المرجعية ودورها الاستثنائي
بتول ناصر وادي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بتول ناصر وادي

في زمن تتداخل فيه المصالح وتتآكل فيه القيم، ظلّت المرجعية الدينية في النجف الأشرف إحدى القِلاع القليلة التي لم تساوم على الجوهر. لكن، هل المرجعية مجرد مؤسسة دينية تقليدية؟ أم أنها — كما يُظهر واقع العراق — فاعل اجتماعي، أخلاقي، وسياسي من طراز خاص؟
ما بين الأزمات الكبرى واللحظات الحرجة، برزت المرجعية لا كسلطة، بل كضمير
أولًا: المرجعية الحامية للهوية والكرامة
منذ بدايات الاحتلال عام 2003، لم يكن هناك صوت وطني حقيقي كالذي مثّلته المرجعية. أصرّت على كتابة دستور بإرادة العراقيين، ورفضت أن يُفرض على هذا الشعب أي وصاية. في وجه الطائفية، كانت أول من نادى بالوحدة، وفي وجه الفساد، طالبت بالإصلاح، وبإبعاد غير الكفوئين عن مفاصل الدولة.
كانت المرجعية صمام الأمان، لا بالكلمات فقط، بل بالمواقف. وعندما سقطت المؤسسات، بقيت هي المؤسسة الأصدق، التي لم تتلوّن، ولم تتراجع، ولم تُخادع.
ثانيًا: فتوى الدفاع الكفائي: لحظة إنقاذ تاريخية
في عام 2014، اجتاح الإرهاب ثلث العراق، وسقطت المدن الكبرى، وغابت الدولة. كان الناس في حالة من الذهول، وكانت الخسائر تُنذر بزوال الوطن. في تلك اللحظة المفصلية، خرجت المرجعية ببيانها الشهير: "على من يستطيع حمل السلاح أن يهبّ للدفاع."
فتوى الدفاع الكفائي لم تُنقذ العراق فقط من داعش، بل أعادت الروح إلى شعبه، وشكّلت نواة وعي وطني جديد، قوامه التضحية والانتماء. لقد أعادت المرجعية تعريف البطولة، ليس كفعل عنف، بل كفعل دفاع عن الإنسان والكرامة والوطن.
ثالثًا: المرجعية والبعد الإنساني في إدارة الأزمات
لم تقتصر المرجعية على السياسة والأمن، بل كانت حاضرة في أصعب الأزمات الاجتماعية والصحية والاقتصادية. في أزمة كورونا، دعت إلى الالتزام الكامل بتعليمات الأطباء، وأكدت أن حماية النفس واجب شرعي. في أوقات السيول والحرائق والنكبات، كانت أول من يُرسل المساعدات ويفتح أبواب الدعم من خلال مؤسساتها الإنسانية.
المرجعية لم تكن بعيدة عن نبض الناس، بل كانت تُنصت لأنينهم، وتتحرك لحاجاتهم، وتدعم فقراءهم ونازحيهم وأيتامهم.
رابعًا: من كربلاء إلى مشروع الدولة الخدمية
ربما النموذج الأوضح لدور المرجعية العملي يظهر في كربلاء.
بعيدًا عن بعدها الرمزي كمركز للنهضة الحسينية، تحوّلت المدينة – تحت إشراف وكلاء المرجعية والعتبتين المقدستين – إلى نموذج عمراني وإنساني فريد.
تم تأسيس مستشفيات حديثة مثل "مستشفى الإمام زين العابدين" ومراكز علاج متطورة، وتوسيع برامج الدعم الإنساني للفقراء والأيتام، وتوفير آلاف الوحدات السكنية، وإقامة مشاريع زراعية وصناعية واقتصادية تُوفّر فرص عمل وتحسّن البنية التحتية.
ولم يُنسَ العلم، إذ تم إنشاء جامعات ومراكز بحثية، منها جامعة العميد، وجامعة الكفيل، فضلًا عن تطوير المكتبات والبرامج التربوية والثقافية.
كربلاء تحوّلت إلى مشروع نهوض حضاري بإشراف مباشر من المرجعية، لا بالكلام، بل بالفعل الملموس على الأرض.
المرجعية لا تتكلم فقط، بل تُنجز، وتُدير، وتبني، وتُقدّم نموذجًا للدولة التي كان يحلم بها العراقيون.
خامسًا: المرجعية: مشروعها إنساني، ومرجعيتها أخلاقية
لم تتعامل المرجعية مع السلطة كغنيمة، بل كأمانة. رفضت الدخول في التحزّب، ولم تسمح بأن يُستَغل اسمها، وبقيت في موقعها الطبيعي: حارسة للضمير، وصوتًا للمحرومين، ومُذكّرة بالقيم وسط سوق المصالح.
إنها امتداد لمدرسة أهل البيت: مدرسة العقل، والعلم، والعدل، والرحمة.وفي وقت تتشظى فيه المجتمعات وتضيع القيم، كانت المرجعية هي السياج الأخلاقي الذي حافظ على وحدة العراق، وهويته، ومصيره.
المرجعية... شمس لا تغيب
ليست المرجعية حاضرة فقط في المناسبات، بل هي الحضور الدائم في وجدان العراقيين. هي ليست بديلًا عن الدولة، بل منارة تهديها. ليست طرفًا في نزاع، بل نقطة التقاء. هي المَرجع حين تختلط الأمور، والمُعين حين يشتدّ الخطب، والملاذ حين تنقطع السبل.
وفي تاريخ العراق الحديث، لا توجد جهة كانت أقرب إلى الشعب من مرجعيته... ولا أكثر ثباتًا على الحق منها.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat