الفصل السادس من كتاب الشعراء الصعاليك
اعداد وتقديم واختار النصوص عبدالحسين بريسم
-6-
جان دمو من جماعة كركوك الى مقابر استراليا
يعد جان دمو (واسمه الأصلي دنخا غيره هو بنفسه لاحقاً إلى جان) ظاهرة حقيقية في الوسط الثقافي العراقي المعاصر بشكل خاص وظاهرة فريدة في الوسط الثقافي العربي عموماً، وكما يصفه الناقد عدنان حسين أحمد فهو (يشكّل ظاهرة حياتية متميزة، أكثر من كونه ظاهرة شعرية متفردة في الوسط الثقافي العراقي، بل أنه ببساطة كان يؤثث الأمكنة الثقافية العراقية، فلا معنى لمقهى "حسن عجمي" أو "اتحاد الأدباء" من دون جان دمو، أو زملائه العبثيين). ولد في مدينة كركوك ويحسب على جيل الستينات الأدبي، لكنه لم يصدر إلا ديوان واحد بعنوان (أسمال) سنة 1993 قام أصدقاءه بجمعه ونشره، هذا إضافة إلى نصوص وترجمات نشرت له في بعض الصفحات الأدبية. أمضى جان حياته صعلوكاً وعبثياً بلا وظيفة ولا زوجة ولا بيت ولا عائلة متنقلاً بين الأرصفة والمقاهي والبارات وله محبيه ومريديه.. مات جان دمو في منفاه الأسترالي بتاريخ 8/5/2003 ولا يكاد ثمة مثقف عراقي لا يذكر موقفاً أو لقاءً أو قولاً أو طرفة لجان دمو.. وقد كتب الكثيرون في تأبينه وذكراه ونشروا ما كتبوه في أكثر من منبر ثقافي - عن موقع الواح-
ويعد جان دمو واحدا من الاسماء التي شكلت ما يسمى «مدرسة كركوك» التي تضم فاضل العزاوي وسركون بولص ومؤيد الراوي. واهتم الراحل بالترجمة بشكل خاص، اضافة الى كتابته قصيدة النثر بشكل مبكر في العراق. ويعتبره البعض ظاهرة ثقافية بحد ذاته بسبب طبيعة حياته ونمط معيشته. وكان دمو قد اعتقل في العراق مع مجموعة من الكتاب بتهمة «تنظيم حركة سرية».
يقول ا د.إبراهيم خليل العلاف- في دارسة موسعة نقتطع منها ماياتي للتعريف بجماعة كركوك وما يتعلق بالشاعر جان دمو
لعل (جماعة كركوك) 1964 ـ 1968من أكثر الجماعات الأدبية التي ظهرت في العراق المعاصر شهرة، وإنتاجا، وتأثيرا .. وقد ضمت هذه الجماعة نخبة من ممثلي الحركة الثقافية العراقية شعرا ونقدا وقصة وفنا تشكيليا وترجمة ومقالة. ويكاد مؤرخو هذه الجماعة، ومنهم من عمل معها، يتفقون على أن الآباء المؤسسين الأوائل لهذه الجماعة هم جليل القيسي، وفاضل العزاوي، ومؤيد الراوي وسركون بولص، وجان دمو، ويوسف الحيدري، وصلاح فائق سعيد، وانور الغساني، ويوسف سعيد وفاروق مصطفى وكان القاسم المشترك الأعظم الذي جمع هؤلاء المثقفين تحت مظلة أدبية واحدة هو روحهم التجديدية، وتبرمهم من الأوضاع العامة التي كانت تسود العراق آنذاك، ونزوعهم الى التمرد ومعاناتهم من الإحباط واصرارهم على السياحة في ارض الله الواسعة وفوق هذا وذاك فان معظمهم كان من أهل مدينة كركوك
قصائد جان دمو
(1)
لا الجبل
ولاقمصان الموتى
تخيم على نهار الراحلين
فلتأخذوا
او تتركوا
هذه الديدان الرائعة في الشطرنج
السكاكين ميداننا
لكن البيرة هي التي تطوح
الاحجار الكريمة في زبد الاسراب
أهكذا تنام اللغة في اللغة
موت او سراب
ستبقى هذه المدينة مقفلة
لن نتخلى عن المريخ
طالما البطاطا هي
القوة الدفعة للوجود
ـ مياه ـ
مياه سعدي
انها ليست للناس
ولا للزرع
ولا للارض
انها مياه القصائد فقط
انتظر اكثر من ذلك
فليمعن جياكو ميتي ودالي
في غرائبيتها
ستبقى المياه المياه
فقط المياه
ـ الظل ـ
امعن في صدودك ايها الواقع
فذلك قد يكون اولى بتمزيق النجوم
النجوم
قد تبحث عما يماثلها
قدم تورق مع الحلم
قدم تقطع
الفأس التي صنعت لقطع الجذوع
ستظل فأسا دوما
اخر وافد الى مملكة ذراعي كان يوم الثلاثاء
بين المطر والحقيقة
يسقط ظل الله
هاانذا في سبيلي الى ممارسة انسانيتي
الغرفة مربعة
وكذلك القلب
ومع اخر سجائري
يتخذ القلق مكانه
الاشد توحشا
كتب هذا النص قبيل وفاة
رث كغبار القهر جان دمو في مايو 2003
وضئيل كغيوم الشعر بمنفاه الاسترالي
وعتيق كزهور القبر
وعميق كالسر
يرمم دنياه على مضض
يبكي..يستبكي
أطلال الزمن المنقرض
يرعى الأفق الناحل
يسترسل في غربته
لا الموت يداعبه بأنامله السوداء
ولا الريح تكبله
بقيود النسيان
سيموت وحيدا
فالوحدة ديدنه ورميم الألحان
شبح في كهف ظنون
قطرات جنون
يتأبط قافية الذكرى
ذاكرة الجدران
فتجرع مثلي يا جان
أجاج الوقت
ورفرف كالطير المذبوح
ومرغ قلبك بالصمت الرنان
ما عدت أرى شيئا
يملأ عيني
عصافير ميتة
وهواء منخور ودخان
ما موقفك الآن
من هذا الشعر القابع في الروح
كأغنية الشيطان..؟؟
بحياتك لم أعرفك
أليس لقبرك عنوان؟؟
وتضرج كفيك برائحة الليل
تلوذ بأقمطة الشعر
وتضحك من فرط الأحزان
رث كغبار الذكرى
ووحيد منسي
كثمالة عمر
وعنيد كصخور البحر
جان
يتهدل فيك الزمن المر
وتسافر كالطعنة
في جسد الشعر
إن كنت مللت من الموت
فتعال وكلمني عن موتك
تحت ظلال القبر
الظل
امعن في صدودك أيها الواقع
فذاك قد يكون أولى بتمزيق النجوم
النجوم! قدم تبحث عما يماثلها، قدم تورق مع الحلم. قدم تقطع
الفأس التي صنعت لقطع الجذوع ستظل فأسا دوما.
آخر وافد الى مملكة ذراعي كان يوم الثلثاء
بين المطر والحقيقة يسقط ظل الله
ها أنذا في سبيلي إلى ممارسة إنسانيتي
الغرفة مربعة، وكذلك القلب.
مع آخر سجائري، يتخذ القلق مكانه الأشد توحشا.
السقوط
بالسر يتركز النوم،
في أشدّ المناطق نأيا، أقذف حاجة غامضة
ولكنني كنت على وفاق مع متطلبات الربيع
تعلمت أن أكون أنا.
وأن أترك للواقع أن يتكفل ما فسد.
المسافة تقصر، والحقيقة تتآكل.
الجمال غرفة يابسة،
مهجورة.
أتعجّل مقدم القجر. سقوطي يمتّع
جوهر الروح.
لم أتعلم أن أتغيّب طويلا.
كلا القصيتين نشر في "العاملون في النفط" (آب 1964)
صدى الضفادع
الضفادع تشم رائحة القصيدة
مثلها مثل الغرف والورقة
ولكن حينما تثقل القصيدة بياس فائر، يشك بنتيجتها.
لقد تعلمت أن أكتب ببساطة جندي أو ربيع عقيم.
يا للهزل! أي فوضى!
أيتها الأشياء، أأنت مصممة
ألاّ تفصحي؟
أية مفارقة.
لو فقط أستطيع أن أكون ما أنا، أو أن أموت بموت الصدى.
جيلي
نحو العبور ميتاً
أساهم في تطوير الأسبوع
أسجن نفسي في ميناء السرير
أستطرف قدوم الرمل، ونواحهُ
في جذور جبهتي
غيوم كثيرة تتعثر
في
الكلام، لن أمنعك
عشب كثير يتكلم لغة الزنجي
أقفالٌ.
(مجلة "الكلمة" 1967)
قصائد كتبت مقابل وجبات طعام شهية في بيروت تلك السنوات
1
عاش بقلب مفعم بالألغام
طوال حياته
في صيف كلّه أسرار وطلاسم
أكتشفُ
أن تحت مياه الجرح
كنارا.
لا تخبروه بأن في الصحراء سحرا
فقد عرف ذلك
بعد طفولته.
قولو له أن السراب والموت
واحدٌ وأن الحياة ليست ولن يكون لها
أكثر من وجهين: وجهين أصفرين بائسين
ولكن، قولوا له، أيضا، أن المستقبل
لا أصداء فيه إلا في الغياب
كان يحب... كان يحبُّ أن يُحبَّ.
2
أبحثُ عنكِ في رماد الذاكرة
في رماد الصواعق
في نيران الفراغ
في الحب
في العذاب
في الاستحالات
في أنين القلوب الممزقة
في القيثارالت المعطلة
في عطلات نهاية الأسبوع الجميلة
في الخرافات
في الأمس ذي الصمامات المقفلة
في الأغوار، في كل مكان
إلا في هذا العالم
أبحثُ عنك
يا حبيبتي.
3
لا وجودَ في الظل إلاّ
لعاصمة الأبدية
الغيوم حين تنعكس في بحيرة ما
تنزع قشورها وتبدأ في التكلم
هل بالرماد وحده يضاء القلب
هل الحقول أسر
ماذا يفصلني
ما الذي يمكن أن يفصلني عن المستقبل
سوى مقصلة النوم والارتخاء
في بحيرة أوسع وأكثف من الذاكرة
تبدو ظلال الفجر تتأرجح
بين الليل والليل يموت في حاضري
آه لِم القوارب هذه...
4
الساعات
تودع تنهداتها
السواحل الهادئة
العواصف تجهل هذا
الينابيع تجهل هذا
الفراشات تجهل هذا
الغابات تجهل هذا
والمطر؟ إنه تفاحة الخوف
إنه مزامير السهر
إنه العدم
إنه ينابيع مستقبلنا
لذا، فهو يعرف، لأنه
الصدى الأبدي لسواحل الساعات.
5
كنتِ دوما جميلة في وهج النهار
ولكن لم تكوني قط جميلة مثلما
كنت حين أتسعَ قلبكِ للبحر
للنهار
للبراري
كنتِ دوما فوق مستوى الصفر
وتحته
ولكن ليس أبدا في مستواه
ذلك إنك كنتِ انعكاس الشمس
كنت دوما حاضرة
عندما كان قلبي يتحول الى شظايا
وكنت، إذ تلملمين الشظايا هذه
تعطينني فرصة لأوازن
بين السقوط والحقيقة
كنت، كما لم تكوني، منظورةً وراء المرايا قاطبة
وبهذه كنت رائعة.
لم يكن بينك وبين الشمس
أي فرق.
6
فضاءٌ بلا شمس
يوقد أحزاني
المزمنة.
قيثارات زرقاء
عالقة فوق القلب.
سأمرّ بكل بحر
بكل مساء
بكل سحاب
لا زفرات فيه.
انحن للحنان
أنت
يا من كنت الأسباب
والنتائج
والأعشاب.
("الرغبة الإباحية" 1974)
براري العواصم
1
تقضم كمثرى النوم
وتستريحُ على ركام من الحيل والخاطر والاندحارات
وتستريح فوق قطار الأمس
وتظلُّ أسباحُكَ نابضةً، قوية، حيّة:
إنهم رفاقك الخالدون.
فارغة الموائد
كقلب الليل
كمعادلات آينشتاين: وها أنت
تركض باتجاه سراب اللحظات
إنك ثمل . إنك ظمآن...
ثمل وظمآن أكثر مما ينبغي: وهذه الحياة
هذه هي اللانهاية!
2
تُقفل أسوارُ البيوت دونك
تنثر ك الريح في الشوارع
تلتحم بمياه غزيرة
بمياه بحجم الفتوة والشباب
تركتَ أسراراً كثيرة في ظلال الرمل
صادقت فوهة القوة
فتحتَ أبوابَ الحظ
أرسيتَ النارَ
في قوافل الروح
انحنيت أمام الملوك
كثيرا.. طويلا.
أسرفتَ في تحبير الأوراق
وجعلتَ من السماء موقعا للانفجار
للاندثار
ولاشوك
أنت لم تكن مخلصا لذاتك
كنت غريبا عنها
ضربا من العبث
أية خسارة!
أنتَ في حاجة لمعرفة الأصول
لتحسس المنابع:
الضوء، النسائم، الحقيقة،
التناقض وبحيرات الدم، لِمَ لا؟
أنتَ تأرجحت طويلا
ولكن كانت دوما حواليك أعشاب وكؤوس
وأعراس
هذرٌ جميلٌ
هذرٌ تافه
ما من شيء يتداخل في اللا متناهي
في الهيولى
وهذه هي براري العواصم.
("السفير" اللبنانية 4/3/1979)
أسمال الملوك
سأنصت
سأنتظر
سأتصالح
لما يترشّح من نحاس النسيان.
ولكنه ليس بنسيان؛
إنه البياض الذي
يحيط باستوائيات عقولنا الجافة.
أتولُّهٌ جديدٌ بافلاطون؟
كلا اللوعة
لوعة اللاوصول
اللاوصول إلى أين؟
غريب ان توقَظَ الأحياءُ
بأسمال الرعب
أسمال الجغرافيا..
فلتكن أسمال الملوك.
شوبرت الإغريقي
أمولدٌ جديدٌ
ما يُرسّبه الأرق
من ريش وذكريات
ورصاص؟
رحيل جديد. رحيل مضاد.
لا مساواة بعد بين
ظل الثلج ورماد الظل,
أيتعين اللجوء إلى نرسيس (أو باخوس)
من أجل فك طلمسية الورد
أو الفراشات التي تنوس
في الممرات التي يفتحها نومنا
وتحجّرنا؟
كم بعيدة طرق الطفولة المعبدة
كم قريبة طرق الموت.
المنحوتات اإغريقية كفيلة
بتصفية العقول التي ملأها بالتراب
صدى الاغتراب.
شوبرت ثانية. والدموع لا تكفي.
يتعيّن رمي المفاتيح في يد الريّس*
*حذفت كلمة "الريس" من مجلة الأقلام.
3
يوماً
قبيل القيامة
سأتوحّد مع الضباب
وأترك كافة أبواب اللانهاية
مغلقة
في انتظار
إبليس.
أين انقرضت أرخبيلات
أحلامي
أوهامي مجرد لآلئ.
لا انتظار بعد.
4
عظيمة كل الحقائق ما بعد الصفر.
دون لماذا.
حتى لو بقي العنقاء محبوسا
في خرافات اللامحدد
ستبقى كل بوصلاتنا دونما
جدوى... الأحرى
أن يُصاؤ إلى مؤاخاة التنّين
والإبقاء على الفراغات
على ما هي عليه. أو
تقريباً.
5
أيكون الموت غيابَ الذاكرة
أم صفا من طيور البطريق
تنتظر مخلّصا ما تحت شمس
بنفسجيّة؟
لن نغامر بالجواب
لأنه لا جوابَ هناك.
(القصائد الخمس الأخيرة نشرت في "الأقلام" العراقية شباط 1993)
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat