فاطمة الشيعية وفاطمة السنية
سلام المهندس
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
سلام المهندس

كانت ابنتي الصغيرة تدرس في مدرسة خاصة في بيروت حين كنت مقيماً هناك قبل عام.
وذات مساءٍ، عادت من المدرسة تحمل في ملامحها الصغيرة شيئًا من الحيرة. جلست قربها كعادتي لأسمع منها أخبار يومها، فقالت لي بصوتٍ متردد:
"بابا... اليوم عرفت أن في صفّنا بنتًا اسمها فاطمة، من بغداد، لكنها سنيّة!"
توقفتُ لحظة وأنا أستمع إليها، فلم تكن الجملة بحد ذاتها غريبة، بل طريقة قولها الممزوجة بالدهشة هي ما استوقفني. نظرتُ في عينيها فوجدت فيهما سؤالًا أكبر من عمرها. لم تكن تفهم كيف يمكن أن تكون فاطمة "سنية" وهي تعرف أن اسمها هي مرتبط في ذهنها منذ صغرها بأهل بيت النبي، وبالإيمان والولاء لفاطمة الزهراء عليها السلام.
ابتسمت وقلتُ لها: "وما الغريب في ذلك يا ابنتي؟" أجابت بسرعة الطفولة: "لكن فاطمة الزهراء شيعية مثلنا، فكيف تكون هذه فاطمة سنية؟"
كان السؤال بسيطًا في لفظه، لكنه يحمل في طياته وجع أجيالٍ كثيرة تربّت على أن الأسماء تنتمي إلى الطوائف، لا إلى الناس. جلستُ معها أحاول أن أشرح لها الأمر بلغةٍ تناسب عمرها، وقلت:
"يا فاطمة فاطمة الزهراء عليها السلام ليست شيعية ولا سنية، إنها بنت النبي محمد (ص) وهي أمٌّ لجميع المسلمين. كل المسلمين يحبونها ويجلّونها، مهما اختلفت طرقهم في العبادة أو الفهم."
نظرت إليّ ببراءة وقالت: "يعني فاطمة من الصف تحب فاطمة الزهراء مثلي؟"
قلت: "نعم، تحبها مثلك تمامًا، وربما أكثر. فليس في حبّ الخير اختلاف."
ابتسمت ابتسامة مطمئنة، ثم قالت كمن اكتشف شيئًا عظيمًا: "إذن لا فرق بيني وبينها، نحن الاثنتان نحمل نفس الاسم ونحب نفس الله."
سكتُّ طويلًا بعدها، أتأمل ما قالته. كم نحن الكبار بحاجةٍ إلى هذه البساطة، إلى هذه النظرة النقية التي لا تعرف التعصب ولا التصنيف. الطفلة فهمت في دقائق ما عجزت عنه منابر وخطب ومجالس منذ قرون.
تذكرت حينها كيف أصبح الدين عند البعض رايةً تُرفع لتقسيم الناس لا لتوحيدهم، وكيف تسلّل التعصب إلى حياتنا حتى غدا الاسم أو المدينة أو طريقة الصلاة سببًا كافيًا للحكم على الآخر. بينما في الأصل، كلّنا نسجد لله نفسه، وننادي نبيًا واحدًا، ونقرأ نفس الكتاب.
كم تمنّيت لو أن كل أبٍ وأمٍّ جلسا مع أطفالهما كما جلستُ أنا مع ابنتي ذلك اليوم، ليزرعا فيهم فكرة بسيطة: أن الاختلاف لا يعني العداء، وأن الإيمان لا يُقاس بالمذهب بل بالخلق، وأنّ فاطمة السنية وفاطمة الشيعية ليستا خصمين، بل هما انعكاس لاسمٍ واحدٍ يذكّرنا جميعًا بالرحمة والطهارة.
بعد أيام رأيت ابنتي تمسك بيد صديقتها فاطمة من بغداد وهما تضحكان في ساحة المدرسة. تقدّمت نحوهما، فسألتها مازحًا: "من هذه يا فاطمة؟" قالت بثقةٍ وفرح: "هذه فاطمة الثانية، صديقتي، لا فرق بيننا إلا في نوع الشطيرة التي نأكلها!"
ضحكتُ يومها من القلب، وقلت في نفسي
لقد فهمت ابنتي ما لم يفهمه الكبار.
فاطمة الصغيرة، بطهارتها وصدقها، علّمتني درسًا عظيمًا: أن الله لا ينظر إلى الطائفة، بل إلى القلب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat