في وقت الأزمات، وبعد الانكسارات، وعند المنعطفات التاريخية الحاسمة، تظهر تيارات فكرية، هدفها البحث عن الذات، ومراجعة ما حدث، بقصد إعادة تأهيل الأمة، لمواجهة المصير، بكفاءة عالية، وكفاية مناسبة. وغالباً ما يتم التركيز على المشتركات التي توحّد الأمة، وتجسّد امكاناتها. وهذه المشتركات هي ما يحدد هوية الأمة، ويظهر تمايزها. لذلك يبدأ المفكرون في البحث في هوية الأمة، والبحث عن هوية الأمة، مع ملاحظة أن البحث في الهوية بحث معرفي، أما البحث عن الهوية فبحث أيديولوجي غالباً. البحث في الهوية بحث صنع لهذه الهوية، ومتابعة لصنعها باستمرار. أما البحث عنها، فيعني أن الهوية منجزة ولكنها ضائعة يجب البحث عنها لاستردادها. البحث في الهوية بحث علمي له أبعاده الفلسفية، بحث في وحدة الانتماء، بحث عن العام، والمشترك، والكلي في هذا الذي يبدو وكأنه خاص وفردي وجزئي. بحث عن الوحدة في المتنوع، بحث عن كلّ ما يؤدي إلى التقارب والالتقاء عند نقاط مشتركة. إنه ليس بحثاً عن شيء كنا نمتلكه، ثم أضعناه - كما يزعم البعض - بل عن شيء نصنعه باستمرار، وهو قيد الإنجاز دائماً، في ضوء منطق معين، ومبادئ وكليات معينة.
أما البحث عن الهوية فلا يمكن أن يرقى لمستوى البحث العلمي، لأنه ليس بحثاً بريئاً يهدف إلى تحديد مجمل السمات والملامح والمقومات التي تحدد الهوية... إنما هو (اختيار، انحياز، موقف، أيديولوجيا...) برنامج عمل يحاول أن يبحث عن هوية ما متصورة في ذهن ما، أن يبحث عن فردوس مفقود، عن عصر ذهبي... ثم يحاول بعد ذلك أن يطابق بين ذاته، وبين هذه الهوية المختارة، هذه الهوية النموذج... وهو في الحقيقة يحاول أن يؤكدَ ذاته عبر اختياره.
فالأمر- ببساطة شديدة - هو تأكيد للذات أكثر مما هو تحديد للهوية. وهذا بالضبط ما فعلته التيارات الفكرية العربية، بفصائلها المختلفة أثناء جوابها عن سؤال: من نحن وما هويتنا؟ حيث أجاب كل تيار فكري بما يتناسب مع اختياره، ومع تركيبه الثقافي والأيديولوجي، ومع مصالحه. علماً بأن تحديد الهوية أمر في غاية الأهمية، لنجاح المشروع العربي، الذي ما زال يعاني من الإخفاقات المتلاحقة. ذلك أن البحث (في، وعن) الهوية ليس بحثاً ميتافيزيقياً مجرداً، غايته إرضاء نزعة عند الأمة، بقصد الحصول على صك بتمايزها - ولا أقول تميزها - عن سواها من الأمم. إنما هو بحث يجب أن يهدف أصلاً إلى المساهمة في عملية النهوض الشاملة، التي تتطلع إليها الأمة. إنه تنمية حضارية، هدفها خوض نضال حضاري، ضد تحدّ حضاري يواجهنا، وما زلنا نتعرض لضغوطه المتزايدة: (لاسيما عبر فرض نوع من التنمية الاقتصادية المشوّهة، والتابعة، والتي لايمكن أن تقود إلا إلى مزيد من التبعية).
وفي البحث عن الهوية إنما نريد الوصول إلى إطار مرجعي، لكي نشيد مجتمعاً عربياً يريد أن يحقق شيئاً... الإطار المرجعي الصالح ، الذي يؤخذ من أنفسنا وممن حولنا. إذا لم نبدأ بهذا الإطار، فلن يكون لدينا فكر أو انتاج، أو حتى ثقافة، أو إنجاز... لعل سرّ الارتباك الذي نعيشه هو تعدد هذه الأطر... ولكي نبدأ السير من نقطة معينة، علينا أن نجمعَ على هدف معين، يدفعنا إليه فكر معين. فالقضية الأساس- فيما أزعم - هي الولاء للهوية، وطرح مشروع حضاري عربي عصري، ينبع من العقل، ويشد الوجدان، ويحرك الجماهير، لتعمل على إنجازه، دون أن نتوقع أو نتوهم، أن نجد في ماضينا حلولاً سحرية لمشاكل حاضرنا، وتطلعات مستقبلنا، ودون أن نديرَ ظهورنا لتراثنا، معتبرين إياه مجرد حطام وركام، عفى عليه الزمن. فالتاريخ يعلمنا أنه ما من أمة من الأمم نهضت بالانخلاع كلية من تراثها. والتاريخ يعلمنا كذلك أنه ما من أمة من الأمم نهضت بالانكفاء على تراثها، والتقوقع ضمن إنجازاته مهما كانت عظيمة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat