الزيارة الأربعينية: جهود وأيادٍ بين الأرض والسماء
رسل جمال
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رسل جمال

بعد انتهاء المسير الحسيني والذي يُعَدُّ أضخم تجمّع بشري سنوي في العالم، ليس فقط من حيث أعداد المشاركين التي تتجاوز عشرات الملايين، بل من حيث كونه أكبر تجمّع "مخدوم" في التاريخ البشري، حيث تُسخَّر كل الطاقات لخدمة الزائرين على طول آلاف الكيلومترات الممتدة من مدن العراق وخارجه وحتى مرقد الإمام الحسين (عليه السلام)، هذا التجمّع لا يعرف حدوداً قومية ولا طائفية ولا اجتماعية، بل ينصهر فيه الجميع في بوتقة الخدمة والعطاء.
ان الحسين اشعل الشرارة وعلينا المحافظة عليها
اذ ان الأربعينية ليست مجرد أرقام متزايدة من
الزائرين، بل هي مدرسة خدمية يتفنن فيها أصحاب المواكب والهيئات في إكرام الضيف العابر، حتى صار الزائر يشعر أنه ضيف مكرّم على طول الطريق، هذه الشعيرة اصبحت طقسا للابهار ومن يتذوق جاي ابو علي لا يملك الا ان يعاد الزيارة السنة القادمة انها متلازمة الاربعينية.
فمن تقديم الطعام بأنواعه، إلى توفير المبيت والخدمات الصحية واللوجستية، وحتى أدق التفاصيل كغسل الملابس أو تدليك أقدام الزائرين، جميعها مظاهر تدل على أن هذا المسير هو حدث "مخدوم" بامتياز، لا مثيل له في أي حضارة أو دين آخر. ان الزيارة ينبوع بشري يزداد كل سنة ،والغريب تزايد اعدد المشاركين في المسير الحييني الأربعيني بشكل لافت، ويزداد معه بشكل مطرد حجم الخدمة وتنوعها, بل وجودتها، وهذا عكس التجمعات البشرية الكبيرة التي تشدد على اعداد محددة للزائرين لضمان خدمتهم بشكل جيد (كالحج) مثلل الا ان هذا التزايد يفرض تحديات كبيرة، لكنه في الوقت نفسه يُظهر إبداع أصحاب المواكب وقدرتهم على التكييف والتفنن في تقديم الخدمة،ومواجهة شتى الظروف كالمناخية مثلا، في سبيل لا يشعر الزائر بالعناء رغم المشقة. ولعل هذا التوازن بين ضخامة الأعداد وراحة الزائر هو سرّ استمرارية هذه الملحمة عبر السنين. ان زيارة الاربعين فرصة تنموية وثروة مستدامة، اذ تكمن الزيارة الاربعينة في بعدها الاجتماعي التنموي ، اذا انها خرجت من اطار الطقس الديني الى فضاء الظاهرة البشرية، والحفاظ على استمرار الزخم بعد الأربعين، و رغم ضخامة الجهود المبذولة، إلا أن حصرها في فترة الزيارة يفقدها الكثير من آثارها، من هنا تأتي ضرورة تحويل هذا الزخم من الجهود البشرية إلى عمل منظم ومستدام على مدار العام.
ولكي يواكب الطريق الأعداد المتزايدة، لابد من التفكير في مشاريع استراتيجية، أبرزها؛
تأهيل طريق بديل وموازٍ مزود بكافة الخدمات، لتخفيف الزخم وضمان انسيابية الحركة
يكون مكسو بالاشجار ، حتى لا تقلع الاشجار ولا يدمر الاسفلت او مقرنص الرصيف! ولا نرى عبارة موكب محجوز في الطريق الخارجي الرابط بين المحافظات فهي فرصة سنوية لعملية اعمار وتأهيل آلاف الكيلومترات بجهود الزائرين والدولة والمجتمع الدولي، لتبقى زيارة الحسين (عليه السلام) دافعاً لعمران الأرض كما هي باعث لسمو الأرواح
و هي فرصة ثمينة لاطلاق حملة تشجير طريق الحسين واشراك الزائرين انفسهم بغرس تلك الشتلات، فيتحول الطريق إلى واحة خضراء، وتغدو الزيارة مشروعاً بيئياً وإنمائياً طويل الأمد.
كذلك ممكن تأسيس اشبه ما يعرف (رابطة للمواكب والهيئات)،مثلا تتولى التنسيق والتخطيط وتطوير الخدمات فيما بينها مثل التنسيق في طبخ الوجبات او الكميات حتى نتجنب رمي اطنان من الاكل وتبذيره على الطرقات ايام الزيارة ،وهي فرصة لتطوير عمل المواكب بشكل اكثر حضارة واستدامة،و بما يحافظ على روح العطاء ويؤسس لمشاريع خدمية وتنموية تمتد إلى ما بعد الزيارة.
ان الزيارة الاربعينة تمر بحالة من النضوج العقدي والسلوكي نلاحظه في كل زيارة و هناك بصمة مضيئة ومبادرة ريادية مهمة تحتاج ان تكون ضمن منهاج الزيارة ، وان تندرج ضمن لوائح مهام الزائرين حتى توثق تلك الجهود وتتبلور الزيارة بشكلها الحسيني البهي.
الا ان حملات التشويه والتخريب.. ومحاولات الإقصاء التي يتعرض لها هذا المسير المبارك الذي يتعرض بين الحين والآخر لحملات تشويه مقصودة، سواء عبر التشكيك بأرقامه أو تصويره كمشهد عاطفي بلا جدوى، أو حتى عبر محاولات تخريب متعمدة لعرقلة انسيابيته, او تصوير بعض الحالات واللقطات الشاذة التي لا تمثل الزيارة ولا الزائرين بل هي لقطات مدفوعة الثمن الغرض منها تشويه الشعيرة، وهذه الحملات لا تستهدف مجرد مسيرة، بل تستهدف رمزاً حضارياً وروحياً يُوحّد الناس تحت راية إنسانية خالصة.
في المقابل هناك أيادٍ مخلصة تبذل كل ما تملك مقابل هذه الحملات، هناك جيوش من المحبين والمخلصين الذين يذلّلون كل العقبات لإنجاح المسير، من أصحاب المواكب الذين ينفقون مدخراتهم بلا حساب، إلى المتطوعين الذين يتركون أعمالهم وأسرهم لخدمة الزائرين، إلى الزائرين أنفسهم الذين يقطعون آلاف الكيلومترات متحدّين المشقة. جميعهم أيادٍ ممدودة بين الأرض والسماء، تصنع هذا المشهد الفريد الذي لا نظير له في العالم.
ان الزيارة كحصن ضد الدخلاء والمندسين، وهي تنظيم ذاتها بذاتها لكن بحاجة لجهود واستدامة الخدمة لا يحفظ فقط راحة الزائرين، بل يحصّن الزيارة كشعيرة من الدخلاء والمندسين الذين يحاولون استغلال هذا الحدث. فكلما كان الطريق منظماً ومؤهلاً ومحصّناً بالمؤسسات الخدمية والأمنية، كان أقل عرضة للاختراق والتشويه.
في الختام الزيارة الأربعينية ليست مجرد مسيرة إيمانية، بل هي مشروع حضاري متكامل، أكبر حدث سنوي وتجمع بشري يقدم خدماته مجانا في العالم، ومختبر حيّ للعطاء والتفاني والإخلاص، إنها ملحمة يشارك فيها الملايين بأقدامهم وأياديهم وقلوبهم، لتكون شاهداً على قدرة الإنسان على تحويل الحب إلى خدمة، والخدمة إلى إعمار، والإعمار إلى حضارة. وإذا استطعنا أن نحافظ على زخمها ونحوّله إلى مشاريع مستدامة، فإن طريق الحسين (عليه السلام) سيبقى عامراً بين الأرض والسماء، مهما حاولت يد التخريب أن تنال منه.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat