ما الممكن؟ وما الفرق بين حقيقة الأشياء وإمكانها؟ وهل يوجد الممكن بنوع ما من الوجود؟ أم أن الممكن مجرد لفظ خاوٍ من المعنى، ولا يشير إلى أكثر مما تشير إليه كلمة لا مدلول لها؟ وإذا كان للممكن ثمة وجود فما هو هذ الوجود؟ وما طبيعته؟ وكيف تناوله الفكرُ الإنساني؟ وماهي مواقف المفكرين منه؟ وكيف تطورت هذه المواقف خلال تطور الفكر البشري؟
منذ البداية، أجدني مضطراً للمسارعة إلى القول مع (كانت) بأن من طبيعة الفهم الإنساني – ولمصلحته - أن يقيم تمييزاً حاداً بين حقيقة الأشياء وإمكانها، وهذا التمييز الحاد هو الذي يقرر مكانة الإنسان في سلسلة الوجود العامة، فالتفرقة بين الحقيقي والممكن تفرقة غير قائمة لدى الكائنات الأدنى من الإنسان، أو لدى التي فوقه. أما الكائنات التي دونه، فإنها محصورة في عالم من مدركاتها الحسية، فهي تتقبلُ الدوافع المادية الواقعية، وتجيب عليها بردود فعل، ولكنها تعجز عن أن تكوّن فكرة عن الأشياء الممكنة. وأما من ناحية اخرى، فان اللهَ سبحانه وتعالى، بيده ملكوت كل شيء... إذن لاتنشأ مشكلة الإمكان إلا لدى الإنسان، أي في ذكائه المكتسب، ذلك أن الإنسان البدائي لم يكن يملك القدرة على التمييز الحاسم بين الممكن والواقع، بين الموجودات ورموزها ومعانيها، إذ لم تصبح التفرقة بين الأشياء وإمكانها ملموسة بوضوح إلا بعد تقدم الفكر البشري وتطوره.
ويمكننا أن نأخذ مرضى (الأفازيا) - فقدان القدرة على النطق - الذين أصيبوا بنكوص في بعض قدراتهم العقلية، مؤشراً لحالة الإنسان البدائي، حيث يفقد هؤلاء القدرة على الحسم بين ماهو واقعي وماهو ممكن، وحين يواجهون مشكلة تتطلب طريقة من التفكير أكثر تجريداً - أي حين كان عليهم أن يفكروا في الإمكانات أكثر من تفكيرهم في المعطيات الواقعية، كانوا يعانون صعوبة بالغة، ويعجزون عن التفكير أو التكلم عن أشياء غير واقعية، وليس لها إلا صفة الإمكان، أي أن لديهم افتقاراً بالقدرة على الاقتراب من المواقف الممكنة، ومن الأشياء التي لاتعطى في مواقف حسية.. أي إن المريض - عقلاً - عاجز عن هذا، لعجزه عن أن يدرك ماهو مجرد.
وطالما أن الإنسان قد تجاوز مرحلة البداوة، وطالما أنه ليس مريضاً (بالأفازيا)، وطالما أن شعوره يجعله يحس في كل موقف أنه أمام عدد من الإمكانات التي تتسابق في عرض نفسها عليه، فلابد من أن يجد نفسه مضطراً للبحث في حقيقة هذا (الممكن).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat