النَّهضةُ الحسينيَّةُ و تعددُ القراءات وقفةٌ نقديةٌ مع بحوث ( مهرجان ربيع الشهادة الثامن )
د . علي مجيد البديري
تتجاوز ثورة الإمام الحسين (ع) زمانها و مكانها المحددين، لتدخل فضاءً ممتداً دائم الاتساع، كلما سعت القراءات المتلاحقة إلى تأمل دلالاتها والإفادة من معطياتها العديدة. و قد مثَّل هذا الحراك النقدي و البحثي المستمر وعياً فائقاً بضرورة تواصل المقاربات البحثية عبر منظورات متطورة للرؤية ، يمكن أنْ تحقق إدراكاً أعمق لدروس هذه الثورة ومضامينها. ولا يقف الأمر عند هذا الحد إذ تعمل معاينة هذه القراءات المتعاقبة ، وإعادة فحصها من جديد على تعميق وعينا النقدي بالأحداث الكبرى و الانعطافات المهمة في تأريخنا الإسلامي ، وتمنح القارئ فرصة الوقوف عن كثب أمام ما أنتجه الآخرون، لفحص طرائقهم في المعالجة والقراءة، إذا ما كانت هذه المراجعة محطة أساسية يقف عندها الباحث بين الحين والآخر. ولعل من أبرز وأهم ما يتمخض عنه هذا الفعل هو التأكيد على أهمية المراجعة المقترنة بإعادة تقييم خطواتنا البحثية، وأدواتنا النقدية ، و و ضعها موضع المساءلة ، ومن ثم العمل على تحديث الكيفية التي نقرأ من خلالها متون التاريخ ، ومفاصله الكبرى بشكل عام، ونهضة الإمام الحسين (ع) بشكل خاص .
و يُعدُّ (مهرجان ربيع الشهادة الثامن) الذي أقامته العتبتان الحسينية والعباسية المقدستان في الثالث من شهر شعبان الجاري، ومن خلال إحدى فعالياته المتمثلة بالجلسات البحثية الثلاث ، وجهاً من وجوه الحراك البحثي والفكري ـ الذي أشرنا إليه ـ حول الثورة الحسينية المباركة ، حرصت العتبتان على جعل هذه الجلسات مفردة أساسية من منهاج هذا المهرجان السنوي .
وسأحاول التوقف في هذه العجالة عند بحثين من هذه البحوث ، أرى أنهما من الدراسات التي تميزت باقترابها من الاستعانة بالمناهج الحديثة في قراءة التأريخ ، وحاولت الانتقال بالدراسة التاريخية من مجرد الوصف والمسح الظاهري للثورة الحسينية ، وعرض مضامينها ومميزاتها ، إلى التحليل العميق والتفسير المتأمل .
* البحث الأول: (الثورة الحسينية بين الفرادة والتأسي) للباحث السيد محمد رضا شرف الدين
عَمدَ الباحثُ إلى تقسيم القراءات المنجزة حول الثورة الحسينية إلى قسمين: القسم الأول: يرى فيه أصحابُه أنَّ لنهضة الحسين (ع) خصوصيةً و فرادةً لا يمكن أن تتكرر أو تماثلها في الملامح والخصائص أيُّ نهضةٍ أخرى ؛ حدثتْ ، أو يمكنُ أن تحدث في المستقبل. و استغرق كاتبوا هذه القراءات في تحديد سمات النهضة وتأمل تفاصيلها، إيماناً منهم بأنها حادثة اكتسبت فرادتها من ارتباطها بشخص الإمام المعصوم (ع) ، وهو ما يجعل من القول بإمكانية تكرارها بطريقةٍ مماثلةٍ أمراً محالاً، وغير مقبول حتى على مستوى الفرض .
أما القسم الثاني: فيقول بإمكانية تكرر حدوث النهضة عن طريق التأسي بما فعله الإمام الحسين (ع) ، و هي بذلك تُدخِل تفاصيل النهضة الحسينية ضمن إطار الفعل الذي يَحثُّ المؤمنَ على اتخاذه قدوةً وأسوةً في تحديه قوى الاستبداد في أي زمان ومكان. و لا شك في أن مثل هذه الرؤية ـ كما يرى أصحابها ـ تُسهمُ في جعل الصلة ما بين المؤمن و النهضة الحسينية ـ متمثلةً بالإمام الحسين و وجوه النهضة الأخرى ـ أكثرَ وثاقةً وتحققاً مما عداها ، وتجعلها أيضاً على مستوى البحث والقراءة موضوعاً قابلاً للتحليل وتعدد القراءات، لغرض الوقوف على القيم الإنسانية المتوالدة فيها. وعلى هذا فهي قابلة للتفعيل على أرض الواقع في كل وقت، سواء على مستوى الدراسة والبحث ، أو على مستوى السعي إلى تحقيق ما يماثلها في الحياة.
غير أن هذا التصنيف الذي وضعه الباحث كان بحاجة إلى نماذج بحثية تُدرَسُ كأمثلةٍ تطبيقيةٍ لكل صنف ، و بطريقةٍ تخلِّصُ الدراسةَ من الوقوع في التعميم ، و عدم تخصيص هذه الأحكام ببحوث معينة ، وتجعل تشخيصها لواقع هذه الدراسات أكثر دقةً و وضوحاً للقارئ .
وبعد أن يقف السيد شرف الدين وقفة متأنية عند آراء كل قسم من هذه القراءات يختار رؤية وسطية توفيقية بين الرؤيتين ـ لا رغبة منه في الوسطية التي عادة ما تكون خيار من يتحاشى الأحادية في الرؤية ـ ولكن لما يراه من أنها أقرب إلى الواقع ؛ فيقول بفرادة النهضة وإمكانية التأسي بها معاً ، ناظراً إلى تفاصيل النهضة بطريقة تصنفها إلى ما هو خاص و فريد ، يرتبط بشخص الإمام الحسين (ع) و لا يمكن تكرره ، و إلى ما هو قابل للتأسي و الاقتداء به . و قد انتهى الباحث بعد دراسته القراءات المنجزة ، و تفحُّص جدل الرؤيتين المختلفتين اللتين تمثلان قسمي هذه القراءات ، إلى صياغة هذا التصور الخاص ، الذي يفيد بوجود مشترك ما بين الرؤيتين المختلفتين متمثلاً ببعض الأبعاد المتعلقة بعصمة المعصوم وخصوصية دوره القيادي .
ومن كل ذلك يتبين أن تعدد المقاربات والمعالجات في قراءة النهضة الحسينية من شأنه أن يديم الكشف عن خصوصيات كامنة لهذه النهضة ، ويعمل على تفعيل الامتياح من معطياتها بشكل مستمر و متواصل .
* البحث الثاني : ( القراءة المعكوسة ) للباحث السيد محمد علي الحلو
أراد الباحث ـ وهو من المهتمين بالنهضة الحسينية عبر بحوث عدة ـ أن يحقق قراءةً مغايرةً لما هو سائد في هذا المجال، تعتمد منطق الافتراضات حول الخيارات التي كان من الممكن أن تحدث في النهضة الحسينية ، ولكنها لم تتحقق لخصوصية دور الإمام الحسين (ع)، وعصمته ؛ ومنها افتراض قبول الإمام البيعة ليزيد أو الصلح معه. ويناقش الباحث النتائج المترتبة عن حدث كهذا من جميع وجوهه، مع ربط هذه الافتراضات بسياقها التاريخي، ومعاينة ما إذا كان هذا السياق يقبل مثل هذا الافتراض أم لا ؟ أو أن هذا الحدث المفترض ينسجم مع معطيات السياق ودوره في توجيه الأحداث أم لا ؟
حاول السيد محمد علي الحلو أن يستنطق المسكوت عنه في الحدث التاريخي، وهو أمر يمكن ـ فيما نرى ـ أن يأتي بنتائج جديدة فيما لو وظِّف في ملء الفراغات أو الفجوات في متن الواقعة كما حدثت بالفعل، التي سكت عنها التاريخ ولم يذكرها لأسباب عديدة. وقد أسس الباحث لمنهجه في القراءة بخطوة أولى سعى فيها إلى تحديد مصطلح (القراءة المعكوسة) الذي اعتمده آليةً بحثيةً في دراسته. ولعل ما يمكننا تأشيرُه على هذا المصطلح مخالفته لما أراد الباحث منه في متن دراسته؛ فالافتراض هو المعكوس لا القراءة؛ بمعنى أن مادة البحث القائمة على الافتراض المغاير لما هو متحقق فعلاً في الواقعة تأريخياً هو الذي جاء عكسياً ، وأن قراءة النتائج المترتبة عن هذا الافتراض هي قراءة اتخذت منحىً طبيعياً وليس معكوساً، حاولتْ من خلاله مناقشة هذه النتائج وإيصالها إلى حد استحالة تحققها على أرض الواقع. لذا يحتاج توظيف هذا المصطلح في البحث مراجعةً من قبل الباحث الكريم و تحديداً بشكلٍ أدقٍ.
على الرغم من هذه الملاحظة حول المصطلح، تُسجَّل لهذه الدراسة محاولتُها الإجابة عن أسئلة مهمة طالما أثيرت حول النهضة الحسينية من قبل البعض، وظلَّتْ من دون إجابةٍ واضحةٍ.
إنَّ ما أريدُ تأكيدَه ـ بتواضعٍٍ كبيرٍ ـ في نهاية هذه الوقفة السريعة هو ضرورة استمرار مثل هذا النفس البحثي في مقاربة النهضة الحسينية المباركة ؛ ذلك أن مسألة اعتماد التحليل منهجاً في القراءة التاريخية استناداً إلى مجموعة من الأدوات المستمدة مما أنجزته التيارات الفكرية الحديثة في مجال دراسة التاريخ ، يعد أمراً بالغ الأهمية على الصعيدين: المعرفي والعملي، ويقود العلاقة ما بين المتلقي والنص التاريخي إلى فضاءاتٍ جديدةٍ يمثل التواصل الحقيقي أبرز ملامحها و علاماتها الفارقة. وكذلك فإن من الأهمية بمكان معاودة قراءة ما هو منجز من الدراسات والأبحاث، و تقييم منطلقاتها النظرية و خطواتها المنهجية، وإعادة مناقشة نتائجها من أجل المحافظة على روح الحراك الفكري وديمومته، القائم حول النهضة الحسينية بوصفها حدثاً تاريخياً مهماً وكبيراً مازال يحرض الباحثين على قراءته وتأمله .
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
د . علي مجيد البديري

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat