صفحة الكاتب : مها البهادلي

السراديب التي أنقذت عاشوراء
مها البهادلي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 كانوا يعرفون أن اسم الحسين نارٌ لا تُطفأ

وكان النظام يحاول إخمادها كما يُخمد دخان المجامر لكن المجالس كانت تولد من عتمة الحيطان وكان الصوت يخرج من تحت الأرض كأنَّه زفير الأمل حين يضيق التنفس

في أيام حزب البعث لم تكن عاشوراء تمرّ كما تمرّ الأيام
كانت تمرُّ كدمعةٍ حارقة فوق وجنات التاريخ وكان البيت الذي تقام فيه المجالس يتحول إلى كربلاء مصغّرة تُقام بين الجدران يُسدّ فيه الضوء وتُكتم فيه الأنفاس ويُغلق الباب على قلوبٍ اختارت أن تبقى مع الحسين مهما كان الثمن الذي كان يُعدّ مجلسًا داخل منزله كان كمن يضع روحه فوق كفّه ويطرق باب الشهادة الخطر لم يكن بعيدًا
فالعين التي كانت تراقب الناس في الشوارع كانت تعرف كيف تتسلل إلى النوايا والوشايات تُحاك كالسمّ في كؤوس الجيران ورغم كل هذا
كان المجلس يُعقد وكان صوت«يا حسين»يُهمس كسرّ بين جدران الطين وكانت المآتم تُصنع في السراديب تُنسج كالثوب الساتر للوجدان
سردابٌ داخل سرداب ثم بابٌ يُغلق وقلوبٌ تُفتح
وفي النجف الأشرف ما زالت تلك السراديب شاهدةً على زمن لا يشبه سواه زمنٌ ظنّ الطغاة أنهم يقدرون فيه على إسكات التاريخ لكنهم لم يعلموا أن الحسين يُسمع حتى لو صمت الجميع
لم يكن الطبخ يُعدّ فوق النار كما في الأيام العادية
كان يُعدّ فوق الجمر الهادئ كي لا يصعد الدخان
وكانت النذور تُقسم سرًّا وتُوزّع بعد الفجر
وكأن كل شيء في ذلك الزمن كان يُقام بخشوع وبخطر
الخطباء لم يكونوا ضيوفًا كانوا شهداء مؤجلين
يأتون إلى البيوت وهم يعرفون أن يدًا خفية قد تطرق الباب في أي لحظة لكنهم يلقون القصائد ويستخرجون من أعماق قلوبهم ذكر المصاب
وكان صوتهم خافتًا كالدعاء حادًا كالسكين
يضرب على الوتر الحسيني فيوقظ الدموع من منفاها الطويل
الردّات كانت تُهمس اللطم يُؤدى بلا صوت
والعيون تقول ما لا تجرؤ الأفواه على قوله وكانت هناك وجوه لا تنسى رجالٌ وقفوا كالسدود أمام سيل الخوف حملوا الراية من دون قطعة قماش
وأنشدوا العزاء من غير مكبّر صوت وكانوا يحمون المجالس بعيونهم ويخرجون من البيت بظهرهم إلى الباب كي لا يكتشف أحد مكان العزاء
النساء كنّ درعًا خفيًا للمجالس
كانت الأم تدرّب طفلها على الحذر قبل الحزن
وتُلقّنه كيف يبكي بلا صوت وكيف يردّد (أنا حسين) داخليًا دون أن تنبس شفتاه بكلمة
كل بيتٍ كان مأتماً مؤقتًا وكل قلبٍ كان حسينيةً صغيرة تُشعل الحنين في عتمة الخوف
وحين كان الليل يطول كانوا يُشعلون الشموع في السرداب ويجلسون كما يجلس الزائر عند قبرٍ غالٍ
يرتلون (يا حسين) كأنها آخر كلمات الأرض
مرت تلك السنوات كثقل على الروح
لكنها نسجت من الخوف ولاءً لا يموت
جعلت من كل عاشوراء تخرج من تحت التراب
ومن كل سرداب تذكارًا مقدسًا لا يُهدم
اليوم حين يُقام مجلسٌ فوق الأرض
وتُقرع الطبول وتُرفع الرايات يتذكّر أهل النجف تلك الأيام ويُقيمون مجالس في السراديب
ليس خوفًا بل وفاءً لذاك الزمن
الذي جعل من الحسين سرًّا في القلب لا يُفرَّط به
وجعل من ذكره عهدًا لا تناله أيدي الطغاة.
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


مها البهادلي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/07/16


  أحدث مشاركات الكاتب :



كتابة تعليق لموضوع : السراديب التي أنقذت عاشوراء
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net