هل يمكن للقوى الكبرى إتقان فن البقاء؟
محمد العربي - رئيس تحرير دورية اتجاهات الأحداث

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

كان جون غلوب باشا ضابطاً بريطانياً من طراز رفيع. شارك في حروب الإمبراطورية البريطانية في نصف قرنها الأخير في أوروبا والشرق الأوسط، قبل أن توكل إليه مهمة قيادة وتأسيس الفيلق العربي في إمارة شرق الأردن، "المملكة الأردنية الهاشمية" لاحقاً. كان غلوب باشا الذي عرفه الشعب الأردني، بأبي حنيك، بسبب إصابة لحقت بفكه في الحرب العالمية الأولى، حريصاً كل الحرص على أن يبدو بصفة الجندي المحترف غير المعني بسياسة الإمبراطورية أو بالمنطقة، إلا أنه كان أكثر دهاءً مما يبدو، وشارك بحنكة في إعادة ترتيب المنطقة. كما أنه كان يعي تماماً، مثل غيره من جيل العسكريين البريطانيين، مثل جون (عبدلله) فيلبي وتوماس إدوارد لورانس (لورانس العرب)، أنه يعمل على الحافة بين حضارتين، العربية والأوروبية. وبعد أن أودت الصحوة القومية العربية بقيادته للجيش الأردني في 1956، أخذ في تأليف العديد من الكتب عن ذكرياته في المنطقة، وتاريخ الإسلام والإمبراطوريات الإسلامية الأولى، وعمله الأهم "مصير الإمبراطوريات والبحث عن البقاء".

لاحظ غلوب باشا أن كل الإمبراطوريات التي حكمت العالم منذ القدم خلال الثلاثة آلاف عام الماضية، تتشارك المصير نفسه، دائرة لا تتوقف من الصعود والهبوط. وحدد ستة مراحل من هذه الدائرة تبدأ بوجود الرواد المؤسسين، ثم عصر الغزوات الذي تليه سنوات من ازدهار التجارة، التي تأتي بالازدهار، ثم انتعاش الحياة الفكرية، وصولاً إلى الانحطاط. وبدراسة حسابية بسيطة توصل غلوب باشا إلى أن كل الإمبراطوريات تقضي في هذه الدائرة ما يقارب مئتين وخمسين عاماً، وقليلاً ما تتجاوزها. وعلى الرغم من الفرق الشاسع من حيث التقنية والقوة العسكرية والاقتصادية بين أول إمبراطورية عسكرية في التاريخ، وهي إمبراطورية الآشوريين في الشرق الأدنى، والإمبراطورية البريطانية التي امتدت من الهند إلى أمريكا الشمالية؛ فإن كليهما كان لهما نفس العمر تقريباً. إلا أن الآشوريين كانوا أكثر حظاً من الإنجليز بسبعة عشر عاماً. 

حدد غلوب باشا انهيار الإمبراطورية البريطانية ببداية العقد الثالث من القرن العشرين. لم يكن الانهيار ملحوظاً، بل كانت بريطانيا قد خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى، واستولت بعدها على المزيد من الأراضي في الشرق الأوسط وإفريقيا. إلا أن الانهيار كان حتمياً وسريعاً كما كان غلوب باشا شاهداً عليه مع استقلال الهند، وهزيمة بريطانيا في حرب السويس، المعروفة لدينا بالعدوان الثلاثي على مصر، وأخيراً في تبني الحكومة البريطانية لسياسة الانسحاب من شرق السويس. قد لا تحتاج الإمبراطوريات لإعلان وفاة رسمي أو غزو مدمر. وبهذا كان الإنجليز أسعد حظاً من الآشوريين الذي كان سقوطهم مدوياً ومريعاً مع دخول البابليين والميديين لعاصمتهم نينوى وتدميرها في 612 قبل الميلاد. أما لندن، فما زالت باقية. 

الحق أن غلوب باشا لم يكن رائداً في تحليله لدورات الصعود والهبوط. فقد سبقه كثيرون. لعل أقدمهم أفلاطون في تصويره لدورات الحكم، ولا يخفي إسهام ابن خلدون في تحليل دورات حكم السلالات. وعلى الأرجح أن كتاب "تاريخ تدهور وانحلال الإمبراطورية الرومانية" لإدوارد جيبون، والذي صدر على أجزاء بين عام 1776، سنة إعلان الاستقلال الأمريكي، و1789، عام الثورة الفرنسية، لم يكن سوى تنبؤ بمصير الإمبراطورية البريطانية أراد جيبون أن يغلفه في شكل بحث تاريخي مستفيض. والمثير للدهشة أن هذا القلق الكامن في الحضارة الغربية من التدهور والانحلال قد صاحب صعود القوى الغربية وسيطرتها على العالم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. على أن الفيلسوف والرياضي الألماني أوزفالد شبنغلر، في "انحطاط الغرب" الصادر بين عامي 1918 و1923 قد رأى صعود الإمبراطوريات ليس إلا مؤشراً على انهيار الحضارات التي رآها أقرب إلى الكيانات العضوية؛ حيث تحمل بذور مرضها في داخلها. 

من الملاحظ أن هؤلاء وغيرهم لم يعيروا انتباهاً لدرجة التقدم التقني أو الاقتصادي للإمبراطورية كمعيار للتفوق أو كعلاج للتدهور والانحلال؛ بل إنهم يرون مفارقة بين هذا التقدم وبداية منحنى الهبوط. الآن تبدو هذه الحكمة القديمة والمعهودة خبراً غير مريح لكهنة الذكاء الاصطناعي والمبشرين بالحلول التقنية، وقدرتها على علاج كل شيء وغزو الفضاء وبناء إمبراطوريات عبر النجوم. ربما كان هذا الهوس بالتقنية الذي نشهده حالياً وسط كل ما يمره به عالمنا من أزمات وصراعات ومؤشرات متضاربة على الصعود والهبوط عرضاً للمادية التي تصاب بها المجتمعات قبل أن تخوض رحلة الانحدار. 

إذن قد تكون الإجابة عن السؤال أعلاه واضحة، وهي أن البقاء مستحيل. إلا أنه فن يمكن إتقانه، الدليل على ذلك هو القوة الإمبراطورية الوحيدة التي تمكنت من البقاء أطول فترة ممكنة مقارنة بغيرها قبل العصر الحديث. وهي الإمبراطورية البيزنطية التي استمرت لألف عام منذ تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين في 285م. عندما تم هذا التقسيم، كان من المفترض أن تكون الإمبراطورية الرومانية الغربية أكثر حظاً بسبب وضعها الجيوسياسي المتمثل في أن حدودها الغربية هي المحيط الأطلسي، وعدم وجود أعداء في جنوبها. وكان الخطر الوحيد عليها هي القبائل الجرمانية في الشمال التي تمكنت بالفعل من اختراقها وتدميرها سريعاً وإعلان نهايتها في 467م. 

أما القسم الشرقي من الإمبراطورية فكان محاطاً بالمخاطر من كل جانب. فشرقاً كانت هناك الإمبراطورية الساسانية، العدو التقليدي للرومان، وشمالاً تعرضت الإمبراطورية لهجمات متتالية من شعوب السهوب القادمة من آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية.. ومع ذلك استمرت بيزنطة ككيان سياسي قوي، حتى بعد خسارتها للولايات الأغنى في جنوبها بفعل الفتوحات العربية وضغط الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة عليها.
 
كان للبيزنطيين قدرة استثنائية على التراجع ثم الصعود مرة أخرى والتمدد؛ ومن ثم أسست الإمبراطورية، على اختلاف السلالات التي حكمتها، لثقافة استراتيجية عميقة تألفت من مزيج من القوة العسكرية الضاربة والدبلوماسية والاستخبارات. وتمكن البيزنطيون من تطوير جهاز إداري وعسكري لديه القدرة على استيعاب نقاط القوة لدى خصومهم، وإدماجه في ثقافتهم العسكرية التي ورثوها عن الإمبراطورية الرومانية. فضلاً عن هذا، أتقن البيزنطيون بحكم موقعهم التجاري القدرة على تجاوز التعصب الديني وجعلوا القسطنطينية مدينة متعددة الثقافات والأديان. لم يكن للبيزنطيين قوة روما القادرة على إخضاع الشعوب، إلا أنهم أتقنوا استخدام أدوات القوة وأدركوا التوقيت الملائم لاستخدام كل منها على حدة أو مجتمعة.      

وربما كان هناك جدل حول نهاية بيزنطة، وما إذا كان فعلياً مع سقوط القسطنطينية لصالح الإفرنج والبنادقة في الحملة الصليبية الرابعة (1204) أم مع سقوطها النهائي على يد العثمانيين في (1453)، إلا أنها كانت الأطول عمراً في الحالتين، والأكثر إتقاناً لفن البقاء بالنظر إلى حجم المخاطر التي تعرضت لها. وبالطبع، تعرضت للسقوط كغيرها في النهاية بفعل مزيج من التراجع السكاني بفعل "الموت الأسود" في القرن الرابع عشر، والصراعات الداخلية على الحكم والنزاعات المذهبية والضعف الاقتصادي والعسكري، فضلاً عن الضغط المستمر للممالك التركية الإسلامية المجاورة لها التي أخذت في اقتطاع ممتلكاتها في الأناضول وبحر إيجة حتى لم يبق إلا القسطنطينية التي استحالت في النهاية إلى "مدينة دولة". ومع ذلك، لاقت جيوش محمد الفاتح عنتاً وصلابة شديدة في السيطرة عليها. كان الفاتح مدركاً للقوة الثقافية التي مثلتها هذه الإمبراطورية ذات الألف عام، ورأى نفسه وريثاً لها وأطلق على نفسه "قيصر الروم".
 
إذن، القدرة على التكيف مع التغيرات، هي أحد مفاتيح بقاء القوى الكبرى، أو أي كيان عضوي آخر، كما يخبرنا قانون التطور. إلا أن الأمر دائماً ما يحتاج إلى نخب واعية بحركة التاريخ وقادرة على تطوير هذا الوعي لأدوات سياسية واستراتيجية. وتبدو المفارقة أن هذا الوعي دائماً ما يتكون بعد فوات الأوان وبعد اختمار عوامل التحلل والضعف. ومع ذلك، فقوانين التاريخ ليست حديدية؛ بل تخبرنا أيضاً بقدرة البشر على التكيف والتعلم من الأخطاء، فضلاً عن تكرارها. ولأن التاريخ يسير في حركة دائرية؛ فهناك دائماً فرص للنهوض وإعادة البناء، وإعادة تأسيس عناصر القوة.  


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد العربي - رئيس تحرير دورية اتجاهات الأحداث

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/05/03



كتابة تعليق لموضوع : هل يمكن للقوى الكبرى إتقان فن البقاء؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net