بين ألوان الحياة وزركشتها تجلس (أم عباس) صامته كلوحة سرقت منها ألوان الحياة، يستطيع الناظر الى تلك اللوحة أن يميز ملامح امرأة تنتظر ولداً.
قسا عليها الدهر، ورسم كل فصوله على ملامح وجهها بدقة واحترافية، تجلس بصمت عميق يحطم الكثير من الكلمات.
لا شيء يواسيها في مجلسها سوى تلك المسبحة التي اختلط لونها مع لون ما ترتديه؛ حداداً على الدنيا التي سرقت منها زينة حياتها.
كل حبة من حبات هذه المسبحة تحمل حكاية امرأة كان الفقد رفيقاً لها منذ سنين طويلة، حكاية امرأة صارعت الزمن وحدها لتربي طفلاً ضاع والده في زمن حاكم جائر، كانت الكلمات محرمة والإيمان من الخطايا الكبرى .
واليوم بعد دخول داعش، أصبحت مسبحتها تشهد على فصل جديد من فصول حكايتها، فصل ارتسمت به ملامح فقد جديدة، ومعاناة أصعب من ذي قبل .
حكاية ابن أراد السير على خطى والده في طريق ارتسمت خطوطه من دماء طاهرة وتضحيات كبيرة على يد الظلم والظالمين .
أرادت منعه من الذهاب للحشد، كانت مترددة، حاولت أن تنطق تلك الكلمة، ولكن في اللحظة الأخيرة، وضعت يدها على فمها، وسالت دموعها، وضع ابنها قبلة على رأسها وقال لها: اسمحي لي يا أمي بالذهاب ليرتاح قلبي.
قالت له:ــ يا بني، أريد أن أدخلك إلى صدري، وأقفل عليك جيداً بحيث لا يمكن لأي احد أن يصل اليك، ويلحق بك الأذى، لكن كيف اقابل سيدتي فاطمة الزهراء (عليها السلام) وأم البنين (عليها السلام) التي اخترت اسم ولدها اسماً لك، هنّ قدمن أغلى ما يملكن في سبيل الدين، وأنا لم أعطِ ولداً واحداً .
- اذهب إلى حيث تريد .
كانت مع كل تحرير مدينة يكون لها عيد، ومع بداية كل عملية يكون لها حزن .
كان يتصل بها يومياً يطمئنها؛ لأنه يدرك حقيقة خلف كل مقاتل هناك أسرة قلقة منتظرة وساهرة ورافعة يدها للسماء .
تخلف عنها ذلك اليوم ولم يتصل بموعده المحدد، مرت الساعات، وأتت ساعة المغيب واختفى حاجب الشمس وراء الافق ثم أهبط الليل رداءه، ازداد قلقها وتسلل الخوف إلى داخلها، قبضت بشدة على مسبحتها وأخذت تسبح لله أن لا تكون هذه الليلة مشابهة لتلك الليلة قبل عشرين عاماً، قضت ليلتها متهجدة، وبعد صلاة الصبح رفعت رأسها من سجودها الذي أطالت به، والدموع رسمت على خدها طريقاً، رفعت يدها متوسلة للخالق أن ينزل عليها الصبر بما سوف يأتيها.
مع خيوط الفجر الأولى للصباح، فتحت الباب وجلست؛ لأنها لم تعد تطيق الانتظار، أخذت تنظر الى الطريق بعيون دامعة والذكريات تحاصرها قبل عشرين عاماً في مثل هذا اليوم استقبلت به زوجاً شهيداً أعدمه الطاغية، واليوم تنتظر أن يعود اليها ابنها سالماً معافى .
مرت ساعة وإذا بمجموعة من السيارات تسير على هذا الطريق أدركت ان احساسها لم يخب، حاولت الوقوف، لكن كأن أحداً سرق منها قوتها، استجمعت شجاعتها ووقفت وإذا بنعش يدخل الطريق ركضت اليه حافية، أنزل النعش لها، كشفت عن وجهه الذي يشبه القمر، ثم همست في أذنه هنيئا لك يا بني، وصلت الى ما تريد، وأكملت طريق والدك وتوجته بالشهادة، ثم اقتربت منه اكثر وشمته الى أن فقدت آخر أنفاسها على صدره، سقطت المسبحة من يدها وتناثرت حباتها كما تتناثر قطرات المطر لتنهي حكاية بطولة على مدار الزمن.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat