جنوب العراق :أرض الثروة والإهمال ... المحطات السياسية والاقتصادية لمحافظات الجنوب العراقي
رياض سعد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رياض سعد

لم تكن محافظات البصرة وميسان وذي قار مجرد مساحات جغرافية في جنوب العراق، بل كانت – ولا تزال – الركيزة الأساسية للاقتصاد العراقي من أقصى شماله في زاخو حتى أقصى جنوبه في الفاو.
هذه الرقعة الغنية بالثروات الطبيعية والطاقات البشرية تمثل العمود الفقري الذي حمل الدولة العراقية على مدى قرن من الزمان، لكنها في المقابل كانت وما زالت عرضة للتهميش والإهمال والاستهداف الممنهج من قِبل الحكومات العميلة المتعاقبة، والقوى الإقليمية والدولية المعادية على حد سواء... ؛ حتى قال احدهم : ان غزة المدمرة والمدن السورية التي طالها الخراب ؛ ورغم دمارها أفضل حالا من مدن وقرى الجنوب البائسة و المليئة بأطنان من النفايات والحيوانات النافقة ؛ فضلا عن الجفاف والتصحر وانعدام الخدمات والبنى التحتية والصناعية والتجارية والسياحية والزراعية ودوامة الازمات والنزاعات العشائرية ... !!
اقتصاد الجنوب: أرقام تصنع الدولة
تشير بيانات وزارة النفط العراقية إلى أن هذه المحافظات الثلاث تنتج مجتمعة نحو 90 إلى 95% من واردات الموازنة العامة للدولة:
البصرة: وحدها تصدّر ما بين 70 إلى 80% من نفط العراق.
ميسان: تسهم بحوالي 7 إلى 10%.
ذي قار (الناصرية): تساهم بـ 5 إلى 8%.
وهذا يعني أن صادراتها النفطية تمثل أكثر من 90% من دخل الدولة سنويًا، فضلًا عن إمكانياتها الزراعية والسمكية والموانئ والمنافذ الحدودية وطاقاتها البشرية الهائلة... ؛ ومع ذلك، كثيراً ما تُعامَل هذه المحافظات كأنها “درجة ثانية” من حيث الخدمات والتمثيل والإنفاق الاستثماري، بينما تستأثر المؤسسات المركزية في بغداد , وكردستان والمحافظات الغربية بالوزارات والعقود والموازنات والاستثمارات .
الطاقة البشرية: ثروة موازية
جنوب العراق ليس فقط آبار نفط، بل هو مخزون بشري هائل يتمتع بمهارات فنية عالية في مجالات النفط والموانئ والزراعة والحرف التقليدية، إضافة إلى ثقافة اجتماعية متجذرة تقوم على التضامن والتكافل... ؛ ومع ذلك، يُستنزف هذا المخزون البشري عبر الهجرة الداخلية إلى بغداد أو الخارجية ... ؛ اذ تعاني هذه المحافظات من هجرة شبابية نحو العاصمة أو خارج البلاد بسبب غياب فرص استثمار حقيقية في التنمية المحلية ؛ ومنذ زمن طويل .
التهميش الممنهج: من البعث إلى اليوم
رغم هذه الثروات، تعاملت الحكومات العراقية المتعاقبة – خاصة في العهد العارفي والبعثي – مع هذه المحافظات كأطراف مهمّشة، محرومة من التنمية الحقيقية، وموضوعة تحت رقابة أمنية وسياسية مشددة... ؛ و استُنزفت أراضيها في الحروب، واستُغلت مواردها لصالح المركز، بينما تركت مدنها وقراها بلا بنى تحتية حقيقية ولا خدمات لائقة... ؛ نعم رغم الاستخراج الهائل للنفط، عومل الجنوب كـ"مزود" وليس شريكًا... ؛ اذ لم تتلقَ المحافظات التنمية اللائقة أو البنى التحتية الكافية، بل خضعت أحيانًا لسياسات قمعية من خلال: عمليات تفريغ المستنقعات (الأهوار) في ذي قار وميسان لتغييب حواضن معارضة كما ادعى النظام الاجرامي البائد - ما أدى إلى تهجير 200,000 شخص وتدمير بيئي هائل - ؛ فضلا عن عمليات الابادة والتطهير الطائفي والمقابر الجماعية , واتباع سياسات الافقار والارض المحروقة والحصار والاقصاء والملاحقة والمطاردة ... ؛ ومع سقوط النظام السابق، كان الأمل أن تتغير المعادلة، لكن الحكومات اللاحقة استمرت في سياسات الإهمال والتهميش ، حيث ظلت بغداد تستأثر بالوزارات والمؤسسات والعقود والموازنات، فيما تموَّل كل هذه الموارد من الجنوب نفسه... ؛ دون معادلة عادلة في إعادة توزيع الدخل أو الاستثمار.
الاستهداف الخارجي والإقليمي
إلى جانب الإهمال الداخلي، كان الجنوب دائمًا هدفًا لمشاريع القوى الاستعمارية والدول الإقليمية... ؛ فثرواته النفطية وموقعه الاستراتيجي على الخليج جعلاه ساحة تنافس وصراع، ما بين محاولات التحكم بالموانئ والمنافذ، والسعي لإبقاء هذه المحافظات في حالة هشاشة سياسية واقتصادية، تسهّل استغلالها وتمنعها من التحول إلى قوة مؤثرة.
المياه والبيئة
تعاني البصرة تحديداً من أزمة مائية متكرّرة؛ ففي صيف 2018 أُدخل ما لا يقل عن 118 ألف شخص إلى المستشفيات بسبب التلوّث وسوء الإدارة المائية، وهو ملف ما زالت تبعاته الاجتماعية والسياسية حاضرة... ؛ فضلا عن تفشي الاصابة بالأمراض السرطانية بين البصريين والجنوبيين .
الطاقات البشرية وسوق العمل
الجنوب شابٌّ بتكوينه الديموغرافي، لكنه يعاني فجوةً بين حجم الثروة وفرص العمل المحلية... ؛ اذ ترصد تقارير دولية متعدّدة ؛ معدلات فقرٍ أعلى في محافظات الجنوب مقارنةً بالمعدل الوطني، مع تباينات داخلية واسعة بين الأقضية والنواحي... ؛ ورغم تحسّن بعض المؤشرات مؤخراً (من حيث الفقر متعدد الأبعاد)، ما زالت الحاجة ماسّة إلى تنويع الاقتصاد وخلق وظائف لائقة خارج القطاع العام.
السياسة والحوكمة: التكوين البنيوي للتهميش .. إرث مركزيّة الدولة
منذ عقود والى هذه اللحظة ، تشكّلت مركزيةٌ شديدة في القرار والمالية العامة لصالح العاصمة ومؤسساتها، بينما ظلّت المحافظات المنتِجة — خصوصاً الجنوبية — تطالب بآليات عادلة لتوزيع عوائد “البترودولار” وتنميةٍ تتناسب مع كِبر مساهمتها في الخزينة... ؛ وقد وثّقت مبادرات الشفافية (EITI) حاجة العراق إلى تحسين تقاسم إيرادات النفط على المستوى دون الوطني ومعالجة فجوات البيانات والمساءلة.
القمع وتسييس الخدمات
دفعت احتجاجات البصرة 2018 — على البطالة وسوء الخدمات والمياه — باتجاه صدامات دامية؛ وثّقت منظمات حقوقية الاستخدام المفرِط للقوة وسقوط قتلى وجرحى، ثم امتدّت موجات الغضب إلى حركات احتجاج أوسع (2019–2020)... ؛ و هذا العنف رسّخ لدى سكان الجنوب شعوراً بأن مطالبهم الخدمية تُواجَه بأدوات أمنية لا بسياسات إنمائية.
المعادلة المقلوبة
بينما يحصل إقليم كردستان على حصته الكاملة من الموازنة الاتحادية – بل وأحيانًا أكثر – رغم استقلالية اقتصاده ؛ ودون أن يسلم كامل صادراته النفطية لبغداد، يجد أبناء الجنوب أنفسهم في وضع معاكس: يقدمون النفط والموانئ والإيرادات، ولا يحصلون إلا على الفتات من الموازنة والخدمات.
خارطة طريق عملية للجنوب
اتفاق “عائد محلي مُلزم”: تحديد نسبةٍ واضحة من عوائد الحقول والموانئ تُصرف داخل المحافظات المنتِجة بموجب قانون نافذ وقابل للرقابة المجتمعية. (مرجعيات الشفافية دون-الوطنية في EITI تساعد على التصميم والمتابعة).
تعميق الصناعة الغازية: تسريع مشاريع جمع ومعالجة الغاز المصاحب في حلفاية وغرب القرنة ورطاوي وباقي الحقول، وربطها بخطط الكهرباء والبتروكيماويات لتقليل الحرق والاستيراد وخلق وظائف ماهرة.
تشغيل لوجستي تنافسي: إسناد تشغيل ميناء الفاو الكبير لمشغّل عالمي بخريطة نقل متكاملة (سكك + طرق + مناطق لوجستية) تُولّد قيمة محلية، مع تحسين الحوكمة في أم قصر لرفع الاعتمادية.
سلام مائي للجنوب: برنامج طوارئ للمياه (تحلية/شبكات/رقابة تلوث) في البصرة وميسان وذي قار مع اتفاقات إنسيابية داخلية وإقليمية؛ فالدرس القاسي لعام 2018 لا يحتمل التكرار.
حماية الحق في الاحتجاج والخدمة: معالجة المطالب الاجتماعية بوسائل سياسية وخدمية، ومنع عسكرة الاستجابة؛ فالقمع يبدّد الثقة ويقوّض الاستثمار.
رسالة إلى أبناء الجنوب
يجب أن يدرك أبناء الجنوب أنهم أصل الثروة ومصدر القوة، وليسوا مجرد تابعين لقرارات المركز... ؛ إن وحدة كلمتهم ومواقفهم، والمطالبة العادلة بحقوقهم، ليست خيارًا سياسيًا فقط، بل ضرورة لحماية مستقبلهم وضمان حصة عادلة من ثرواتهم، تمامًا كما يفعل الآخرون ممن يمتلكون رؤية سياسية موحدة.
فأبناء الجنوب هم ركيزة الاقتصاد العراقي ومصدر القوة الحقيقي... ؛ و عليهم أن يطالبوا بحصتهم العادلة، إدراكًا بأنهم ليسوا مجرد مورد، بل شركاء في بناء الدولة ان لم يكونوا أولى بها من غيرهم .
خاتمة
على امتداد ضفاف شط العرب وحقول ميسان وسهل ذي قار، يُنقَش مستقبل العراق... ؛ و ما لم تتحوّل وفرة الجنوب من إيراد ريعي إلى تنمية عادلة — تشارك فيها المجتمعات المحلية والقطاع الخاص وتلتزم فيها الدولة بقواعد الشفافية والإنصاف — سيظل التناقض صارخاً بين غنى الأرض وفقر الإنسان.
إن الجنوب لا يطلب امتيازاً، بل يطلب عدالةً مكافئةً لدوره في تمويل الدولة، وضماناتٍ مؤسسيةً لصون حقّه في الماء والعمل والبيئة والكرامة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat