دورُ القصةِ القرانيَّةِ في عمليَّةِ الاستنباط
زعيم الخيرالله
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
زعيم الخيرالله

هَل عمليةُ الاجتهادِ تَتَوقَفُ على خَمسِمِئَةِ ايةٍ وُصِفَت بِأَنَّها (اياتُ الاحكامِ) ، أَم أَنَّ القُرانَ كُلَّهُ بِجَميعِ اياتِهِ مجالٌ واسعٌ لِعَمَلِيَّةِ الاستنباط الفقهي للاحكامِ الشَّرعيَّةِ ؟
ويتضحُ هذا الامرُ جَلِيّاً في القِصَّةِ القُرانِيَّةِ يُستَفادُ الحُكمُ منها خلالِ مشاهدَ ولقطاتٍ وحواراتٍ اشتملت عليها القصةُ القُرانيّةُ.
اياتُ الاحكامِ
------------
هُناكَ اياتٌ واضحةُ الدلالةِ في استفادةِ الحكم الشَّرعيِّ منها وهي : (اياتُ الاحكامِ) ، كما في قولهِ تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (البقرة: الاية: 183). فالايةُ المذكورة يُستفادُ منها وجوبُ الصومِ مباشرةً.
وقولُهُ تعالى في اصنافِ المستَحِقِّين للزكاة :(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ)
(التوبة : الاية : 60 ) .وقوله تعالى في تحديد رضاعة الطفل بحولينِ كاملين لمن ارادَ ان يُتمَّ الرضاعة: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ )
(البقرة : الاية : 233) .هذه الايات واضحة الدلالة وقطعية الصدور لانها ايات قرانية .
ايات الاحكام واضحة الدلالة في استفادة الحكم الشرعي منها . ويستفاد منها الحكم الشرعي بشكل مباشر . وهناك ايات احكام يُستفادُ منها الحكمُ الشَّرعيُّ بشكلٍ غيرِ مباشر، كقوله تعالى : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ ) ، وقوله تعالى : (وَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ). (الاحقاف: الاية : 15). فسيتفادُ منها بصورةٍ غيرِمباشرةٍ حكمٌ هو : ( ان اقلَّ الحملِ ستةُ اشهُرٍ) .
الائمةُ (ع) واستخراجهم الاحكام من غير ايات الاحكام
---------------------------------------------------
كانَ أَئِمَةُ اهل البيت عليهم السلام يستخرجون الاحكامَ الشرعيةَ من غير ايات الاحكام ، فالامام الهادي اجاب المتوكل الذي نذر مالا كثيرا ان عافاه اللهُ من مرضهِ فامره ان يتصدق بثلاثة وثمانين استنادا الى قوله تعالى : ( ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) وهي عدد حروب النبي (ص) وغزواته . والايةُ ليست من ايات الاحكام ، والامامُ الهادي (ع) استخرج لنا منها حكما شرعيا. وكذلك الامام الجواد عليه السلام استخرج الحكم من قوله تعالى : ( وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله احدا ) ، استخرج حكم قطع يد السارق من اصول الاصابع الاربعة في الكف . والاية ليست من ايات الاحكام .
علماء المسلمين وعدم حصر الاستنباط بايات الاحكام
--------------------------------------------------
ذهب مجموعةٌ من علماء المذاهب الاسلاميّة الى ان مجال استنباط الاحكام الشرعية غير منحصر بايات الاحكام ، بل ان كل الايات القرانية هي مجال لاستنباط الاحكام الشرعية ، ومن الذين ذهبوا الى هذا الرأي ، نجم الدين الطوفي الذي يقول:
(والصحيحُ أَنَّ هذا التقديرَ غَيرُمُنحَصِرٍ ؛ فَانَّ احكامَ الشَّرعِ كَما تُستَنبَطُ من الاوامرِ والنواهي ، كذلك تُستَنبَطُ من الاقاصيصِ ، والمَواعِظِ ونحوها ، فكلُّ ايةٍ في القُرانِ الا ويستنبط منها شيءٌ من الاحكامِ ، واذا اردت تحقيق هذا ، فانظر الى كتاب أدِّلَّةِ الاحكام للشيخ عز الدين بن عبدالسلام ، وكأنَّ هؤلاء الذين حصروها في خمسمئة اية ، انما نظروا الى ماقصد منه بيانُ الحكمِ دونَ مااستفيدَ منهُ ، ولم يقصدوا بيانَها) .(شرح مختصر الروضة ، ج3 ، ص 415 ) .
ويقول القرافي : ( فلاتكادُ تجد ايةً الا وفيها حكمٌ ، وحصرها في خمسمئة ايةٍ بعيدٌ) .
( شرحُ التنقيح ، ص 476) .
القصصُ القُرانّيُّ واستنباطُ الحكمِ الشَّرعيِّ
---------------------------------------
وردت في القصص القراني بعض المشاهد واللقطات التي يمكن ان يستفاد منها حكم شرعي ، مثل قوله تعالى :
(فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ). المائدة : الاية :31.
فتعلم قابيل حكما شرعيا من فعل الغراب ، وهو وجوب دفن الميت. وعن مشروعية القرعة جاء في قصة يونس (ع) :
(فَسَاهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) . الصافات : الاية : 141. وكذلك جاء عن مشروعية القرعة فيما قصه القران عن زكريا بشان القرعة في كفالة مريم :
(ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) . ال عمران : الاية : 44.
وفي زواج النبي موسى (ع) من ابنة شعيب ، يقول الله تعالى :
(قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ). القصص : الاية : 27. وفيها من الاحكام : وجوب لفظ انكحك في عقد النكاح عند الامامية ، وتحديد الزوجة ( احدى ابنتي هاتين ) ، وتحديد المهر ، ولامانع ان يكون المهرُ منفعة . وقد استفاد منها بعض المذاهب الاسلامية ( وجوب الولي ) في عقد النكاح .
وفي قصة يوسف ورد الاشارة الى حكمين شرعيين ، هما الجعالة والكفالة :
(قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) .يوسف: الاية : 72.
الاستفادةُ من القصة القصةِ القرانيّة في استنباط هذه الاحكام متوقفٌ على مناقشة موضوع( شرع من قبلنا ) ، هل هو حجة علينا ام لا ؟
اختلفت الاراء في قضية : ( شرعُ من قبلنا ، هل هو حجة علينا ام لا ؟) فالحنفية قالوا: ان شريعة من قبلنا لازمة لنا الا مادل الدليل على نسخه ، مذهبُ الشافعي ووافقهم ابن حزم : ان شرعَ مَن قبلنا ليس بشرعٍ لنا ، واستدلوا بقوله تعالى : ( لكلٍ جعلنا شرعةً ومنهاجاً) . المائدة : الاية : 48.
والشرائع متفقة في اصولها وكلياتها ، ولكن تختلف الشرايع في تفاصيلها وجزئياتها ، وقد ثبت ان الشرائع السابقة قد طالتها يدُ التحريف ، فكيف يتسنى ان تكون هذه الجزئيات في الشرائع السابقة شرعاً لنا ؟ وقد اوضح هذه المسألةَ بشكلٍ جليٍّ العلامة السيد محمد تقي الحكيم في كتابه القيّم : ( الاصول العامة للفقه المقارن ) ، بقوله :
( واذا اردنا ان نتكلمَ -باسم الفن- قلنا : انَّ طُرُوَّ العلمَ الاجماليَّ بالتحريف عليها يمنعُ من الاخذِ بظواهرها جميعاً . وتقريبهُ انا نعلمُ ان هذه الشرائع المتداولة ليست هي الشرائع بكامل خصوصياتها لتناقض مضامين كل شريعةٍ على نفسها ، وانتشار السخف في قسمٍ من محتوياتها ) . الاصول العامة للفقه المقارن -السيد محمد تقي الحكيم - ص 431.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat