في زقاقٍ قديمٍ من أزقة كربلاء ، حيث تتراكم الحكايات مثل ظلال المساء على جدران الطين العتيقة، كان الهواء مشبعًا برائحة الشاي المغلي على الفحم، تمتزج بها نفحات الهيل التي تنساب من الأكواب الصغيرة، وكأنها توقظ الذكريات النائمة في زوايا المقهى الشعبي. يتداخل عبق الخبز الساخن القادم من المخبز المجاور مع روائح البهارات المنبعثة من دكان العطار، حيث يختلط المسك والعنبر برائحة القهوة المحمصة.
في هذا المشهد الذي يعبق بالحنين، جلس الحاج علي الدرر في ركنه المعتاد، يحيط به جمعٌ من الشباب الذين ألفوا الاستماع إلى حكمته المنثورة بين طيات الحكايات. وضع استكانة الشاي أمامه، ثم أخرج من جيبه مفتاحًا قديماً، صدئًا بعض الشيء، ورفعه أمام الحاضرين قائلاً:
أتدرون ما هذا؟
إنه مفتاح بيت جدي مضى عليه أكثر من خمسين عامًا كان يفتح بابه كل صباح، لكنه اليوم لا يصلح لفتح أي باب، لأن الأبواب تغيّرت، والأقفال تطوّرت، ولم يعد لهذا المفتاح قيمة سوى الذكرى.
ساد الصمت، وأصغى الجميع بانتباه، فتابع علي الدر وهو يطرق بالمفتاح على الطاولة برفق، يتردد صوته وسط ضجيج المقهى وصوت الملاعق التي تحرك السكر في أكواب الشاي:
وهكذا هو حال التربية،كثيرٌ من الآباء والأمهات ما زالوا يتمسكون بمفاتيح الماضي، يحاولون بها فتح قلوب أبنائهم، غافلين عن أن الأبواب قد تغيرت، وأن لكل جيلٍ مفتاحه الخاص.
نظر حوله، وكأنه يبحث عن أثر كلماته في وجوههم، ثم تابع بنبرة تحمل مزيجًا من الأسى والحكمة:
ليس الأبناء نسخةً من آبائهم، هم وُلدوا في زمانكم، لكنهم سيكبرون في زمانهم، وزمانهم هذا يحتاج إلى فهمٍ مختلف، وإلى معاملةٍ تقوم على الاحتواء قبل اللوم، وعلى الإنصات قبل الأوامر، وإلا ستبقون تدقّون على أبوابٍ موصدة بمفاتيح صدئة.
ثم وضع المفتاح القديم على الطاولة، وأخرج من جيبه مفتاحًا حديثًا صغيرًا وبراقًا، فابتسم وهو يقلبه بين أصابعه قائلاً:
وهذا مفتاح اليوم صغير، خفيف، لكنه يفتح الأبواب بسلاسة.
هكذا ينبغي أن تكون أساليبنا في التربية، متجددة، مناسبة لزمانها، قادرة على الوصول إلى القلوب دون عناء.
ساد الصمت في المقهى، ولم يكن يُسمع سوى صوت الملاعق التي تحرك السكر في أكواب الشاي، بينما انشغل كل من الحاضرين بفكره الخاص. بعضهم راح يقلب كلمات الحاج علي في ذهنه، وآخرون تذكروا مواقف مشابهة مع آبائهم أو أبنائهم.
اقترب رجل من علي الدر ، بدا عليه التردد قبل أن يسأل: لكن يا حاج، ماذا لو رفض الأبناء أي مفتاح نقدمه لهم؟ ماذا لو أصروا على إغلاق أبوابهم؟
ابتسم الحاج علي بحنان، ووضع المفتاح الحديث أمام الرجل قائلاً: حينها، لا تحاول كسر الباب، ولا تلحّ بالمفتاح الخطأ. بدلاً من ذلك، كن أنت الباب المفتوح لهم، دعهم يرون أنك ملاذ آمن، وأنك حاضر حين يحتاجونك. أحيانًا، لا يحتاج الإنسان إلى مفتاح جديد، بل إلى يد تمتد إليه حين يكون مستعدًا للفتح بنفسه.
هزّ الرجل رأسه بتفكير، بينما تبادل الحاضرون النظرات، كأن كل واحد منهم قد وجد شيئًا من نفسه في هذه الكلمات. ثم، وكأنما أراد الحاج علي أن يخفف الأجواء، ارتشف رشفة من شايه وقال ممازحًا: والآن، هل نترك الفلسفة قليلاً ونتحدث عن مباراة الأمس؟ أم أنكم تريدون مني مفتاحًا لحل مشاكلكم مع الفرق الخاسرة أيضًا؟
ضحك الجميع، وعادوا إلى أحاديثهم، لكن المفتاحين، القديم والجديد، بقيا هناك على الطاولة، شاهدين على حكمة الزمن، وعلى قلوب تتعلم كيف تُفتح بالودّ لا بالإجبار.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat