من تأميم النفط الى تأميم المنبر
حيدر جواد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
حيدر جواد

كيف أحكمت السياسة الحديثة قبضتها على الانسان … ولم يبق الا الدين
في الأزمنة القديمة، كانت علاقة الناس بالسلطة محدودة وموسمية .. لم تكن الدولة، أو السلطة المركزية، موجودة في تفاصيل الحياة اليومية .. كان الانسان يعيش ضمن دوائر محلية: العائلة، القبيلة، القرية، المسجد أو الكنيسة، ويتعلّم من محيطه، ويتزوج باختياره، ويزرع أرضه دون ترخيص، لم تكن السلطة تعرف أسماء الناس ولا ما يقرأونه أو يعتقدونه، وكانت تطلب الطاعة عند الحاجة، في الحرب والخراج .. لكن منذ القرن العشرين تغيّر كل شيء .. وُلدت (الدولة الحديثة) بعد الثورة الفرنسية، ومعها نشأ جهاز بيروقراطي ضخم، وشرطة، وسجلات، ومدارس رسمية، وجيش وطني، ونظام هوية .. لم تعد السلطة تكتفي (بالطاعة)، بل صارت تصنع المواطن من البداية إلى النهاية: تعلّمه، تُشكّل وعيه، تُحدّد تاريخه وعدوّه، وتضبط سلوكه ومعتقداته ..
التحول لم يكن سياسياً فقط، بل تقنياً أيضاً .. فقد وفرت الثورة الصناعية – ثم ثورة المعلومات – أدوات هائلة للسيطرة: من الصحافة والراديو، الى الانترنت والكاميرات والذكاء الاصطناعي .. صارت السياسة تراقب، وتستبق، وتُعيد تشكيل الرأي قبل أن يتكوّن .. لم تعد السلطة تنتظر المخالف لتعاقبه، بل بدأت تُنتج انساناً لا يفكّر الا بما يناسبها .. ثم جاءت الأيديولوجيات الشاملة (الشيوعية، القومية، الليبرالية...) فأحكمت السلطة قبضتها أكثر، ومدّت سطوتها الى أعماق الوعي والسلوك، حتى لم يبق شيء بمنأى عن نفوذها .. ((لم تعد السياسة فن ادارة الدولة))، بل تحولت إلى دين جديد يُفسّر العالم، ويضبط العلاقة بين الفرد والجماعة، ويمنحك الهوية والعدو والحلم والموت.
لقد سيطرت السياسة على كل شيء. لم تعد موجودة فقط في البرلمان أو وزارة الداخلية، بل امتدّت إلى المدرسة، واهتمّت الدولة بالتعليم مبكراً، لأنه الأداة الأشدّ فاعلية في نحت الانسان كما تشاء، فحوّلت المدرسة الى معمل لصياغة الوعي، وأمّمت الطفل من عائلته، ولم تترك للعائلة أو الدين أو القرية فرصة حقيقية لترك بصمتهم عليه .. وامتدت الى الإعلام، فأصبح التلفاز والجريدة ووسائل التواصل أدوات لاعادة انتاج الرواية الرسمية وتوجيه الذوق العام .. حتى الدين لم يسلم، فتمت (فلترته) وتقديمه بنسخة مقبولة سياسياً .. (دين صالح للاستهلاك العام) .. أما العائلة، فتُراقب وتُوجّه، وتُفرض عليها قيم ومعايير جديدة باسم الحداثة أو التنمية أو حقوق الإنسان .. حتى الزراعة لم تفلت من قبضة السياسة: ما يُزرع، وكيف، ولمن، وفي أي موسم، كلها قرارات محكومة بسياسات اقتصادية كبرى، ومصالح شركات وسوق عالمي.
واحدٌ من أهم أساليب السلطة في إقصاء الشراكة عن ميادين تغذية الإنسان فكرياً وعلمياً وعقائديً، كان رفع شعار السيادة. فلم تُطرح السيادة (دعائياً) كحماية للإنسان من التغوّل الخارجي فقط ، بل استُخدمت كغطاء لاقصاء كل سلطة معرفية أو دينية أو اجتماعية لا تخضع للسلطة السياسية .. باسم السيادة تم استبعاد الدين كمصدر للتوجيه، والتقاليد كمرجعية، والعلم كمجال حرّ، والعائلة كمنظومة مستقلة .. كل شيء بات يجب أن يمر عبر (مركز القرار السياسي)، وأن يخضع لمنطقه ومصالحه وخرائطه. وحين ارتفعت شعارات (التحرر الوطني)، لم تكن تلك الثورات – في كثير من الحالات – لتحرير الإنسان من السلطة، بل كانت خطوات لتوسيع صلاحيات الدولة على حساب حريات المجتمع .. بدأ الأمر بتأميم الثروات، مثل النفط، وهو ما بدا إنجازاً سيادياً، لكنه أعقبه تأميم الفكر، وتأميم الخطاب، وتأميم الحلم، وتأميم الفرد نفسه .. صار كل شيء يُدار من مركز واحد، وكل اختلاف يُتهم بالخيانة أو الرجعية أو التغريب.
ورغم أن الدولة الحديثة استطاعت – خلال قرن كامل – أن تنتصر على كل المنظومات التقليدية والبديلة، وأن تفرض سلطانها على الزراعة والصناعة، على الفكر والمدرسة، على العائلة والتاريخ وحتى على الحقيقة نفسها، إلا أنها لم تستطع أن تفرض سيطرتها الكاملة على الدين.
فالدين – بخلاف كل تلك المجالات – يملك مرجعية نصية وتشريعية خارج سيادة الدولة.. ليس كتاباً مدرسياً تكتبه السلطة، ولا خطاباً اعلامياً تصوغه الأجهزة، بل نصٌ أعلى من الدولة، يراقبها، ويحاكمها، ويُذكّر الناس بحدودها .. ولهذا، لا تزال الدولة الحديثة – في عمقها الفكري – تخوض حرباً هوجاء ضد الدين، ليس لأنه ينافسها على الحكم بالمعنى المباشر، بل لأنه يعيد تشكيل الانسان من خارج قنواتها، ويمنحه مناعة معرفية وأخلاقية تهدد امتثاله الكامل ..
ولذلك، سعت الدولة إلى تدجين الدين، لا مواجهته فقط: صنعت نسخاً مخفّفة منه، وعلماء معتمدين، ومفاهيم دينية تتناسب مع منطق السلطة لا مع منطق الوحي .. لكنها – رغم كل ذلك – لم تنجح في تأميمه بالكامل، لأن فيه ما لا يُصاغ، ولا يُختزل، ولا يُؤمّم ..
مع ذلك هنالك مفارقات تستحق التأمل، أن عدداً كبيراً من الناس – في كل عصر – يحبون من انتصر عليهم، بل قد يعشقون أدوات إخضاعهم .. ولهذا، صار كثير من الناس، صغاراً وكباراً، مولعين بالسياسة، بوصفها الساحة العليا التي لا قيمة لما دونها. صارت السياسة هي الأصل، وما سواها مجرّد توابع .. ومن هؤلاء شريحة من الشباب المؤمنين، خصوصاً في الوسط الشيعي، الذين ولدوا في زمن أصبحت فيه السياسة حاضرة في كل شيء .. ولهذا، لا يستطيع كثير منهم أن يتخيّل مجالاً مستقلاً عن السياسة، لأن الدولة الحديثة ربّتهم على ذلك.
ولهذا عندما ارتفعت – من بعض القلائل الملتفتين لخطورة تسلط السياسة على كل شيء – أصوات تطالب بابعاد السياسة عن الدين، وتنقية المنبر الحسيني من التوظيف السياسي، ثار كثيرون في وجوههم .. كيف يُقال ان المنبر يجب أن يكون بعيداً عن السياسة؟ بل قال أحدهم: الدين هو السياسة، والسياسة هي الدين .. حتى بلغ الأمر ببعضهم إلى التهوين من الحديث عن مظالم أهل البيت ومصيبة كربلاء، وكأنها مسائل ثانوية لا تليق بمنبر اليوم، ما دامت لا تتناول ملفات النفوذ والتحالفات والتحليل السياسي .. بل وصل الحد بأحد المعممين أن يحرّض الناس علناً على أن يمسكوا بلحية الخطيب الذي لا يتحدث بالسياسة على منبر الحسين عليه السلام، ويكتفي بذكر مظلومية أهل البيت، داعياً الى اذلاله، وانزاله عن المنبر، وطرده من الحسينية.
ومن خلف هذه الشعارات، تبتسم السياسة ... فهي تدرك أن تأميم المنبر هو آخر ما تبقّى لها من مشروع السيطرة، وأن ما استعصى بالأمس يمكن أن يُخضع اليوم، اذا ما تعوّدت العقول على النظر الى الدين من داخل خريطة السلطة .. صار الحديث عن الظلم والمظلوم، عن حاجات الناس وقيم الحياء والصدق والوفاء، بلا قيمة ما لم يُربط بسياسة، أو يمرّ عبر مشروع أو تمويل أو تيار. وهذه، في جوهرها، هي الخسارة العظمى التي ألحقتها الدولة الحديثة بوعي الإنسان المعاصر.
المنبر ليس منصة للسياسة، بل هو منصة للحسين عليه السلام، فلا تُلحقوا به غيره، ولا تخلطوا صوته المعصوم بأصوات أناس، وان علا شأنهم الديني أو السياسي، ففي كل عصر، حاول بعضهم أن يُلصق بالحسين (عليه السلام) قضايا اعتبروها استثنائية في تاريخهم، وزعموا أنها امتداد لثورته أو تجلّ لمعناه .. وهكذا، صار لكل جماعة ((حُسينها)) الخاص، تراه في زعيم، أو فصيل، أو مشروع سياسي ..
فليبق المنبر منبر الحسين عليه السلام، لا منبر أحد سواه.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat