نايٌ صامتٌ لوطن متخيَّل 
امير ناظم

  أدهى من الضيم، وجع وخوف وحرمان، يبحث كريم عن مكان جديد ليعيش فيه، مشرد طبعا، ليس لديه بيت خاص، لذلك يتساءل دائما عن معنى الوطن، ما قيمتي في الأرض المحددة دوليا إذا كنت لا أملك شبرا واحدا منها؟ ويمضي في حياته من دون جواب شاف، فيواصل بحثه عن زاوية مهملة في سوق قديمة أو جسر خارج المدينة ليضع وسادته الوحيدة ويفترش الأرض. 

    لا صديق لديه، ولا أنيس عنده، لا يبتسم أبدا، يشرع منذ لحظة استيقاظه بتتبع خياله الجامح، حالما بحياة جديدة، لا يكلم أحدا، بل يرى في كل تجمع صاخب لفتة لسقراط، أو تأملا من نيتشة، فيقف وحيدا في نظر الباعة والتجار والمتبضعين، عاجا بالحوارات باعتقاده الجازم، يلفظ الأنفاس الثقيلة وهو يلتهم كلمات سقراط وحواراته على عجالة، متأنيا وهو ينصت للعلم الجذل من تحت شاربي نيتشة الكثّين. 

     لمرارة في نفسه، وحماقة العالم كما يظن، أنه لا يجد سبيلا لخلاصه من آفة التفكير، أو توتره المتربع على هرم أمنياته، الهروب إلى الجانب الآخر من العالم، الجانب الذي لم يره عينيا، لكنه تلمس تجسيده في أفق التضادات، فبالضد من شغف العيش ترف الموائد ووفرة الأكلات، وبالضد من الحرب، السلم، وبالضد من الوجع، الراحة والاطمئنان، ولأنه عاش المآسي كلها، صار يعرف الجانب الاخر من العالم بشكل جيد، فالأشياء تعرف بأضدادها، لذلك ظل يبني في واقع خلقه هو، كيانا جمع فيه أفكار المدينة الفاضلة، ودكتاتورية الحداثة مع ديموقراطية العولمة، ومزج هذه الأساليب الحياتية في مكان واحد، وصار يركن إليه كلما أحس بلسعة جوع أو وكزة ذلة. 

    مع طول العهد، وتعاقب أجيال الوجود المحيط به، لم يجد بدّا من مواكبة الريادة العالمية للواقع المعيش، وتحت ظلال التهميش واللاجدوى صار يتناسى حتى لحظة موت سقراط، وخلود أبولو أو حتى كاتبه المفضل الذي باع أكثر من عشرة ملايين نسخة من كتابه، وشاخت آماله مع آخر مولود في الحي القديم من مدينته، فقد تسللوا للموت شبانها كلهم، ولم يبق غيره هو والعجائز من الجنسين، حتى أوجس خيفة من انقراض جيله وموت جيناته الوراثية من البشرية، فقرر أن يتحدى طبع الزمان، ويغير حتميات الطبيعة، ويعيد شبابه بأغنيات الموتى العائدين من المعركة، فاقتنى نايا وظل يتتبع التوابيت ويتعقب أثر الميتين في المقابر إلى أن صمت نايه. 

    فاتكأ حين شعر بالتعب على محراب جميل، وغرز قصبة الناي في التراب وأغمض عينيه، ومات بهدوء، ليكون في عالمه الآخر أكثر صدقا وراحة، إذ اعترف بالنهايات، على الرغم من عدم تغييره لقوانين الوجود والطبيعة، فقد سما بروحه بإرادته، وليس في ساحة حرب أو رصاصة طائشة أو سكين غادر.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


امير ناظم

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/02/13



كتابة تعليق لموضوع : نايٌ صامتٌ لوطن متخيَّل 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net