محطات معرفية في حياة الفيلسوف الطباطبائي
د . تقى محمود السعدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . تقى محمود السعدي

نشرت مجلة استغراب الصادرة في المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية في العتبة العباسية المقدسة في عددها الثاني بحثاً بعنوان ( منازل الفلسفة الغربية في فكر الطباطبائي) للباحث مازن المطوري أستاذ في الحوزة العلمية النجف الاشرف . وجدت في هذا البحث سعة وعي في فهم الحرّاك المعرفي و قضية التقاء الفلسفتين الشرقية والغربية ، أكثر من مرتكز معلوماتي يتحرك عليه البحث مثلا أقرار معرفي بأن تأثير الغرب بثقافة وفكر المسلمين أسبق من تأثير الشرق بثقافة الغرب، وبحث في رؤية بطرس الجليل عام 1156م هو رئيس دير كلوني، تعرف على الإسلام واكتشف مناحي الخطورة فيه وعرف مقاومة الإسلام ليس في ساحات المعارف بل في الساحة الثقافية والفكرية ، هذا الرجل انتبه الى فاعلية الفكر القرآني ، صار يدرك إن الخلل في التفاوت الفكري هو عدم معرفتهم للإسلام معرفة حقيقية فشكل لجنة مهمتها ترجمة القرآن الكريم سعياً لإبطال الفعل التأثيري للإسلام ، وهذا لا يتم إلا بعد معرفة الإسلام ، وركز الباحث المطوري على مساعي الغرب لمعرفة أكبر فلاسفة الإسلام وأسسوا مراكز ترجمة ، عكست إعجاب الكثير من الاوربيين بالحضارة العربية الإسلامية ، أصدرت شركة بريل الهولندية عام 1938م دائرة المعارف الإسلامية التي تعتبر أهم موسوعة دونها الغربيون عن الشرق ،واهتمت بكل ما يتصل بالحضارة الإسلامية من دين وثقافة وعلم وسياسة ، عمل عليها اثنان وعشرون مستشرقاً من أكابر المستشرقين اصدرت هذه اللجنة كتباً باللغات الفرنسية / الألمانية / الإنجليزية ، نجد أن المفكرين المسلمين لم يحاولوا التواصل مع الفلسفة والفكر مع الغرب والفكر الغربي المعاصر الا من محاولات خجولة ، ومحدودة ولم يلتقِ الفكر الإسلامي مع الفكر الغربي على بساط الحوار والنقد والتفاعل تأثراً وتأثيراً ، و إنما اكتفت حكمة المسلمين بإنجازات الفيلسوف صدر الدين الشيرازي ، وذكر الباحث مازن المطوري إن الجامعات الرسمية لحفظ العلوم وتعليم الأجيال قبل أن تنتشر جامعات التعليم الحديث في البلدان الإسلامية ، في الشرق العربي اعتبرت الفلسفة عدوا للدين ، وحرموا دراستها في المعاهد الدينية ومراكز الثقافة إلا في طهران ــ ومعاهد النجف الأشرف ،
برز تواصل هذا الفيلسوف مع الغرب ،و لم يقتصر على فلسفته في مقالات كتاب أصول الفلسفة، و إنما سبقته و رافقته حلقات و محطّات التقى فيها الطباطبائي مع الفكر الغربي ورجاله وسلوكه و أنظمه حضارته محاوراً و ناقداً، يمكننا الإشارة إليها إيجازاً في عدة نقاط:
اولا ـ في ستينيّات القرن الماضي تبنّى مشروع تقديم الفكر الشيعي في مختلف أبعاده ميسراً باللغات الأوربية، حتى يكون بمقدور الباحثين والشباب الغربي التوفر على اطلالة سهلة وأمينة لهذا الفكر. كان منطلق الطباطبائي في هذا المشروع يتمثّل في أن جلّ الدارسين الغربيين لم ينفتحوا على دين الإسلام إلا بواسطة مصادر أهل السنة، بقي الوجه الآخر الشيعي محجوباً مع ما ينطوي عليه من فكر ومعارف.
حدث بعد ذلك وتحديداً في العام (1964م) تكفل تلميذه الدكتور حسين ترجمة ما يكتبه إلى الإنجليزية،. وفي غضون ثلاث سنوات انشغل بإعداد حلقات هذا المشروع، (الشيعة في الإسلام) ثم نقله الدكتور جعفر دلشاد إلى العربية بعد ذلك أعقبه (القرآن في الإسلام)
ثانيا ـ تواصل الطباطبائي في سلسلة حوارات ولقاءات مع المستشرق الفرنسي هنري كوربان (1903 ـ 1978م)، والتي أثمرت كتاباً بعنوان (الشيعة، نصّ الحوار مع المستشرق كوربان). أشار الطباطبائي للعوامل والدوافع المتحكمة في بنية الاستشراق كالسّلطة والتفوق والنزوع إلى الغاء العوالم والثقافات الأخرى تحت ذريعة العالمية، والطباطبائي في هذا التحليل سبق الباحثين المعاصرين كإدوارد سعيد (1935ـ 2003م) وغيره، الذين توفروا على تحليل بنية الاستشراق وتجلية دوافعه التي يغطّيها بستار البحث المعرفي،
استطاع الطباطبائي في هذا الحوار أن يفرض حضوره الفكري والمعرفي المستقل، منطلقاً من هويته الفكرية الأصيلة. يقول الدكتور علي شريعتي «كانت تعقد في طهران جلسات أُسبوعية، وكان يحضرها البروفسور هنري كوربن أُستاذ السّوربون وعالم الإسلاميات المعروف والمتخصص الفريد في الثقافة الشيعية، وكان الطباطبائي وكأنه سقراط قد جلس وحوله تلاميذه، وكان كوربن العظيم حسن الأدب، يجاهد في اغتراف جرعات من هذا المحيط العظيم للأفكار والعواطف العميقة والمتنوعة التي كونتها الثقافة الإسلامية الشيعية.
ثالثا... ـ لقاء الطباطبائي مع المستشرق الأميركي كينيث مورغان الذي قضى شطراً من حياته في الشرق، وكانت له لقاءات وتواصل مع رجال الفكر وعلماء الدين في الأديان المختلفة.
زار مورغان إيران صيف (1964م) فاستقدمه الدكتور حسين نصر إلى العلامة الطباطبائي الذي كان يصطاف في قرية (دركه) شمال غربي طهران. وقد وصف الدكتور نصر صورة من ذلك اللقاء في مقدمة الطبعة الفارسية لكتاب (الشيعة في الإسلام)، بقوله: «منذ اللحظة الأولى هيمن العلامة الطباطبائي على البروفيسور موركان بحضوره المعنوي والروحي، فأحسّ الأستاذ الأميركي بالألفة والأُنس، وأدرك للفور أنه بمحضر إنسان تجاوز في العلم والحكمة مرحلة الفكر إلى العمل، وأنه قد تذوّق ما يقوله وطواه عملياً وسلوكياً»
رابعا.... ـ في كتاب(مقالات تأسيسيّة في الفكر الإسلامي)، تعرّض الطباطبائي ناقداً الكثير من مقولات وسلوكيات ومظاهر الفكر الغربي ومدنيته المعاصرة، كاشفاً عن هِناتها ومآلاها، وعن خطر التحديث على النمط الأوربي، مبيناً في ذات الوقت أصالة الفكر الإسلامي وفلسفته القويمة في معالجاته لمشاكل الإنسان في أبعاد وجوده المختلفة
خامسا...ـ لقد حفلت الأجزاء المختلفة من موسوعة الطباطبائي التفسيرية القيّمة (الميزان في تفسير القرآن)، بفصول توقف فيها الطباطبائي ناقداً للفكر الغربي وفلسفته ومدنيته ،تناول مواضيع من قبيل: الفساد الأخلاقي ورذائل المجتمع المتمدّن الحاضر، ونتيجة ظهور المدنية الغربية، وعلى أي شيء أقبل الناس بعد ظهور مدنيّة الغرب، وكتابات المستشرقين الغربيين حول مدنيّة الإسلام، وغيرها من المسائل والمواضيع والمقولات المبثوثة في الأجزاء المشار إليها، وكذا سائر أجزاء تفسير الميزان.
سادسا ... استقرَّ الطباطبائي في مدينة قم المقدّسة، وعمل على إحياء درس المعقول فيها إلى جانب الأبحاث التفسيرية و القرآنية، و بادر إلى تأسيس جمعيّة فلسفيّة، ضمّت في عضويتها كفاءات فلسفية، اهتمّت بإثارة البحث والنقد في قضايا الفلسفة، حتّى أضحى العلامة المدرس الوِتر لهذه العلوم في حوزة قم العلميّة.
عزم على القيام بالبحث المقارن بين الفلسفتين الشرقيّة والغربيّة وبحسب شهادة تلميذه المطهري (1919 ـ 1979م) فإن الطباطبائي كان من سنوات يهمّ على تأليف دورة فلسفية تتشابك فيها معطيات الفلسفة الإسلامية مع نظريات فلاسفة أوربا المحدثين، وتهدف إلى ردم الهوّة بين هذين اللونين من التفكير حتى تكون منسجمة مع مزاج العصر، وتظلّ في الوقت ذاته محافظة على قيمة الفلسفة الإلهية وتتصدّى لفكرة انتهاء عصر الإلهيات.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat