صفحة الكاتب : د . احسان الغريفي

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
د . احسان الغريفي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

       لقد عانى الرسولُ محمدعناءً شديداً في ترسيخ مفاهيم الشريعة الإسلامية في أذهان الناس منذ صدر الدعوة الإسلامية وحتى آخر أيام حياته، فلقد قاطعته قريش في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات مع أهل بيته حتى بلغ بهم الجهد، وسمع أصوات صبيانهم مِن وراء الشعب، وذلك أشد ما لقي رسول اللهوأهل بيته بمكة. ومِن معاناته أنَّ حمالة الحطب كانت ترمي في طريقه الأشواك، والحجارة، والجمر ليطأها، كما حاولت قريش قتله، فهاجر من مكة إلى المدينة، إضافة إلى الحروب والغزوات التي حاربه المشركون فيها، مما تسبب في إدماء جبينه وكسر رباعيته، كما إن رسول الله  قد ظُلم بأنواع الظلم من إخافة وسبّ وقتل أقاربه، والتنكيل بعمه حمزة (ع) بعد القتل إلى غير ذلك من الأمور التي جرت عليه وعلى أقاربه.

 كما أن هناك معاناة أخرى عانها مع الَّذين تركوا الكفر والشرك ودخلوا في الإسلام، فليس من السهل أن يترك الإنسانُ الجاهلي العادات والتقاليد والعبادات التي تربَّى وترعرع عليها، لينتقل إلى تقاليد وعبادات جديدة تخالف ما كان يألفه من هذه التقاليد، ومن أمثلة ذلك، أنهم كانوا قبل الإسلام يحرِّمون العمرة في أشهر الحج، ويعدُّونها مِنْ أفجر الْفُجُورِ في الأَرْضِ، فكانوا يفرزون العمرة عن الحج، فيجعلون العمرة بعد انقضاء شهر محرَّم الذي يجعلونه شهر صفر، فواجه النبيهذه البدعة الجاهلية، فقضى عليها بمشقة وعناء، فجعل الإهلال للحج عمرة، وأمر المسلمين بإدخال العمرة بالحج، ويروي مسلم بعض معاناة الرسولفي إرساء هذا الحكم الشرعي، فيروي عَنْ عَائِشَةَ: (أَنَّهَا قَالَتْ قَدِمَ رَسُولُ الله  لأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذي الْحِجَّةِ أَوْ خَمْسٍ فَدَخَلَ عَلَيَّ وَهُوَ غَضْبَانُ، فَقُلْتُ: مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ الله أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ. قَالَ: «أَ وَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ») .
ولقد وبّخَهم اللهُ تعالى على مثل هذه التصرفات الخاطئة الدَّالة على ضعف الإيمان فقال:قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ وَالله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:16،17].
 ومن الأمور التي تدلُّ على ضعف الإيمان منعهم كتابة الحديث بحجة أنَّ الرسولغير معصوم يخطئ تارة ويصيب أخرى، كما ورد في مسند أحمد بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كلَّ شيء تسمعه من رسول الله ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا. فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله فقال: "اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلاَّ حَقٌّ"( .
 وصحح شعيب الأرنؤوط هذه الرواية قائلاً: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين أي: رجال مسلم والبخاري. ففي هذه الرواية يقسم رسول اللهأنَّه لا ينطق إلاَّ بالحقِّ والصواب، وهذا الظنّ برسول الله ما هو إلاَّ عن ضعف الإيمان وإلاَّ هل يعقل أن يظنّ المؤمن برسول اللهظنَّ السوء حتى يقسم الرسول على أنه لا ينطق عن الهوى ؟!! 
 ولم يقسم رسول اللهوحده على صدق ما يقول، بل أيَّده اللهُ تعالى أيضاً بقسم، فأقسم الباري عزَّ وجل قائلاً: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:1-6].
ومِن هذه المعاناة التي عاناها رسولُ اللهمِن بعضهم التباطؤ عن نصرة الرسولفي حروبه، وفي القرآن الكريم شواهد على هذه المسألة، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:38-40]. فما هذا التثاقل الذي أبدوه وعدم النصرة إلاَّ بسبب ضعف الإيمان، ولذا ترى الله تعالى يأمرهم بالإيمان وكأنَّهم لم يؤمنوا، وذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا[النساء: 136].
 فالإيمان شيء والإسلام شيء آخر، لأنَّ الإيمان هو أعلى درجة من الإسلام، وقد صرّح القرآنُ بهذه الحقيقة وذلك قوله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحجرات: 14]. وفي اصطلاح فقهائنا أن الإسلام هو الاعتقاد بوحدانية الله تعالى وبالنبوة والمعاد، فمن اعتقد بهذه الثلاثة فهو مسلم، ومَن اعتقد بها مع الاعتقاد بالعدل الإلهي والإمامة فهو مؤمن؛ لأنَّه قد أطاع الله تعالى ورسولهفي كلِّ أمر دون استثناء.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . احسان الغريفي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/07/10



كتابة تعليق لموضوع : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net