الوعي الآثاري ان تمتلك ثقافة واضحة وعملية عن آثار موطنك وتعرفها وتتعايش معها , وتكون من ذخائرك الوطنية والإنسانية , فتدرك قيمتها ودور جذورك في نماء دوحة الحياة الوارفة.
وهذا الوعي يكاد يكون مفقودا في المجتمعات المتأخرة , التي ينشأ فيها الناس وهم في جهل وأمية مكانية وزمانية وخيمة , فيعيشون في مدنهم ولا يعرفون سوى إسمها , ولا يكتسبون خبرة الإنتماء للمكان , وإنما تترسخ فيهم إرادة المحق المكاني , والإزدراء لما يحيطهم من المؤثرات المكانية , وهذا التفاعل يساهم في بناء النفوس المنحرفة المعادية لمكانها , والتي تتحول فيما بعد إلى موجود هزيل بلا قدرات إنتمائية وتجذرية في بدن المكان , مما يجعلها صيدا سهلا ووسيلة جيدة لتمرير تطلعات أعداء المكان.
ويبدو أن المجتمعات المتأخرة التي لا تمتلك قدرات ومهارات الرؤية الحضارية المعاصرة , والتي لا تعرف كيف تنظر للمستقبل , وتجهل برامج ومشاريع تخليق المكان , قد رضخت لإرادة الآخرين الذين حققوا قطعا مروعا بينها وبين مكانها وعزلوها عنه , مما أفرغ الإنسان من المعاني الجوهرية للوطنية وقيمة الحياة ودوره الإيجابي فيها , لأن المناهج التربوية والتثقيفية إنطلقت من مرتكزات معاداة المكان وإقتلاع ما فيه وتدمير هياكل ملامحه وعلاماته الفارقة , وإلقاء أسباب التعثر والتأخر على الشواهد المتراكمة لشخصية المكان.
أما في المجتمعات المتقدمة فأن العلاقة ما بين الإنسان ومكانه تفاعلية إبداعية إنتمائية ومصيرية , حتى ليتحول المكان إلى مرآة للذين يقطنونه أو يحيون في ربوعه , ويتنعمون بمعطياته ويشتركون معه في بناء لوحة الحياة الغنية بالمنطلقات الزاهية الباهية.
والإنسان المتقدم يعرف تفاصيل مكانه وما يحتويه وأهمية معالمه , ولديه ثقافة مكانية تحقق عشقا وإرتباطا عميقا وتفاعلا خلاقا ومتميزا في وعاء وجوده المكاني , حتى لتجد الإنطلاقات الأصيلة ذات تفاعلات متصلة بمفردات المكان الذي ترعرع فيه الإنسان.
ولو تساءل الواحد منا عمّا يعرفه عن المدينة التي نشأ فيها , لإكتشف بأنه يجهلها , وبالمقابل فهي تجهله , وهذا التواصل السلبي يقتلع الإرادة الإنتمائية ويزعزع القيم الوطنية , ويردي معايير المواطنة في مهملات التجاهل والأمية الدامغة.
هذا الجهل بمكاننا (المدينة , القرية , المحلة....) , يساهم في صناعة الصيرورات الضارة بالحاضر والمستقبل , لأنه ينتزع الغيرة المكانية ويمحوها تماما من أعماق البشر , فتراهم لا يأبهون لما يصيب معالمهم الحضارية , ولا يعنيهم ما يتحقق في مكانهم من تخريبات وتشكيلات معارضة لملامح وطبيعة وشخصية ما هم فيه من وعاء بيئي وطبيعي وتأريخي.
وقد أدهشني الإنسان في الدول المتقدمة , بكيفيات معرفته بجغرافية مكانه وتأريخه وتفاخره بمعالمه المتنوعة , ففي معظم المجتمعات المتحضرة , هناك أشبه بالقداسة لما تركته الأجيال من شواهد ومعالم , وتقديرا لإسهاماتها ودورها السبّاق ومحاولاتها في ضناعة ما هو أفضل للأجيال.
فالإهتمام بالآثار وتقديرها وتثمينها وإعلاء شأنها سلوك يبني الروح الوطنية الإنسانية , ويمنح شعورا بالتجذر والتواصل والثقة بالحياة وتواصلها الإيجابي , فالأجيال كالأشجار عليها أن تدرك أنها متجذرة في تربة وجودها , لكي تنمو وتثمر وتصنع غابات روعتها وتبدي مفاتن بهائها وجمالها , وألحانها المترنمة الغتاء.
ولهذا فأن الإعتداء على الأثر الحضاري والمعرفي , يعني قطع الجذر البشري , وإسقاط شجرة وجوده وتحويلها إلى حطب تنتظره نيران الوعيد والخراب والدمار.
فقيمة المكان بما فيه ويحتويه , والمكان الخاوي الخالي يكون موطنا لسنابك الآخرين المتأهبين لبناء شواهدهم فيه.
فهل أننا نمحو ذات وجودنا ونهدم معالم مسيراتنا , ونحرق أوراقنا الرسمية التي تشير إلى علاماتنا الفارقة وشخصيتنا الوضاءة الفارعة؟!!
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat