعفنا بقطرات تروي ظمأنا قبل أن نبحث عن شربة ماء .
إنه يعرف تماما أننا نتألم بمجرد النظر إلينا ، ويسابقنا الى الإبتسامة قبل أن ننطق بالخبر المفرح ، ذلك إننا ننظر في مرآتنا حينما نكون في حضرة الصديق .
ولعلّ شكسبير قد نطق ضمنا بهذه المعاني العميقة لصفاة الصديق حينما قال :"الصديق الحقيقي هو الذي يشعر بألمك عندما تخفيه ".
إنها علاقة طاهرة لا مصلحة فيها سوى أن كل طرف يجد طعم الإنتصار الشخصي حينما يرى النجاح في عيني الطرف الآخر ، وكله ثقة بأن صديقه سيأخذ بيده على سلم النجاح .
ذلك النجاح أحلام مشتركة تتحق ،أو تخيب ، في مرحلة معينة من حياتنا ، وفيها تكون الصداقة في أوجها .. إنسجام نفسي ، وأسرار متبادلة مدفونة في أعماق سحيقة ، ومرآة تلوم صاحبها على كل فعل قد يسئ إليه ، وتقارب ذهني منقطع النظير .
والأهداف المشتركة ،والثقة المتبادلة ، والتفاهم على كل صغيرة وكبيرة بنظرات، أو بمجرد إيماءات من غير الحاجة الى كلام كثير أحوال تجسد أبهى صور الصداقة ، وتدلل بنحو لا لَبْسَ فيه على أن الإنسجام النفسي ،وقدسية العلاقة قد بلغا أعلى المراتب ، ولأن الأحلام " لغة عالمية مشتركة يعرفها حتى الأنسان البدائي" كما يقول إيريش فروم ، والأمر يزداد تطابقا وإنسجاما في ظل صداقة صدوقة ، حينها تكون قمة السعادة للطرفين بالسعي نحو تحقيق الهدف المشترك ، بتكاتف لا يُجارى حتى عند أكثر العائلات تماسكا ومحبة، فإذا تحقق الهدف ،وذاق الصديقان طعم الإنتصار معاً قد نصل الى نهاية الطريق .
ولست قاصدا هنا لمعنى السعادة المتناقصة كما يسميها علماء النفس ، وهم يؤكدون ،أن " السعادة تنحصر في الطريق نحو تحقيق الهدف ،وتتلاشى شيئا فشيئا بعد بلوغه".
يقول علي الوردي : (من طبيعة الإنسان أنه عندما يصل الى الهدف الذي كان يطمح إليه وتمر عليه في ذلك فترة من الزمن ، يصبح الهدف إعتياديا مألوفا في نظره ، وهو قد يسأم منه بعدئذ ، ويأخذ في السعي نحو هدف آخر ) .
أن تلك السعادة ياشهرزاد كانت مبنية على سعي طرف واحد للوصول الى هدف واحد وهنا قد يتحقق معنى (السعادة المتناقصة) ، وإنْ كنت متحفظا على إطلاقها ، وسنأتي على ذكر الأسباب في وقت لاحق ، لكننا هنا نتحدث عن هدف مشترك ، كان السعي إليه أحلاما متناغمة ، والإنتصار المتحقق ببلوغه كان نتاج إنسجام ودعم متبادل وتقارب في الرؤى قبل الأحلام ، وقد تتناقص ذروة السعادة عند بلوغ الهدف المشترك ، لكن ماتحقق على الطريق من تلاحم وتكاتف وإعتماد متبادل أعظم من ان يتأثر بسعادة متناقصة.
الخطر الذي أتحدث عنه أعظم من ذلك ، وتخيلي معي ياشهرزاد أن ذلك الهدف المشترك بين الصديقين الصدوقين على ربوة عالية ـ وقد بذلا جهدا جهيدا في الوصول إليه ، فلما بلغا القمة وتعانقا فرحا بالإنتصار ، وبينما أنفاسهما مازالت تلهث ، نظر كل واحد منهما الى جهة مختلفة ، فرأى الأول مساحات خضراء أراد أن يواصل مشواره نحوها ، بينما أمعن الآخر النظر في المروج ، فوجد فيما بينها ألغاما فتاكة ، وسرعان ما طلب الأول من صديقه الصدوق أن يكملا المشوار ، لكنه تفاجأ برفض قاطع منه ، وهو يحذره من الخطر المحدق بهما ، لكن الأول لا يرى سوى الخضراء والأمل ، وهنا وصلا الى مفترق الطريق ، الأول سار بعيدا نحو جنته المنشودة ، والثاني عزم على أن يسلك طريقا ثالثا بعيدا عن الخطر والأمل الذي لايراه إلا صاحبه .
الآن ياشهرزاد سنعود الى نقطة البداية .. هل ترين فيما ذكرناه خذلانا وخيانة ؟!
- يدا بيد وحققا الهدف المنشود معا، لكن تلك الخطوات الجسام التي قطعاها جنبا الى جنب قد طبعت في عقليهما قناعات متفاوتة ، وكل متأثر بحتمياته الوراثية والتربوية وحتى البيئية ،كانا صادقين متكاتفين لكنهما بلغا الهدف بعبرٍ ودروس مختلفة ، ومن ذلك المكان المرتفع نظرا الى وجهتين مختلفتين من الحقيقة فتفارقا بمحبة مُقتَنعين بفلسفة حياتية عميقة مفادها : "كما أن الحياة مراحل ، فالصداقة مراحل .. لا ضغينة ولا خذلان ".
شهرزاد : يا الله! .. تجبرني في كل مرة على طرح السؤال بطريقة مختلفة ، حسنا ياشهريار دعني أقول لك : ليس شرطا أن يكون إختلاف وجهات النظر ، وتغيّر التصورات ، وتباين الأهداف والأحلام سببا طبيعيا لانتهاء صداقات وثيقة إستمرت لعقد او عقدين من الزمن ، ألا ترى ذلك ؟ .
شهريار : نعم الآن ستختلف الإجابة لكن دعيني اجيبك في المرة المقبلة
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : ammaralbaghdadi14@gmail.com
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قدسية الصداقة (2)
وصلنا في حوارنا السابق الى إننا نخبئ حتى عمّن نحبهم بعض نقاط ضعفنا خشية أن نفقدهم ، لكننا نبوح بكل أسرارنا لمن نتخذه صديقا وكأننا نستودعها في بئر عميقة لا يُرى قرارها أبدا .
وأنصح كل أب وأم أحتارا بشأن من شؤون أحد أولادهما ،او مدير متعجب من أمر موظف عزيز عليه ، ان يسألوا عنه صديقه المفضل.
ولعلّ بإمكاننا القول : الصديق هو الوحيد القادر على الأجابة عن أي سؤال محيّر يرفع العَجَبَ ، ويدفع الشبهة من غير أنْ يكشف أسرار صاحبه .
إنه بإختصار : حافظ الأسرار ، وحارس الأغوار ، والداعم لنا في كل إنتصار ، والعارف بما يجول في خواطرنا بالليل والنهار .
حينما نكون كتابا مفتوحا بين يديّ الصديق فإننا نأخذ منه عهدا غير منطوق ،ولا مكتوب، بان يكون سحابة بيضاء تظللنا أينما سرنا ، وتسعفنا بقطرات تروي ظمأنا قبل أن نبحث عن شربة ماء .
إنه يعرف تماما أننا نتألم بمجرد النظر إلينا ، ويسابقنا الى الإبتسامة قبل أن ننطق بالخبر المفرح ، ذلك إننا ننظر في مرآتنا حينما نكون في حضرة الصديق .
ولعلّ شكسبير قد نطق ضمنا بهذه المعاني العميقة لصفاة الصديق حينما قال :"الصديق الحقيقي هو الذي يشعر بألمك عندما تخفيه ".
إنها علاقة طاهرة لا مصلحة فيها سوى أن كل طرف يجد طعم الإنتصار الشخصي حينما يرى النجاح في عيني الطرف الآخر ، وكله ثقة بأن صديقه سيأخذ بيده على سلم النجاح .
ذلك النجاح أحلام مشتركة تتحق ،أو تخيب ، في مرحلة معينة من حياتنا ، وفيها تكون الصداقة في أوجها .. إنسجام نفسي ، وأسرار متبادلة مدفونة في أعماق سحيقة ، ومرآة تلوم صاحبها على كل فعل قد يسئ إليه ، وتقارب ذهني منقطع النظير .
والأهداف المشتركة ،والثقة المتبادلة ، والتفاهم على كل صغيرة وكبيرة بنظرات، أو بمجرد إيماءات من غير الحاجة الى كلام كثير أحوال تجسد أبهى صور الصداقة ، وتدلل بنحو لا لَبْسَ فيه على أن الإنسجام النفسي ،وقدسية العلاقة قد بلغا أعلى المراتب ، ولأن الأحلام " لغة عالمية مشتركة يعرفها حتى الأنسان البدائي" كما يقول إيريش فروم ، والأمر يزداد تطابقا وإنسجاما في ظل صداقة صدوقة ، حينها تكون قمة السعادة للطرفين بالسعي نحو تحقيق الهدف المشترك ، بتكاتف لا يُجارى حتى عند أكثر العائلات تماسكا ومحبة، فإذا تحقق الهدف ،وذاق الصديقان طعم الإنتصار معاً قد نصل الى نهاية الطريق .
ولست قاصدا هنا لمعنى السعادة المتناقصة كما يسميها علماء النفس ، وهم يؤكدون ،أن " السعادة تنحصر في الطريق نحو تحقيق الهدف ،وتتلاشى شيئا فشيئا بعد بلوغه".
يقول علي الوردي : (من طبيعة الإنسان أنه عندما يصل الى الهدف الذي كان يطمح إليه وتمر عليه في ذلك فترة من الزمن ، يصبح الهدف إعتياديا مألوفا في نظره ، وهو قد يسأم منه بعدئذ ، ويأخذ في السعي نحو هدف آخر ) .
أن تلك السعادة ياشهرزاد كانت مبنية على سعي طرف واحد للوصول الى هدف واحد وهنا قد يتحقق معنى (السعادة المتناقصة) ، وإنْ كنت متحفظا على إطلاقها ، وسنأتي على ذكر الأسباب في وقت لاحق ، لكننا هنا نتحدث عن هدف مشترك ، كان السعي إليه أحلاما متناغمة ، والإنتصار المتحقق ببلوغه كان نتاج إنسجام ودعم متبادل وتقارب في الرؤى قبل الأحلام ، وقد تتناقص ذروة السعادة عند بلوغ الهدف المشترك ، لكن ماتحقق على الطريق من تلاحم وتكاتف وإعتماد متبادل أعظم من ان يتأثر بسعادة متناقصة.
الخطر الذي أتحدث عنه أعظم من ذلك ، وتخيلي معي ياشهرزاد أن ذلك الهدف المشترك بين الصديقين الصدوقين على ربوة عالية ـ وقد بذلا جهدا جهيدا في الوصول إليه ، فلما بلغا القمة وتعانقا فرحا بالإنتصار ، وبينما أنفاسهما مازالت تلهث ، نظر كل واحد منهما الى جهة مختلفة ، فرأى الأول مساحات خضراء أراد أن يواصل مشواره نحوها ، بينما أمعن الآخر النظر في المروج ، فوجد فيما بينها ألغاما فتاكة ، وسرعان ما طلب الأول من صديقه الصدوق أن يكملا المشوار ، لكنه تفاجأ برفض قاطع منه ، وهو يحذره من الخطر المحدق بهما ، لكن الأول لا يرى سوى الخضراء والأمل ، وهنا وصلا الى مفترق الطريق ، الأول سار بعيدا نحو جنته المنشودة ، والثاني عزم على أن يسلك طريقا ثالثا بعيدا عن الخطر والأمل الذي لايراه إلا صاحبه .
الآن ياشهرزاد سنعود الى نقطة البداية .. هل ترين فيما ذكرناه خذلانا وخيانة ؟!
- يدا بيد وحققا الهدف المنشود معا، لكن تلك الخطوات الجسام التي قطعاها جنبا الى جنب قد طبعت في عقليهما قناعات متفاوتة ، وكل متأثر بحتمياته الوراثية والتربوية وحتى البيئية ،كانا صادقين متكاتفين لكنهما بلغا الهدف بعبرٍ ودروس مختلفة ، ومن ذلك المكان المرتفع نظرا الى وجهتين مختلفتين من الحقيقة فتفارقا بمحبة مُقتَنعين بفلسفة حياتية عميقة مفادها : "كما أن الحياة مراحل ، فالصداقة مراحل .. لا ضغينة ولا خذلان ".
شهرزاد : يا الله! .. تجبرني في كل مرة على طرح السؤال بطريقة مختلفة ، حسنا ياشهريار دعني أقول لك : ليس شرطا أن يكون إختلاف وجهات النظر ، وتغيّر التصورات ، وتباين الأهداف والأحلام سببا طبيعيا لانتهاء صداقات وثيقة إستمرت لعقد او عقدين من الزمن ، ألا ترى ذلك ؟ .
شهريار : نعم الآن ستختلف الإجابة لكن دعيني اجيبك في المرة المقبلة
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : ammaralbaghdadi14@gmail.com
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat