بسم الله الرحمن الرحيم
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ{48}
تضمنت الاية الكثير من المعاني السامية , فنذكر منها مراعاة للايجاز :
1- ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا ) : انزل من السفينة بسلام , امنا , محفوظا من الاخطار والمكاره .
2- ( وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ ) : الخيرات النامية .
3- ( وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ) : المؤمنين لانهم شملوا بالسلام والبركات .
4- ( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) : الكفار , لانهم خصوا بالاضطراب في الدنيا , والعذاب في الاخرة .
تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ{49}
نستقرأ الاية الكريمة في موردين :
1- ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا ) : يشير النص المبارك الى ان قصة نوح (ع) ( مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ ) , حرف الجر ( من ) هنا دل على التبعيض , ( نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا ) .
2- ( فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) : فاصبر على مشاق النبوة والرسالة , كما صبر عليها نوح (ع) , فأن العاقبة الحسنة لمتقي الشرك والمعاصي بالظفر والنصر والتأييد في الدنيا , والفوز بالاخرة .
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ{50}
بعد ذكرت الايات الكريمة السابقة شيئا موجزا من قصة نوح (ع) , انعطفت وتطرقت الاية الكريمة والايات التي تليها الى ذكر شيئا من قصة هود (ع) مع قومه , قوم عاد , وتشير الى انه (ع) ( أَخَاهُمْ ) , بمعنى احد افراد القوم , فدعاهم قائلا :
1- ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ ) : في النص المبارك يخاطب هود (ع) قومه , امرا اياهم بتوحيد الله تعالى ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ ) , وهذا مما خاطب به كل نبي ورسول قومه , ناهيا اياهم عن الاصنام التي كانوا يعبدونها ( مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ ) .
2- ( إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ) : كاذبون على الله تعالى في ما انتم عليه من عبادة الاصنام , واتخاذها آلهة وشركاءا وشفعاء .
يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{51}
يستمر خطاب هود (ع) في الاية الكريمة , وجاء فيه :
1- ( يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ) : يصرح هود (ع) في خطابه هذا بتصريحين
أ) ( يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) : انه (ع) لا يطلب ولا يقصد الاجر منهم بدعوته هذه .
ب) ( إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ) : يصرح (ع) انه يطلب ويقصد الاجر والثواب منه جل وعلا فقط .
2- ( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) : افلا تعالجوا الامر بعقولكم , فتميزوا بين الحق والباطل ؟ ! .
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ{52}
يستمر خطابه (ع) في الاية الكريمة , وجاء فيه امرين وتقريرين ونهي :
1- ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ) : الامر الاول , ويقتضي طلب المغفرة منه جل وعلا , ويقابله التقرير الاول ( يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً ) , وذلك ما ينطبق على ما جاء في سورة نوح الشريفة ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً{10} يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً{11} ) .
2- ( ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ) : بعد الاستغفار تاتي التوبة , وهو الامر الثاني , يقابله التقرير الثاني ( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ) , قوة بالاموال والاولاد .
3- ( وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ) : نهي عن ان يعرضوا عنه (ع) وعن دعوته , ( مُجْرِمِينَ ) مصرين على شرككم .
يلاحظ في خطاب هود (ع) انه رغب قومه بكثرة الامطار , وزيادة القوة , كون القوم اصحاب مزارع , وكانوا ايضا مشهورون بالقوة والبطش .
قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ{53}
تروي الاية الكريمة جواب القوم له وردهم على دعوته (ع) , وكان في ثلاثة محاور :
1- ( قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) : بحجة تدل على صحة دعوتك .
2- ( وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ) : لا نترك الهتنا لمجرد قولك وكلامك .
3- ( وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) : ولن نصدقك ونصدق دعوتك , وفي ذلك اقناطا له (ع) في استجابتهم له وتصديقهم بدعوته .
إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ{54}
تروي الاية الكريمة حوارا بين قوم عاد وهود (ع) :
1- ( إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ ) : نظرا لانك نبذت الهتنا , ورميتها بالسب والاحتقار والازدراء , اصابتك بالجنون فقلت ما قلت عنها .
2- ( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) : يرد عليهم هود (ع) ( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ ) , على نفسي , ( وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) , واشهدكم عليّ اني بريء مما تشركون به .
مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ{55}
تضمنت الاية الكريمة مقطعين :
1- ( مِن دُونِهِ ) : مما تعبدون من دون الله تعالى .
2- ( فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ) : يعرض هود (ع) على قومه ان يحتالوا على هلاكه , جميعا هم والهتم ( حيث يدعون ان الهتم تصيب بالبلاء والضر كل من نبذها وسبها ) , ( ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ) , لا تمهلوني , فيما يبدو ان هود (ع) عرض هذا المقترح عليهم ثقة وتوكلا على الله تعالى , بعد ان لاحظ تعطش القوم للنيل منه وسفك دمه .
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{56}
يستمر خطابه (ع) في الاية الكريمة , وتضمن ثلاثة موارد للتأمل :
1- ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) : يصرح (ع) مقررا , ان ثقتي واعتمادي على الله تعالى , ربي وربكم , فمهما بذلتم غاية الجهد والمجهود لآيقاع الاذى بي , فأنكم لن تضروني , ولا تنالون مني ما لم يشأ عز وجل ذلك .
2- ( مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ) : ما من نسمة تدب على الارض , فهو مالكها وقاهرها , يصرفها كيف شاء جل وعلا , فلا نفع ولا ضرر منها او يقع عليها الا بأذنه جل وعلا , وخصت الناصية بالذكر لان من يؤخذ من ناصيته يكون في غاية الذل والهوان , وايضا الاخذ بالناصية يبين اقتداره جل وعلا على خلقه , من حيث النفع والضر وتدبير امورهم وارزاقهم .
3- ( إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) : طريق الحق والعدل , حيث لا يفوته فائت ( ظالم ) , ولا يضيع عنده اجرا لمحسن .
العياشي : عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه يعني إنه على حق يجزي بالأحسان إحسانا ، وبالسيء سيئا ، ويعفو عمن يشاء ويغفر سبحانه وتعالى ."تفسير الصافي ج2 للفيض الكاشاني , تفسير البرهان ج3 للسيد هاشم الحسيني البحراني".
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ{57}
يستمر خطابه (ع) لقومه في الاية الكريمة وتضمن اربعة موارد :
1- ( فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ) : فأن اعرضتم وانصرفتم , فأني قد اديت ما عليّ من البلاغ , وتقديم الحجج والبراهين المؤكدة لصحة دعوتي لكم .
2- ( وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ) : تضمن النص المبارك امرين :
أ) الوعيد بالهلاك .
ب) الوعد بالاستبدال .
3- ( وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ) : اشراككم وعدم ايمانكم وتوليكم لا يضر الله تعالى في شيء .
4- ( إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) : رقيب , فلا تخفى عليه جل وعلا خافية .
الحفيظ : الحافظ لدوام الموجودات و المزيل تضاد العنصريات بحفظها عن الفساد فهو تعالى يحفظ السماوات و الأرض و ما بينهما و يحفظ عبده من المهالك و المعاطب قال بعضهم الحفيظ وضع للمبالغة فتفسيره بالحافظ فيه هضم لذلك الاسم ."المقام الاسنى في تفسير الاسماء الحسنى للكفعمي ".
وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ{58}
تبين الاية الكريمة ان الله تعالى انجى هودا (ع) والمؤمنين معه برحمته وفضله ومنه جل وعلا , عندما امر بهلاك قوم عاد .
يلاحظ في الاية الكريمة تكرر النجاة , لعل ابرز الاراء في ذلك :
1- ( وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ) : اشارة الى عذاب دنيوي وقع على قوم عاد , فأنجى الله تعالى هودا (ع) والمؤمنين معه برحمته جل وعلا , ويمثل ذلك النجاة للمؤمنين في الدنيا .
2- ( وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) : اشارة الى عذاب اخروي يقع على قوم عاد , والعذاب الغليظ لا يمكن ان يكون الا في الاخرة , فيؤكد ويشير النص المبارك الى نجاة المؤمنين من هذا النوع من العذاب ايضا .
المصادر :
1- تفسير الصافي ج2 للفيض الكاشاني .
2- تفسير البرهان ج3 للسيد هاشم الحسيني البحراني .
3- تفسير الجلالين للسيوطي .
4- مصحف الخيرة , علي بن عاشور العاملي .
5- المقام الاسنى في تفسير الاسماء الحسنى للكفعمي
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat