ليس من الصعب على المتتبع لخطب منبر الجمعة , أن يلحظ أولاً أن المرجعيّة لم تنفك تتناول بخطابها الوضع العام السياسي للعراق , وإن كان بصورة غير مباشرة باستخدام القرينة التاريخيّة , منذ أن عزفت عن تناول الشأن السياسي العراقي في جمعة 5 / 2 / 2016, وأرجأته الى إشعار آخر حسب ما تقتضيه المصلحة في ذلك . ويلحظ ثانياً تنامي حدّة الخطاب وتصاعد وتيرته , حتى بات من المسلمات انصراف ذهن المتلقي , من أن الذي تشير إليه المرجعيّة بكلامها , هو الشأن السياسي والطبقة السياسية المتصديّة في العراق لا غير . وبالنسبة لنا ما كان علينا أن نتوقف عند ( هذه الصورة ) وهذا الحد وكفى , دون أن ندرك المعاني المهمة والالتفاتات القيمة المبثوثة عبر نص الخطبة ذاتها . وإذا ما قمنا باستقراء خطبة جمعة 2 ايلول / 2016 م بإمعان , بإمكاننا ان نلحظ الأمور المهمة التالية :
1 ــ تطرّقت المرجعيّة الى ذكر ثلاث محطّات تاريخيّة خطرة , ضمن خط المواجهة الإلهيّة بين الأنبياء (ع) وطواغيت زمانهم . وهم نبي الله إبراهيم (ع) مع نمرود , وتجربة نبي الله موسى (ع) مع قارون , والنبيّ الأكرم ( ص وآله ) مع طاغية قريش أبو لهب . وإنما فعلت ذلك فقط لتبيّن أنّ مثل هؤلاء الطواغيت المردة , لا يمكن أن يقارعهم أحد من الناس , ويكتب له الغلبة والنصر إلاّ ( نبيّ ) مسدّد من الله تعالى . ولنا أن نعرف أن العدو الذي يقف قبال الأنبياء , يعني حربه ضد الله . فالعدو هنا ليس كالأعداء التقليديين , والثائر المصلح هنا ( النبيّ ) ليس كباقي الثوار والمصلحين , في مجمل الصراع بين جبهة الخط التوحيدي المتمثل في الأنبياء والرسل , وجبهة الشرك والإلحاد المتمثل في الطواغيت .
2 ــ إنّ المهمة الملقاة على عاتق الأنبياء والرسل (ع) , في مواجهتهم للانحرافات العقائديّة والسياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة وغيرها عبر التاريخ , بسبب تسلّط الطغاة هي مهمة ( إصلاحيّة ) من الدرجة الأولى . وهي أيضاً ( مهمة ) لا تناط بأيّ كان , إلاّ بمن توفرّت لديه الأهليّة الكاملة في ذلك , وهم الأنبياء والرسل (ع) لا غيرهم .
3 ــ استمرار خط المواجهة الإلهيّة ذاك الى اليوم , متمثلاً بخط المرجعيّة الدينيّة , الكيان الذي وقع على عاتقه, بيان وتوضيح الأحكام الإلهيّة للأمّة جمعاء . ورجوع الأمّة ( الناس ) في أمور دينهم ودنياهم اليها . وهي مقام النيابة عن المعصوم ( ع ) في زمن الغيبة الكبرى . كما ثبّتها ورسم مهامها الإمام الثاني عشر ــ عج ــ ( أما الحوادث الواقعة , فارجعوا فيها الى رواة حديثنا , فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله ) وسائل الشيعة ج18 ص 101 .
4 ــ إذن فالمرجعيّة الدينية العليا اليوم , هي الجهة الوحيدة التي تمثّل نهج الأنبياء والرسل والأوصياء ( ع ) , في خط المواجهة الإلهيّة مع الطواغيت والمنحرفين . وهي الكيان الوحيد الذي له الحق أن يشير بالبنان الى مواطن الخلل والانحراف في المجتمع . والى مَن يقف وراءه من المنحرفين والفاسدين , ولا تأخذها بالله في ذلك لومة لائم .
لأنها تقوم مقام النيابة المقدسة عن المعصوم (ع) . كما ولها الحق أن تختار من القرآن الكريم ما تشاء , وتتبنّاه وتطرحه كمقاربة مع الواقع المعاش , لينصرف ذهن المتلقي اليه للاستخلاص النصيحة والعبرة عبر نهج التكامل الإلهي . (( القرآن عندما يصوّر قارون حقيقة , يوجد مَن يتشبّه في زماننا بقارون , والنفس نفس قارون . والذين معه والذين ارادوا واحبوا ايضاً هؤلاء نفس مَن كان مع قارون.. )) . واختارت المثال القرآني ( قصّة قارون ) لما في قارون من دّالة تدّل على الطبقة السياسية المنحرفة .
5 ــ لماذا قارون ؟. بإمكاننا رَصد الأمور التالية :
أ ــ ربما لأول مرّة تشير المرجعيّة , الى ما أشار اليه القرآن الكريم بشكل واضح , مِن أنّ مثل قارون كظاهرة منحرفة في المجتمع , لم تكن لتظهر تنمو لولا وجود مَن يؤيدهم في المجتمع !. (قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدّنْيَا يَلَيْت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتىَ قَرُونُ إِنّهُ لَذُو حَظٍ عَظِيمٍ ) . وهؤلاء يشكلون شريحة اجتماعيّة سلبيّة ( مُعرقِلة ).هم أيضاً يتحملون المسؤولية التاريخيّة والشرعيّة والأخلاقيّة في ذلك . لأنّهم يتشبّهون بالمنحرف الفاسد المُفسِد , سواء كان قارون ( المثال القرآني ) أو (الطبقة السياسيّة الحالية ) . ومعجبون بما عندهم , ويريدون أن يكونون مثلهم .
ب ــ أشارت المرجعيّة الى أنّ ( القارونيّة ) كظاهرة , هي نتاج الحالة الفرعونيّة ( النظام السياسي العام ) في زمن موسى (ع) , إذن فالطبقة السياسيّة الفاسدة الحالية , هي نتاج النظام السياسي المنحرف ( نظام المحاصصة والتوافقيّة السياسيّة ) التي ابتلي بها العراق والعراقيين . فالعراق يعيش الآن الحالة ( الفرعونيّة ) المتجبرة .
ج ــ إذا كان قارون قد استحصل ثراءه الفاحش , عن طريق ذكائه وجهده وحيلته (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) , و لم ينسب شيء من ذلك الى الله تعالى , فيكون بذلك قارون شخص قد اوكله الله تعالى الى نفسه . فكانت النتيجة هي الطغيان والتسلط والتجبّر على الناس والمجتمع والاعتداء عليهم . والمفارقة هنا أنّ الطبقة السياسيّة الفاسدة الحالية , لم تقل ما قاله قارون ( أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) البتّة , ولم تتجرأ على ذلك لأنها تعلم أن ثرائها الفاحش , إنما جاء عن طريق الاستحواذ على المال العام , وسرقة ونهب وسلب أموال الدولة . وبمعنى اقرب أنّ ( طبقتنا السياسيّة ) فاقت ( قارون ) واساليبه , والقارونيّة ومفهومها , فراحوا يشترون الذمم والولاءات , وعبروا بطغيانهم من حالة الفساد الى الإفساد في المجتمع.
د ــ وبالنتيجة أنّ كلاًّ من قارون و( الطبقة السياسيّة الفاسدة ) لا يحبّون النصيحة فضلاً عن الناصحين انفسهم . ومثل ما نصح موسى (ع) أو قومه قارون( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ), كانت المرجعية قد نصحت الطبقة السياسية الفاسدة و مرارا وتكرارا حتى بُحّ صوتها .
هـ ــ الهلاك والاستئصال هو مآل قارون والقارونيّة (فخَسفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ ), ويعتبر الهلاك تهديد قائم لكل مَن هو على شاكلة قارون عبر التاريخ كسنّة إلهيّة . إذن فالمرجعية الدينية هنا بمقام ( التهديد المباشر) للطبقة السياسيّة الفاسدة , وأنهم وبلا شك بانتظار الردّ الإلهي الحاسم . والمفارقة الغريبة هنا أنّ الهلاك والاستئصال , يجري أمام انظار الشريحة ( القارونيّة ) الاجتماعيّة المؤيّدة للانحراف , وبالرغم ذلك أنهم بمنجىً من العقوبة الإلهيّة , وذلك بفضل ومنّه , ليروا خطل وفساد موقفها وما كانت عليه من تأييد للمنحرفين ( .. لَوْ لا أَن مّنّ اللّهُ عَلَيْنَا لَخَسف بِنَا وَيْكَأَنّهُ لا يُفْلِحُ الْكَفِرُونَ )
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat