مكفوف البصر يفضح الحاكم
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بعد يوم واحد فقط على واقعة الطف، وحيث كان عبيد الله ابن زياد، يسعى للظهور كمنتصر أمام الناس في الكوفة، وتحديداً بعد خطابات عاصفة واجهها من أهل البيت، عليهم السلام، متمثلين بالامام زين العابدين وعمته العقيلة زينب وأم كلثوم، عليهم السلام، وفي مجلسه أمام جموع أهل الكوفة، حيث أماطوا اللثام عن واقعه الفاسد وانحرافه الفاحش عن الدين. اختلى بالجموع وصعد المنبر لترميم هيبته واستعادة شخصيته كونه الأمير المنصّب من "الخليفة" في الكوفة، فقال مما قاله:
"الحمد الله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر الأمير يزيد وأشياعه، وقتل الكذاب ابن الكذاب...."!! فما زاد عن هذا الكلام شيئاً، إلا نهض اليه من وسط المجلس رجل طاعن في السنّ، مكفوف البصر، وهتف بأعلى صوته:
"يا ابن مرجانه...! ان الكذاب ابن الكذاب، انت وأبوك ومن استعملك وأبوه، يا عدو الله...! أ تقتلون ابناء النبيين، وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المسلمين".
كانت هذه الكلمات المفاجئة، التي لم يتوقعها ابن زياد في الكوفة في تلك البرهة الزمنية، بمنزلة السهام التي صوبت اليه، فاستشاط غضباً، وسأل عن هوية المتكلم، فقيل له: انه عبد الله من عفيف الأزدي. ولعله يجهل هذه الشخصية،
بيد ان التاريخ يذكر انه من خيار اصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وقد لازمه في حروبه الثلاث، حتى فقد عينه اليمنى في الجمل، واليسرى في صفين، فبقي ملازماً المسجد، يصلي ويعبد الله – تعالى- والايمان يملأ قلبه، حتى جاء المواجهة الكبرى بين الحق والباطل. ومن أقوى الاحتمالات أن يكون هذا التابعي الجليل ممن كتب الى الامام الحسين عليه السلام، ويعده صدقاً بأن يبايعه خليفة للمسلمين، لدى وصوله الى الكوفة. وربما هنالك آخرين على نفس الموقف،
ولم تسنح لهم الفرصة بالظهور أمام الامة آنذاك، والتاريخ، بيد أن السعادة الأبدية كانت من نصيب هذا الانسان العظيم، الذي تجاوز حالة العوق بكل ثقة واعتداد، فهو لا يتمكن من نصرة الحق بيده، إلا انه يتمكن بلسانه عندما يسمع يواجه الباطل وهو يزعق في اوساط الامة. وقد قالها أمام ابن زياد عندما اعتقله الجلاوزة و أتوا به، بأني كنت اتمنى الشهادة في جبهة الحق الى جانب الامام علي، عليه السلام، وبعد تعرضي للعوق بعيني، يئست منها، وقد دعوت الله – تعالى- بأن أرزق الشهادة قبل ان تلدك أمك، وان تكون ذلك على يد ألعن خلقه وأبغضهم اليه. والآن؛ أحمد الله على ان زرقني الشهادة بعد اليأس منها.
كم من اصحاب الامام علي، عليه السلام، الذين كانوا معه في معاركه الثلاث مع الناكثين والمارقين والقاسطين، وقد شهدوا واقعة الطف، او كانوا في الكوفة يومذاك؟ وأين هم من عبد الله بن عفيف الأزدي الذي نال الشهادة وهو مسرور بتحقيق مبتغاه؟ لم يسجل لنا التاريخ موقفاً بطولياً كالذي نقرأه عن هذا الصحابي البطل، وإلا لبرز وسطع وسط الظلام الدامس من الحياة التي عاشها المسلمون آنذاك. وما يؤكد ذلك؛ خلود مواقف بطولية، ليست من رجال إنما من نساء، مثل "طوعة"، تلك المرأة، التي كانت بين آلاف النساء في الكوفة، تميزت فقط لأنها آوت مسلم ابن عقيل في تلك اللحظة التاريخية والمصيرية. وكذلك تجدر الاشارة الى امرأة في سياق حديثنا عن هذا البطل،
وهي ابنته الشابّة التي لم يذكر لنا التاريخ اسمها، ولكن موقفها البطولي ورباطة جأشها ما من شأنه ان يعطي دروساً بليغة وعظيمة للأجيال.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat