يعجّ المكان بالمرضى على خلاف باقي أرجاء المشفى، أشعر بالضوضاء تتصاعد كدخان من نار محترقة، إنها فوضى الحياة التي بثت ضحايا الصباح نحو هذا المكان .
ما آل إليه اختياري لا موئل فيه، أن أستيقظ صباحاً لأُقابل رجلاً كبيراً أصابته نوبة قلبية، وآخر صدمته سيارة، وامرأة عجوز تنتهي بفشل كلوي على إثر قسطرة أُجرِيت لها قبل أيام قليلة، كلها قد تستبطن صوراً منكسرة، وآهاتٍ مختنقة، لكنها تبدو جلية، ظاهرةً بلا خفاء، تُحاكي المكان ومن في المكان.
أبدأ مع الرجل الكبير، أُرتب شكواه من مرضه بسطور طويلة ابتداء:
- ما الذي أتى بك؟ ممَّ تشكو؟ منذ متى؟ يطول الحديث حتى يتعدى النصف ساعة!، وطوال الوقت يتمنّى أن أُخفف ألمه بطريقة ما، أن يدخل ذلك الهواء رئتيه من دون عنوة، ولكن ما الحيلة!!، فأمامي شهورٌ طويلة، لتتحول رهبتي الى طمأنينة، وتُختَزل تلك الطاقة السلبية الى فضول وشوق.
ثم ينتهي المطاف بالمرأة العجوز، كانت صامتة بلا كلام لم تشتكِ من شيء، جذبني لون عينيها الزرقاويتين الواسعتين رغم كبر سنها، لكن ما من شيء جذبني، انها بلا نظر! قد كانت فاقدة للبصر.
أبدأ الفحص بلمس كفّها والتحقق من نبضها، كتحية تخلق أُلفةً معها، أطلب منها الجلوس، فتستجيب بهدوء وتجلس ثابتة. أضع السماعة على ظهرها لأستمع لصوت الهواء وهو يدخل ويخرج من فمها .
أفكر كثيرا ممعنة النظر فيها: ماذا لو كنت مكانها؟ كيف سأنظر للأمر حينها؟ أهو عبث؟ أم أنها مشيئة الله لا بد منها. كأنها أهدتني السكينة، وأزاحت الغفلة المتراكمة من سنين طويلة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
القراءة الانطباعية:
في نص (من مذكراتي) هناك تمكن واضح في عملية السرد المستريح/ نص (من مذكرات طبيبة) أشعره/ نستشف من خلال رؤيتها/ هناك بعد اجتماعي وانساني ودلالات عميقة المعنى، رغم الصور المنكسرة يوجد وضوح يبهر المتلقي/ خلاصة لمبدأ انساني هو احتواء آلام الناس لبناء المكون الاساسي لشخصية الانسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نص وقراءة...
( النص )
زينب عباس عبد الحسين
وصل القمر، ثبت رايته شمخ بأنفه، تصدر عناوين الأخبار/ أمه ترمق الباب/ كم من أمّ ثكلى ما عادت ترى في سماء دنياها قمرا.
الغريب ان تلك الرايات الكثيرة التي بثتها الكثير من الاقمار، ما عاد هناك من يقرأ عبرها لينير ظلمات لياليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القراءة الانطباعية:
ليس من السهل كتابة قصة قصيرة يسميها النقاد (قصيدة العصر)، الكاتبة خلخلت السرد، ووظفت الخبر: وصل القمر، ثم وصف المشهد لتكتمل اللوحة/ ثبات الراية/ شموخ الانف/ عناوين الاخبار/ لرسم رؤية الكاتبة وجذب القارئ الى مفهوم المفاجأة بالاستفهام:
كم من أمّ، ما عادت ترى في سماء دنياها قمرا؟ عادت لتستثمر المقدمة الوصفية بمنظار آخر، باستفهام اكبر وتلك حلاوة القصة، هيأت المادة الأولية: الرايات/ الأقمار/ الأخبار.
وتحت يافطة (غريب)/ ينصهر الحدث كله لصالح هذه الرؤية/ الرايات ـــ الاقمارـــ الشموخ، وجميع هذه الأشياء الجميلة/ ما عاد هناك من يقرأ عبرها لينير ظلمات لياليه.
استنتاج خطير وصارخ، واحتجاج عال ضد أنفسنا، تحول سريع بوتيرة الحدث القصة لا تحتاج الى تأويلية، بل الى تمعّن داخل الحدث.
نصّ مكثف ورائع.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat