كتابات في الميزان
كتابات في الميزان

البيّاعون

التقلبات في المواقف السياسية التي نراها عند البعض من السياسيين العراقيين باتت اليوم ظاهرة لا يمكن التغاضي عنها ويستوجوب الوقوف عندها وفضحها دون مواربة ، لانها قد خرجت من اطار اللعبة الديمقراطية التي تتطلب في جانب منها اللعب على اوتار المواقف في مواجهة عقدة تستعصي على الحل ، وتتطلب مراوغة او ليونة في بعض الاحيان ، الى اطار المساومات الرخيصة التي لا تليق بصغار السياسيين في اي بلد من بلدان العالم .

وحينما نشير هنا الى التقلبات السياسية فاننا نعني بها المواقف التي يظهر فيها بعض السياسيين مدافعين حتى الاستماتة عن مشروع ما ، يبدو انهم مقتنعون به ، ثم ما يلبثوا بين ليلة وضحاها يهاجمون ذات المشروع ، وبذات الاستماتة التي كانوا حتى وقت قريب يتصدرون صفوف المدافعين عنه .

وقد يبدو الامر ملتبسا على الفهم ، خاصة بالنسبة لأولئك اللذين يعتقدون ان سواد من يتصدر المشهد العراقي هم من طبقة السياسيين اللذين يتحلون بالحنكة والدراية بالامور ماعرف منها وما بطن . وهم – اي المتصدرون – انما يتحاشون الوصول الى تلك العقدة التي يتم الخشية منها لان بعدها الطوفان ، لذلك تراهم يغيرون مواقفهم هنا ويستبدلونها باخرى هناك ، حفاظا على مايمكن الحفاظ عليه .

ولو بحثنا في بعض الاجوبة التي قد تزيل الالتباس في امر هؤلاء البعض ، نجد جوابا  قد يطرح من باب الشفقة عليهم والرأفة في الحال الذي اوصلوا انفسهم فيه ، والذي يبرر مواقفهم المتقلبة ، على اساس ان  لكل مجتهد نصيب ، وهو جواب يستند على مبدأ حسن النية والرغبة في معالجة ما فسد أو يكاد يفسد من امر .

ولمثل هؤلاء اللذين يلتبس عليهم الامر ، نقول ان البعض ممن نتحدث عنهم هنا ، لم يكونوا سياسيين في يوم ما ، ولم يعرفوا الى وقت قريب ، معنى من معاني السياسة  ماكان منها اسلاميا او ليبراليا او حتى اشتراكيا او رأسماليا ، بل انهم لم يتعرفوا بعد على معنى من معاني الديمقراطية حديثة العهد . وكل ما خبروه من معاني ، ينحصر في انهم عاشوا او عاصروا وربما حتى سمعوا بان هنالك نظاما سياسيا دكتاتوريا كان قد حكم العراق منذ عام 1968 – 2003 . وهم يسعون لعدم تكرار تلك الحقبة بتداعياتها ورموزها ، ليس ايمانا منهم بضرورة المحافظة على مكتسبات الشعب ، وانما ركوبا منهم لموجة ما بعد التغيير  .

وقد يصح مبدأ ان لكل مجتهد نصيب في الحد الادنى من الرغبة الحقيقية في المحافظة على ديمومة تلك المكتسبات ، لكنه لا يصح ولن يصح ابدا ، حينما تتبدى المواقف بتقلباتها عن مصالح شخصية بحتة ، تتقاطع احيانا مع المصالح الحزبية والفئوية ، وتتمادى في غيّها ، لتصل الى التقاطع مع المصالح الوطنية للبلاد.       

ان هناك فئة ممن وجدوا لهم موطيء قدم ضمن ما يعرف بطبقة السياسيين العراقيين ، باتوا اليوم سماسرة مواقف ، لا يخضعون لشروط العرض والطلب ، فهم يشترون اليوم ويبيعون غدا ، واليوم معك وغدا ضدك ، من اجل ان تكتنز جيوبهم بسحت المال السياسي ، بعد ان صنعوا لانفسهم هالات خدّاعة ، وفرتها لهم دعامات اعلامية هشّة ، لم تضع هي الاخرى في حساباتها تداعيات السوق السياسة المكشوفة .

وهؤلاء اللذين نتحدث عنهم هنا ( البيّاعون ) ،  قد سقطوا ( دون دراية منهم ) في هشاشة وفخ الظهور المتواصل على شاشات التلفزيون والمنابر الاعلامية الاخرى التي كشفت الكثير من سوآتهم ، التي لم تنفع معها ربطات العنق المستوردة وفساتين الحشمة المنمّقة . وبات ذلك الظهور ( المتكرر ) مدعاة لسخرية عموم الناس بدل ان يكون مدعاة لاعجابهم وتقديرهم . فقد صار عليهم في غفلة الشهرة الاعلامية التي نسجوها لانفسهم ، ان يكشفوا عن قيمة ما باعوا واشتروا من مواقف ، اكثر من الكشف عن مواقفهم نفسها وتفسير دوافعها . 

ان الظرر الذي يحدثه هؤلاء البيّاعون يكون كبيرا ومؤلما ، وهو يتعدى بتأثيره على اصحاب النيّات الطيّبة والمواقف الحقيقية عندما يصعب عليهم تمييز الخبيث من الطيب من انصار ومؤيدي هذه المواقف ،  ليصل الى ظرر عام يضرب صورة حاضر ومستقبل البلاد ،  حينما تكون الصورة مشوّشة بمثل هؤلاء ، خاصة اذا ما ادركنا ان مسيرة تثبيت المواقف في النفوس الضعيفة ، يتطلب جهدا لا يقل عن جهد اتخاذ المواقف نفسها .

ومع هذا فان الظرر يمكن ان يتحول الى عملية عكسية حينما ينكشف هؤلاء وتأخذهم العزة بالاثم ، فيمارسوا سمسرة المواقف على الهواء وامام الاشهاد ، بعد ان صاروا مدمني قمار سياسي ، يحدوهم هم واحد هو الخروج بصفقة رابحة حتى وان كانت على حساب كرامتهم المهدورة اصلا .  

نعم يمكن ان يكون ظرر هؤلاء عكسيا ويتحول الى فائدة وطنية حينما يتعرف الشعب على حقيقتهم ويلفظهم الى غير رجعة لتبقى مسيرة هذه البلاد نقية ، خالية من الادران ..

طباعة
2012/08/11
3,786
تعليق

التعليقات

لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!