الهوية في النهضة الحسينية
خيري القروي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
خيري القروي

كيف نال مقتل الحسين عليه السلام كل تلك الآثار الإنسانية العظيمة؟
سؤال مهم لا يفوت أهل الحكمة واليقظة، جاء في زيارة الحسين للإمام المعصوم (أشهد أنك يا مولاي أقمت الصلاة وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وتلوت الكتاب حق تلاوته، وجاهدت في الله حق جهاده، وصبرت على الأذى في جنبه، وعبدت الله مخلصا، حتى أتاك اليقين)
يكبر السؤال ويتحول من مجرد مشاعر وأحاسيس إلى قضية فكر ويقظة ضمير،
ما نوع العلاقة الموجودة بين شهادة الحسين بن علي عليهما السلام وبين استنهاض قوى الإسلام وإحياء أصول الدين وفروعه؟
لنبحث في عوالم السؤال بشكل أدق، وصولا إلى الفكرة، هل مشاهد الذبح، والقتل، وحرق الخيام، وسوق النساء والأطفال أسارى إلى الكوفة ثم إلى الشام، هي التي خلدت هذه النهضة العملاقة؟
وهي ليست الواقعة الوحيدة التي حدثت فيها تلك الجرائم البشعة، والتاريخ يسردها ويمضي، قلما يقف التاريخ عند مشاهد الحروب، كونه اعتاد عليها، فلا يوجد في التاريخ واقعة أذهلت الأفكار والعقول وتخلدت عبر القرون إذا لم تكن تمتلك الروح، بل ذهب تأثيرها إلى مديات أبعد لتبعث في الإسلام روحا جديدة، جميع من كتبوا عن الواقعة هم يسعون إلى قضية مهمة، فالفيلسوف مطهري يرى أن النهضة بعثت الحمية، والغيرة، والشجاعة، والصلابة، عملية الاستشهاد تولد رونقا من الصفاء والطمأنينة للمجتمع، تضيء الأرواح وتصقلها، لتبرز في المجتمع حركة المقاومة، والصمود.
ويرى السيد هبة الله الشهرستاني أن الحسين "عليه السلام" ترك لنا ركيزة مهمة في تحرير المجتمع (كونوا أحرارا في دنياكم)، منطلقا أساسيا لتحرير الفكر الإنساني وإعادة صياغة الشخصية للمجتمع الإسلامي.
السعي الأموي كان يعمل على نسخ شخصية المجتمع، بأن يدمر الإحساس بالعزة والكرامة، وألا يمتلك المجتمع الهوية الخاصة به، كمجتمع إسلامي، فجاءت رسالة الحسين "عليه السلام، في بعث هوية المجتمع، إحياء الهوية الثقافية للامة، بعد ما تعرضت إلى انتهاك صريح وإماتة السنة، وإعادة أهواء الجاهلية، فاستطاعت النهضة الحسينية من صناعة هوية إسلامية ترتقي بالمجتمع إلى أفضل الحالات.
الهوية عبارة عن عقائد رؤى، أفكار وبنى، تعد كمشروع تنموي، تأثير النهضة الحسينية على هذه الهوية في بناء فلسفة مستقلة في الحياة، المجتمع الذي يفقد هويته يضيع ويصبح مجتمعا مريضا، وهنا يعلو صوت مشاعر النهضة، (هيهات منا الذلة) فلا بد من امتلاك عقيدة وجعل المجتمعات قادرة على أن تحافظ على هويتها، حتى لو سلبوا منها كل شيء، تستطيع أن تصمد، وتقف، وتمنع ذوبان هذه الأمة في أمة أخرى.
رسالة الحسين "عليه السلام" لنهضة الأمة عليها أن تحافظ على هويتها، ألا تخسر شخصيتها،
حيث سعت الهوي الأموية لامتلاك القوة، ومن هذه القوة يمكن حسب مفهومهم صناعة مجتمع قوي، والحسين "عليه السلام" ثار من أجل أن يكون المجتمع قويا، وليست السلطة.
الأمة التي تفقد إيمانها بمستقبلها تموت، تصبح تابعة، تترك من يفكر بدلا عنها، النهضة الحسينية كانت من أجل ألا تنحمل نحن شعارات أمة أخرى.
سؤال طرحه فلاسفة كثيرون، كيف استطاع رجل فقير ويتيم أن ينقل أمة من عالم البؤس والاقتتال، إلى قمة العز والكرامة الإنسانية؟
والجواب: إن هذا الرجل العظيم، استطاع أن يمنحهم الإيمان بأنفسهم، وهذا الإيمان صنع في دواخلهم الكيان والشخصية، بفضل هذا الإحساس تحول إلى صاحب فكر، وهوية، يعتز ويفتخر بها.
الأمويون كان همهم الأول والأخير الفتك بهذه الهوية، ماذا لو لم يذهب الحسين إلى الكوفة؟
لا أصبحت مركز الثقل الإسلامي، والثائرة التي خذلها الحسين "عليه السلام"، وحاشاه من الخذلان.
وتكتب الأقلام تلوم الحسين "عليه السلام" كيف تترك الكوفة، ولا تلبي دعوتها، وهي التي بايعتك؟
الكوفة عندها تجربة قاسية مع زياد بن أبيه، حكم الكوفة بالدم، وبقلع الأعين، وقطع الأيدي والأرجل، إلى بقر البطون، الى التعذيب، والقتل في السجون، حتى فقدت الكوفة شخصيتها،
الشيء الذي يحيرني أثناء قراءة التاريخ، لماذا يصر بعض المفكرين أن يكتبوا أن الحسين قتلته شيعته، وهم يعلمون أن الجيش عد إعدادا أمويا!
هل صار علي أن أفهم أولئك المفكرين أن ليس كل من قاتل تحت لواء علي بن أبي طالب "عليه السلام" هو من الشيعة، وإنما كانوا هم جيش الدولة، قاتلوا تحت عنوان الخلافة وليس الإمامة، هل يعتبر عمر بن سعد شيعيا؟ أم الشمر بن جوشن، أين فكر المفكر الذي يرى أن قتلة الحسين من الشيعة، وهم يقولون للحسين "عليه السلام" نقاتلك بغضا لأبيك
الكتابة للتوافق المذهبي، أو الديني، أو القبلي، أو السياسي، لا يكون على حساب الحقيقة وحتى جملة (قلوبهم معك وسوفهم عليك) يبدو أنها كتبت في تواريخ ما بعد الواقعة، وإلا لن يقولها الفرزدق ويمضي، تلك ليست من شيم الفرزدق، صاحب صولة الحق، صاحب ملحمة (هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم)، يترك الحسين ويمضي، حتى أن جيش التوابين ليسوا من قتلة الحسين "عليه السلام"، وإنما أغلب القادة كانوا السجناء، وأغلب الناس أبعدتهم المفارز التي نصبها ابن زياد، لماذا لا يعلن عن عدد من قاتل تلك المفارز؟
عدد من قاومها ومن استشهد على سطوتها؟
فالتقصير ربما ناتج الظرف القائم، علينا أن نقرأ هوية النهضة بالشكل الصحيح، الذي يشمل جميع جوانب نهضة الحسين عليه السلام، ثار من أجل هذه الهوية التي تمنح الأمة شخصيتها، وتمنحها المودة، والمحبة، والمثل الإنسانية العليا، وإزالة الغبار عن قيم الأمة التي سعى الأمويون لتغطيه تلك القيم، بغبار قبليتهم.
أول دروس الهوية هي النهضة، وعدم الخنوع، والاكتفاء، وعدم الحاجة إلى الغير، لذلك لم يضع الحسين عليه السلام أي شرط للنهوض، بل قال (من كان فينا باذلا مهجته موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا، إن شاء الله تعالى)، هو لا ينظر لاحد، الاكتفاء الذاتي عن الدنيا كلها، وحتى ليلة العاشر من محرم، وعند ذروة الأحداث، يختبر أصحابه ليرى رغبتهم في البقاء معه، لو طلب منهم المدد ولم يستجيبوا لابتلاهم الله بعذاب نار جهنم.
منجز الحسين "عليه السلام" في نهضته، إحياء الإسلام بدمه، هذه الجملة ليست مجرد شعار تعبيري، إنشائي، وإنما هي حقيقة، فقد نفخ الحسين "عليه السلام" روحا جديدة في المجتمع الإسلامي، أثار الغيرة، والقيم المثالية للناس، وعلمهم إقامة الصمود، واسقط عنهم حاجز الخوف، والرعب.
والغريب في الأمر أننا نجد أغلب الذين يعترضون على الشعائر، يستشهدون بمطهري على أساس أنه مفكر إنساني يطالب بتغيير الشعائر، وفي الحقيقة، الرجل يريد دراسة الملحمة الحسينية، وواقعة كربلاء، ونهضة عاشوراء، لتعزيز الهوية الثورية، فهو كما يقول أنا لست مخالفا للرثاء، وقراءة التعزية، لكنه يريد لهذه التعازي أن تعزز روح الحماس الحسيني في روح الأمة.
أن تحمل الحسين "عليه السلام" هوية، هو حمل الدين هوية، وحارب بها الظلم والجبروت
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat