صفحة الكاتب : رياض سعد

قانون القوة في العراق المعاصر بين وهم الشعارات وحقائق الميدان
رياض سعد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

إنَّ ما جرى للعراق بعد عام 2003 يمثل تجسيدًا حيًّا للقاعدة التاريخية التي تقول إنّ من لا يمتلك أدوات القوة يصبح ساحة لتصفية الحسابات... ؛  فإسقاط نظام صدام الاجرامي لم يكن انتصارًا للشيعة أو للسنة أو لأي مكوّن محلي، بل كان قرارًا استراتيجيًا أمريكيًا، صُمّم وفق مصالح القوى الكبرى... ؛  وما أن انهار النظام، حتى تكشّفت حقيقة التوازنات: الشيعة، الذين ظنوا أن سقوط صدام يعني بداية عهد جديد لهم ... ؛ حتى اكتشفوا أن الطريق إلى الحكم لم يكن مفروشًا بالورود، بل بالألغام والمفخخات والتفجيرات الانتحارية  .

أول هذه الألغام كان الإرهاب المنظم: الاف الانتحاريين الذين تدفقوا من دول عربية وإسلامية – وعلى رأسها فلسطين وسوريا والسعودية والأردن ... الخ –  فقد حوّلوا بغداد ومدن الجنوب إلى أنهار من  دماء... ؛  وهنا برز السؤال المؤلم : لماذا يُستباح الدم الشيعي رغم أنهم لم يحاربوا هذه الشعوب يومًا؟!

الجواب بسيط: لأن ميزان القوة مختل، ولأن حسابات السياسة العربية والإسلامية قامت على الطائفية ونزع الشرعية عن الشيعة مهما قدّموا من تضحيات في سبيل قضايا العراق او الامة العربية او الامة الاسلامية .

ثم جاء اللغم الثاني: الاحتلال الأمريكي نفسه... ؛  فبينما حاولت بعض القيادات الشيعية الركون إلى أمريكا لضمان بقاء النظام الجديد... ؛  اكتشفوا سريعًا أن واشنطن تتعامل معهم كأدوات مؤقتة، وليس كشركاء دائمين ... ؛  ومتى ما انتفت الحاجة، تُرك العراق لمصيره ... ؛ وتخلصوا من الساسة بألف عذر وعذر ... ؛ و لقد كان المشهد أشبه بما قاله كيسنجر: "... أن تكون صديقًا لأمريكا أمر قاتل"... ؛  فحين قررت الولايات المتحدة الانسحاب عام 2011 ، لم تترك وراءها عراقًا قويًا، بل عراقًا هشًا ممزقًا، محاطًا بالأعداء، ومخترقًا بالطائفية والفساد والجماعات المسلحة والعصابات الارهابية والمافيات الاجرامية  .

اللغم الثالث تمثل في الاندماج غير المدروس بمحور المقاومة... ؛  فالفصائل العراقية التي رفعت شعار مقاومة الاحتلال الأمريكي، ثم الانخراط في الصراع مع إسرائيل عبر التحالف مع إيران وحزب الله وسوريا واليمن ... ؛  وجدت نفسها في قلب معركة إقليمية أكبر من حجمها... ؛ و هنا تكرر الخطأ التاريخي : التضحية بالدماء والقدرات في ساحات خارجية، بينما الداخل العراقي يغرق في الفساد والفوضى وضعف الدولة والتهديدات والتحديات الداخلية ... ؛  والنتيجة: آلاف الشهداء العراقيين الذين سقطوا في سوريا واليمن ولبنان وغيرها ، لكن العراق لم يجنِ من ذلك إلا المزيد من العزلة والعداء، بل حتى حلفاؤه المفترضون لم يعترفوا له بفضل أو تضحية...!!

وفي خضم هذه الألغام الثلاثة – الإرهاب، الاحتلال، المحاور الخارجية  – تكشفت حقيقة مرّة: أن الشيعة، وهم الأغلبية العددية في العراق، ظلوا أضعف من أن يفرضوا مشروعًا وطنيًا جامعًا... ؛  فبدل  من أن يوظفوا قوتهم الديموغرافية في بناء دولة مؤسسات، انجرّوا إلى صراعات جانبية، وانقسموا فيما بينهم على زعامات ومصالح فئوية... ؛  فصار الشيعي يحارب الشيعي، والفصيل يقاتل الفصيل، وكأنما أعادوا إنتاج مأساة التاريخ في نسخة جديدة.

إنّ قراءة هذا المشهد تؤكد أن ما يجري ليس صدفة، بل هو تكرار لسنن القوة والضعف: ففي ثورة العشرين، اصطدم الشيعة بالإمبراطورية البريطانية بلا عُدة ولا سند، فدفعوا الثمن غاليًا... ؛ وفي العقود اللاحقة، زُجوا في معارك العرب وقضايا فلسطين، فلم ينالوا إلا الجفاء والاتهام... ؛ وفي الحاضر، أعادوا الخطأ نفسه بدخولهم في مواجهة مع أمريكا وإسرائيل عبر بوابة المحاور، فخسروا الداخل والخارج معًا.

إن العراق اليوم بحاجة إلى مراجعة عميقة، لا تقوم على الشعارات أو العاطفة أو فكرة "نصرة الآخرين"، بل على إعادة بناء القوة الذاتية : دولة قوية، جيش موحد، اقتصاد متين، وإرادة سياسية مستقلة... ؛  فالقوة وحدها هي التي تمنح الحق معناه، وتحوّل التضحيات إلى مكاسب، وتجعل الآخرين يحسبون حسابًا للعراق وأهله ألف حساب .

لقد آن الأوان أن يتعلم العراقيون – والشيعة في مقدمتهم – أن التاريخ لا يرحم الضعفاء، وأن الدماء إن لم تُستثمر في مشروع وطني حقيقي، فلن تكون سوى وقود في معارك الآخرين... ؛  والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يستوعب العراقيون هذا الدرس قبل أن تدور عجلة التاريخ عليهم مرة أخرى، كما دارت على أسلافهم؟


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رياض سعد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/08/17


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • أشباح الإمبراطورية : المخابرات البريطانية في العراق من الظل إلى السلطة  (المقالات)

    • وادي حوران محتل كالجولان من قبل الامريكان (5) وادي حوران في قبضة داعش  (المقالات)

    • قطع أرزاق العراقيين: بين عبث البلديات وعجز الدولة عن ايجاد بدائل حقيقية  (المقالات)

    • الكتابة كقَدَر: من حبر الذات إلى وجع الوطن (4)  (المقالات)

    • ثمن اغتصاب السلطة وثمن الخضوع لها: قراءة تاريخية في إرث الدولة الأموية بين الدم والبطش والانقسام  (المقالات)



كتابة تعليق لموضوع : قانون القوة في العراق المعاصر بين وهم الشعارات وحقائق الميدان
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net