دلالات العنوان في كتاب "بالون/منطاد": الخيال العلمي والفنتازيا وتحف سينمائية
مصطفى القرنه
مصطفى القرنه
تعد السينما من أكثر الوسائل التي قدّم الإنسان من خلالها رؤيته للعالم، لآماله ومخاوفه، ولأسئلته الوجودية، خاصة حين يتداخل فيها الخيال العلمي والفنتازيا. في كتابه "بالون/منطاد: الخيال العلمي والفنتازيا وتحف سينمائية"، يقدم المهندس مهند النابلسي قراءة تحليلية مميزة لأكثر من سبعين فيلمًا، من أهم ما قدمته السينما العالمية في العقدين الأخيرين. هذا الكتاب لا يعد مجرد تقييم للأفلام، بل هو أيضًا محاولة لفهم الإنسان في سياق تطوراته الفكرية والتكنولوجية، وهو كذلك تأمل في الحلم والطموح، في الإنسان وآلياته، وفي الصراع بين الممكن والمستحيل.
العنوان نفسه، "بالون/منطاد"، يحمل طيفًا من الدلالات الرمزية العميقة. فالبالون والمنطاد، في نظر النابلسي، ليسا مجرد وسائل للنقل عبر الأجواء، بل هما رمزان لمدى تطورنا الفكري، لتطلعنا نحو ما هو أبعد من محدودياتنا الأرضية، ولتجسيد مغامرة الإنسان في التطلع إلى المجهول. "بالون" قد يعني انفجارًا مفاجئًا في السعي نحو العظمة أو التسلق نحو الأفق، بينما "المنطاد" يمثل الاستقرار، والرحلة المتأنية نحو المكان الذي يحوي الإجابات. هذا التنقل بين الطموح والتأني يشكل الصورة الدقيقة لمفهوم الخيال العلمي، حيث لا ينفصل الخيال عن الواقع بل ينسجم معه، يتفاعل ويُشكل معالمه.
الخيال العلمي والتكنولوجيا: استكشاف الهوية الإنسانية
من الأفلام التي تناولها النابلسي في كتابه، فيلم "ماد ماكس: طريق الغضب" (2015) لجورج ميللر، الذي يمثل تصويرًا قاسيًا لعالم ما بعد الكارثة، ويبحث في فكرة البقاء في عالم محطم، يعج بالعنف، وحيث يقاتل الأفراد من أجل استعادة إنسانيتهم. يظهر هذا الفيلم الصورة المثالية للبحث عن الحرية في وسط النظام الاجتماعي المتفكك، والصراع المستمر بين الأمل واليأس، بين الحرية والقمع، مما يضع المشاهد في مواجهة مع أسئلة عن ماهية الإنسانية في عوالم شبه خالية من المعنى.
أما "ميتروبوليس" (1927) للمخرج الألماني فريز لانغ، فيُعد من أروع أعمال الخيال العلمي الكلاسيكية، فهو يطرح علاقة الإنسان بالآلة، ويعرض صورة مستقبيلة قاتمة لمجتمع تتحكم فيه الآلات بشكل كامل، مع إبراز التوتر بين الطبقات الاجتماعية، ونشوء صراع بين العقل الآلي والعاطفة البشرية. من خلال هذا الفيلم، يظهر الفارق بين التقدم التكنولوجي والانفصال عن القيم الإنسانية الأساسية. قد يكون هذا الفيلم، الذي يعد أحد أول الأعمال السينمائية التي تتعامل مع الخيال العلمي بشكل جاد، رسالة تحذيرية عن خطورة الفصل بين التقدم التكنولوجي والحفاظ على القيم الإنسانية.
الفضاء والعوالم الموازية: تداخل الخيال مع الواقع
أيضًا، يدرس النابلسي في كتابه فيلم "ريدي بلاي وان" (2012) من إخراج ستيفن سبيلبرغ، الذي يقدم عالمًا افتراضيًا يمكّن البشر من الهروب من الواقع القاسي والعيش في عوالم موازية. ولكن، هذا الهروب لا يخلو من التساؤلات حول مصير الإنسانية عندما يصبح الواقع الافتراضي هو ملاذ البشر الوحيد. الفيلم يتساءل عن علاقة البشر بالواقع، وعن مدى استعدادهم للعيش في عالم يبدو في ظاهره مثاليًا، ولكن في جوهره يعكس انعدام المعنى الحقيقي. يطرح هذا العمل أسئلة فلسفية عن حدود الواقع، وتعلق البشر بالتكنولوجيا على حساب حياتهم الحقيقية.
وفي فيلم "بليد رانر" (1982)، يقدم المخرج ريدلي سكوت استكشافًا عميقًا لهوية الإنسان والآلات، في عالم مستقبلي يتم فيه خلق البشر الآليين (الريبوتات) ليؤدوا الأعمال القذرة. هذا الفيلم، الذي بني على رواية فيليب ك. ديك، يطرح فكرة الهويات المشوهة والتساؤل عن ماهية الحياة، وهل يمكن للآلات أن تمتلك مشاعر أو هوية مثل البشر. إن محورية هذا السؤال يجعلنا نعيد التفكير في مكانة الإنسان في عالم تتزايد فيه الاعتماد على التكنولوجيا.
الأبطال الخارقون والواقع المتشابك
في تحليله لفيلم "أفنجرز: نهاية اللعبة" (2019)، يربط النابلسي بين المفاهيم الفلسفية والسينمائية في تقديم صورة شاملة للصراع بين الخير والشر، والعلاقة بين القوة والضعف في إطار تكنولوجي وخيالي. في هذا الفيلم، تتواجه قوى خارقة في معركة لا تقتصر فقط على إنقاذ العالم، بل على تساؤلات وجودية عن الأمل واليأس، والتضحية والفداء. هذا الفيلم يقدم رؤية معقدة عن أبطال يتمتعون بقوى خارقة، ولكنهم في النهاية بشر، يعانون من ضعفهم وأخطائهم.
أيضًا، يتناول فيلم "الرجال في الأسود" (1997) في سياق فلسفي استكشافي، يطرح أسئلة عن الهوية الإنسانية والتفاعلات بين الكائنات الفضائية والبشر. يتسائل الفيلم عن طبيعة الإنسان وما هي الحدود التي يمكن أن تقبلها الإنسانية في تفاعلها مع الآخر غير البشري، في عالم يزداد تداخلًا بين الكائنات والنوايا.
الإنسان والمستقبل: المعضلات الوجودية
أفلام أخرى تناولها الكتاب، مثل "المسلخ رقم 5" (1972)، التي تعتمد على رواية كورت فونيجوت، تطرح تساؤلات عن الزمان والمكان، وكيف يمكن للإنسان أن يتعامل مع الظروف الحتمية للحرب والموت. وفي "الفردوس" (2013)، يُستكشف مفهوم الجنة والجحيم في سياق معاصر يعيد التفكير في المفاهيم الروحية في عالم مليء بالانقسامات الاجتماعية والتكنولوجية.
في فيلم "لوسي" (2014)، تأخذ السينما رحلة استكشاف للقدرات العقلية غير المحدودة التي قد يمتلكها الإنسان إذا استطاع استغلال كل إمكانياته الدماغية. الفيلم يحمل رسالة فلسفية حول قدرات العقل البشري في مواجهة حدود الجسم، وكيف يمكن للبشرية أن تتعامل مع هذه الإمكانيات غير المتناهية.
الخيال العلمي كمرآة للتفكير
إن "بالون/منطاد" هو أكثر من مجرد دراسة سينمائية، بل هو تأمل فلسفي في العلاقات الإنسانية مع التكنولوجيا والخيال. ومن خلال النظر في هذه الأفلام المتنوعة، يرى النابلسي أن السينما هي مرآة للفكر البشري في رحلة لا تنتهي من البحث عن المعنى. كل فيلم من هذه الأفلام يفتح أفقًا جديدًا لفهم الإنسان في سياقات مختلفة، من الصراع مع ذاته إلى مواجهاته مع ما هو خارج عن إرادته.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat