الاستنساخ وتغير القبلة عند الشيخ الطبرسي
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف

عن تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله تعالى عن قبلة "قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ" ﴿البقرة 144﴾ " قد نرى تقلب وجهك " يا محمد " في السماء " لانتظار الوحي في أمر القبلة وقيل في سبب تقليب النبي وجهه في السماء قولان. (أحدهما) أنه كان وعد بتحويل القبلة عن بيت المقدس فكان يفعل ذلك انتظارا وتوقعا للموعود كما أن من انتظر شيئا فإنه يجعل بصره إلى الجهة التي يتوقع وروده منها (والثاني) أنه كان يكره قبلة بيت المقدس ويهوى قبلة الكعبة وكان لا يسأل الله تعالى ذلك لأنه لا يجوز للأنبياء أن يسألوا الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إلى ذلك فيكون فتنة لقومهم. واختلف في سبب إرادته تحويل القبلة إلى الكعبة فقيل لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام وقبلة آبائه عن ابن عباس وقيل لأن اليهود قالوا يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا عن مجاهد وقيل إن اليهود قالوا ما دري محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم عن ابن زيد وقيل كانت العرب يحبون الكعبة ويعظمونها غاية التعظيم فكان في التوجه إليها استمالة لقلوبهم ليكونوا أحرص على الصلاة إليها وكان صلى الله عليه وآله وسلّم حريصا على استدعائهم إلى الدين ويحتمل أن يكون إنما أحب ذلك لجميع هذه الوجوه إذ لا تنافي بينها. وقوله " فلنولينك قبلة ترضيها " أي فلنصرفنك إلى قبلة تريدها وتحبها وإنما أراد به محبة الطباع لا أنه كان يسخط القبلة الأولى " فول وجهك شطر المسجد الحرام " أي حول نفسك نحو المسجد الحرام لأن وجه الشيء نفسه وقيل إنما ذكر الوجه لأن به يظهر التوجه وقال أبو علي الجبائي أراد بالشطر النصف فأمره الله تعالى بالتوجه إلى نصف المسجد الحرام حتى يكون مقابل الكعبة وهذا خطأ لأنه خلاف أقوال المفسرين " وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " أي أينما كنتم من الأرض في بر أو بحر أو سهل أو جبل فولوا وجوهكم نحوه فالأول خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأهل المدينة (والثاني) خطاب لجميع أهل الآفاق ولو اقتصر على الأول لجاز أن يظن أن ذلك قبلتهم حسب فبين سبحانه أنه قبلة لجميع المصلين في مشارق الأرض ومغاربها.
وعن علاقة النسخ بتغيير القبلة يقول الشيخ الطبرسي في تفسيره الآية البقرة 144: وذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتابه عن ابن عباس أنه قال البيت كله قبلة وقبلة البيت الباب والبيت قبلة أهل المسجد والمسجد قبلة أهل الحرم والحرم قبلة أهل الأرض كلها وهذا موافق لما قاله أصحابنا أن الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق وقوله "وإن الذين أوتوا الكتاب" ﴿البقرة 144﴾ أراد به علماء اليهود وقيل علماء اليهود والنصارى "ليعلمون أنه الحق من ربهم" ﴿البقرة 144﴾ أي يعلمون أن تحويل القبلة إلى الكعبة حق مأمور به من ربهم وإنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبي من صفاته كذا وكذا وكان في صفاته أنه يصلي إلى القبلتين. وروي أنهم قالوا عند التحويل ما أمرت بهذا يا محمد وإنما هو شيء تبتدعه من تلقاء نفسك مرة إلى هنا ومرة إلى هنا فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أنهم يعلمون خلاف ما يقولون "وما الله بغافل عما يعملون" ﴿البقرة 144﴾ أي ليس الله بغافل عما يعمل هؤلاء من كتمان صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم والمعاندة ودل هذا على أن المراد بالآية قوم معدودون يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب وعلى أن يظهروا خلاف ما يبطنون فأما الجمع العظيم فلا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب ولا يتأتى فيهم كلهم أن يظهروا خلاف ما يعلمون. وهذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس وقال ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة وقال قتادة نسخت هذه الآية ما قبلها وقال جعفر بن مبشر هذا مما نسخ من السنة بالقرآن وهذا هو الأقوى لأنه ليس في القرآن ما يدل على التعبد بالتوجه إلى بيت المقدس ومن قال إنها نسخت قوله فأينما تولوا فثم وجه الله فإن هذه الآية عندنا مخصوصة بالنوافل في حال السفر روي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام وليست بمنسوخة. واختلف الناس في صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى بيت المقدس فقال قوم كان عليه السلام يصلي بمكة إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يصلي إلى بيت المقدس ثم أعيد إلى الكعبة وقال قوم كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها ولا يصلي في غير المكان الذي يمكن هذا فيه وقال قوم بل كان يصلي بمكة وبعد قدومه المدينة إلى بيت المقدس ولم يكن عليه أن يجعل الكعبة بينه وبينها ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة.
قال الله تعالى "وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ" (البقرة 145) جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: "ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب " في الكلام معنى القسم أي والله لئن أتيت الذين أعطوا الكتاب يعني أهل العناد من علماء اليهود والنصارى عن الزجاج والبلخي وقيل المعني به جميع أهل الكتاب عن الحسن وأبي علي " بكل آية "أي بكل حجة ودلالة " ما تبعوا قبلتك " أي لا يجتمعون على اتباع قبلتك على القول الثاني وعلى القول الأول لا يؤمن منهم أحد لأن المعاند لا تنفعه الدلالة وإنما تنفع الجاهل الذي لا يعلم. "وما أنت بتابع قبلتهم" في معناه أربعة أقوال (أحدها) أنه رفع لتجويز النسخ وبيان أن هذه القبلة لا تنسخ (وثانيها) أنه على وجه المقابلة لقوله "ما تبعوا قبلتك" كما يقال ما هم بتاركي إنكار الحق وما أنت بتارك الاعتراف به فيكون الذي جر الكلام الثاني هو التقابل للكلام الأول (وثالثها) أن المراد ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم لاختلاف وجهتهم لأن النصارى تتوجه إلى جهة المشرق الموضع الذي ولد فيه عيسى عليه السلام واليهود إلى بيت المقدس فبين الله سبحانه أن إرضاء الفريقين محال (ورابعها) أن المراد حسم أطماع أهل الكتاب من اليهود إذ كانوا طمعوا في ذلك وظنوا أنه يرجع إلى الصلاة إلى بيت المقدس. وقوله " وما بعضهم بتابع قبلة بعض " في معناه قولان (أحدهما) أنه لا تصير النصارى كلهم يهودا أو تصير اليهود كلهم نصارى أبدا كما لا يتبع جميعهم الإسلام وهذا من الإخبار بالغيب قاله الحسن والسدي (الآخر) أن معناه إسقاط اعتلالهم بأنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب فيما ورثوه عن أنبياء الله وإن بيت المقدس لم يزل كان قبلة الأنبياء فهو أولى بأن يكون قبلة أي فكما جاز أن يخالف بين وجهتيهم للاستصلاح جاز أن يخالف بوجهة ثالثة في زمان آخر للاستصلاح ويحتمل أيضا أن يجري الكلام على الظاهر لأنه لم يثبت أن يهوديا تنصر ولا أن نصرانيا تهود فلا ضرورة بنا إلى العدول عن الظاهر إلى التأويل وهذا قول القاضي.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat