الإمام عليّ وصراع الوعي في ضمير العراقيين
رياض سعد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رياض سعد

في فضاءٍ يتهادى بين ضفاف الزمن المُعَتَّقِ وغيومِ التاريخ الكثيفة، يَبرُزُ الإمامُ عليٌّ كشمسٍ تثقبُ ظلماتِ الجهلِ بأسْرَارِها، مُحَوِّلًا أسلافَ العراقيّينَ من كِيانٍ مُمَزَّقٍ بين قبائلَ وأحقادٍ إلى كِيانٍ يَرفُلُ في حُلَلِ الفصاحةِ والبلاغةِ... ؛ وترفل راياتهم بالعز والنصر المؤزر ... ؛ لَمْ يَكُنْ عَطَاؤُهُ مجردَ كلماتٍ تُلقَى على مسامعِهم، بل كانَ سِحْرًا يَنْسَابُ إلى أعماقِ الأرواحِ، يُرْفَعُهُم إلى مَراتِبِ اليقينِ حيثُ تَذُوبُ الشكوكُ كَذَوبِ الثلجِ تحتَ لهيبِ الحقيقةِ... ؛ و لَطَالَما تَجَلَّدَ أمامَ اعتراضاتِهم المُتكررةِ، مُحَوِّلًا إيَّاها إلى دِرُوسٍ في الحوارِ، كأنَّهُ يُلاعِبُ أمواجَ البحرِ الهائجةَ بقلبِ راعٍ حكيمٍ.
أمَّا بنو أميةَ، فَظَلُّوا ينسجونَ خيوطَ فتنَتِهم في ظِلِّ الليلِ البهيم ، يُشْعِلونَ نيرانَ القلاقلِ كَصَبيانٍ يَلْهَونَ بِشرَرِ الْكُهُوفِ... ؛ و لكنَّ الإمامَ، كَطائرِ العنقاءِ، رَفَضَ النزولَ إلى وَحْلِ صِراعاتِهم المادية ومؤامرتهم الشيطانية ، مُؤْثِرًا أنْ يَبقى في عُلُوِّهِ السَّامقِ ... ؛ حتَّى حينَ ألحَّ أتباعُهُ عليه بِاستخدامِ السَّيفِ لِقَمعِ العُصاةِ، ردَّ بصوتٍ يَهْزُّ الجبالَ: "مَنْ ضَرَبَ رَجُلًا سَوْطًا ظُلْمًا، ضَرَبَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِسَوْطٍ مِنْ نَارٍ"... ؛ كلماتُهُ لَمْ تَكُنْ تَحذيرًا فحسب، بل بَصِيرَةً تَنْفُذُ إلى عَالَمٍ غَيبِيٍّ تُسَجَّلُ فيهِ كلُّ ضربةِ سوطٍ بَحبرٍ مِنْ لهيبٍ.
ولَمَّا اسْتَفَزَّهُ السُّفهاءُ وعملاء بني امية بِسَخَافَةِ اعتراضاتِهم وترهاتهم ، بَادَرَهُمْ بِكَلِمَةٍ تَجلَّتْ كَنَبوءةٍ مُرَوِّعَةٍ: "سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلَاةٌ لَا يَرْضَوْنَ مِنْكُمْ بِهَذَا حَتَّى يُعَذِّبُوكُمْ بِالسِّيَاطِ وَالْحَدِيدِ". لَقدْ رَسَمَ بِكَلمَاتِهِ مَسْرَحًا مُظْلِمًا لِمُستقبلٍ قَاسٍ، حَيْثُ تَتَحَوَّلُ الحُرُوبُ إلى مَذَابحَ، والدِّمَارُ إلى لُغَةٍ وَحيدَةٍ... ؛ و لكنَّهُ، كأبٍ حَنُونٍ، لَمْ يَستطعْ إلا أنْ يُنْذِرَ: فَالعاصِفَةُ قادِمَةٌ، والرؤوسُ سَتَتَناثَرُ كَثِمَارٍ يَانِعَةٍ تَحْتَ رِجْلَيْ غَاصِبٍ، والدُّمُوعُ سَتَجْرِي كَوَبَرٍ مِنْ سَمَاءٍ لَا تَرْحَمُ.
وَهكذا صَدَقَ الحَكيمُ: فمنذُ رَحيلِهِ، انْكَسَرَ العراقُ على صَخْرَةِ الظلمِ الأمويِّ... ؛ و كُلُّ سَيفٍ مُلطَّخٍ بِالدِّمَاءِ، وكُلُّ سَوطٍ مُشْتَعِلٍ، كَانَ صَدًى لِكَلِمَاتِهِ التي لَمْ تَكُ تُحَذِّرُهُمْ فحسب، بل تَكْشِفُ قُدْرَتَهُ على رُؤيةِ المَصِيرِ كَنَصٍّ مَكْتُوبٍ بِالْجَمْرِ... ؛ واليومَ، كُلُّ ثَوْرَةٍ تَهُزُّ أرْضَ الرافِدَيْنِ، هِيَ صَرْخَةٌ تَطْلُبُ عَدَالَةَ عَلِيٍّ، وتَذْكُرُ أنَّ الحَقَّ لَمْ يَزَلْ يَلْهَثُ خَلْفَ بَاطِلٍ يَتَشَكَّلُ بِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، لكنَّ جَذْوَرَهُ تَظَلُّ وَاحِدَةً: بَنُو أُمَيَّةَ ومرتزقتهم ؛ الا انهم قد يتشكلون في ثِيَابِ الجَلاَّدِينَ الجُدُدِ.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat