صفحة الكاتب : امال ابراهيم

بايولوجي الثقافة العراقية
امال ابراهيم

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

تخفف الكتابة والقراءة من شعورنا بالعزلة. وتقربنا من منحنيات وطرقات الحياة: إنها، مع الموسيقى والفن، غذاء الروح. بايولوجيا، الغذاء هو ما ينتج الطاقة ويوصل الاوكسجين النقي الى رئتي الكائن الحي، الا يبدو هذا بالضبط ما تفعله الكلمات الادبية والعبارات الفنية فينا؟ هكذا نرى انفسنا وقد تضاءل حجمنا الى خلية في جسد الانسانية الاكبر. وكخلية في جسد منتج ومضطر للحياة، لا خيار لنا الا ان نكون منتجين او مستهلكين للطاقة مهما كانت مصادرها وانواعها. هو اختيارنا ان نكون ممن يدفع بهذا الجسد الى التمسك بأقصى امكانياته او الاكتفاء بحركة الهواء في جوفه وحوله..
هذه الاطلالة البايولوجية في حقيقتها هي حرص على البقاء في الخط المنطقي لتناول مسألة تتعلق بميكانزم تقدير مساحة النسيج الحي في اي جزء من هذا الجسد الشاسع. لو افترضت ان احدى الخلايا وصلت بتمايزها الى درجة الاختصاص العالي، فعند فرشها في مساحة المجهر تجدها محاطة ومستندة الى خلايا بسيطة وقليلة التمايز توجد في اكثر من نوع داخل الانسجة: الدلالة؟ الانسان المختص ليس بمعزل عن الناس البسطاء ولا يمكنه تربع أية قمة من دونهم، الذي يستغني عن محيطه البسيط الداعم مصيره الموت الادبي المحتم. هواء استمراره يأتي من المحيطين به بدءا بالأم والعائلة ومرورا باصحاب المهن البسيطة ومحاطا بشركائه في العمل الفكري والادبي الذين كان لهم جميعا الفضل في تلميع مجده وتكرار اسمه وعنونته. 
بطبيعة الحال، لا يمكن للكلّ ان يكون مميزا ولامعا او (مختارا) فلا بد من قاعدة للهرم لتكون له قمة ولابد للمتحدث من مستمعين وجمهور.. ولا بد من الطباخ الماهر من جياع يعرفون طعم جنته.
الحقيقة الثانية ان الخلايا المتمايزة لا تقوى على التجدد بسهولة. حقيقة علمية تستدعي التوقف. اي ان المخلوق البسيط الذي لم تتوجه خارطته الجينية بعد الى تخصص عال، يمتلك الاختيار والتنقل والاستبدال استجابة لحاجات البقاء الدقيقة.. وهنا يظهر للعيان فخ التمايز وأثر التجميد الذي تمتلكه قوى الدفع بالامكانيات الى زاوية المجد ...قبل ان ترحل.
المجد فخ العزلة. تفقد خلاله رهافة الطبلة في الاذن الخارجية والتوازن في الداخلية منها. فالحواس لا تفتح ابوابها للعامة. هي الان تعمل مع مكونات النسيج الاعلى: النسيج مجموعة من الخلايا المتشابهة شكلا ووظيفة. هكذا تهاجر (القمم) الى عزلتها وتتجمد على افكارها التي تبلورت اثناء رحلة اكتساب المعرفة؛ عليه لا نستطيع ان نتوقع اكثر مما تدلي به منابر وتجمعات وجلسات المثقفين عند مناولة الميكروفون لاحد هذه الرؤوس التي تخشى النزول الى الشارع او النظر الى قدميها ومكان وقوفها الذي يمر به الزمن بلا هوادة. 
يبقى الجمهور منتظرا لخيط تواصل معرفي او روحي او انساني ينبع من خلاصات هذا الكائن ( المتأكد) والثابت على نجمه لحظة لمعانه. الجدار الرابع يحضر بقوة ويزيده صلابة الهجوم على الحاضرين بوابل الاراء الشخصية التي لا تراعي الفروقات الفردية في الحاضرين او المهتمين وكأن الجميع هم رعايا ذلك النسيج المقدس. 
انه تنبيه نبيل، نستعيره من منظومة جسم يموت وآخر يتجدد ويستمر في غيره.. تنبيه ، بأن ليس الكل على شاكلة واحدة وان الجمال ليس حكرا على أحد مهما كبرت مساحة اسمه وصوته. فالسمفونية المثلى التي تتفق الارواح على عذوبتها وتأثيرها، تتكون من عشرات الالات الموسيقية بدءا من البوق الاعظم وحتى الكونترباص الحامل لألم المعزوفة الشفيف والذي لا يكاد يميزه احد الا الراسخون في الفن.. المعزوفة هي المشهد الفني المتحرك والحي والعازفون مكعبات التكوين الخلاق. 
يقول كاتب القصة الامريكي فرانسيس سكوت فيتزجيرالد: " هذا هو بعض جمال الادب، حين تكتشف ان كل آمالك الخاصة هي عالمية  وانك لست وحيدا في هذا العالم ولست معزولا عن احد.. انه الانتماء". يتحقق الحبس في القمة عند انتفاء الرغبة في التواصل وتغذية من هم في مستويات أقل بالثمار العالية للمعرفة. ولو دققنا النظر في علم السلوك لبعض الطيور او الحشرات ستبهرنا انماط الحياة المستندة الى التشبيك والتعاون والمسؤولية المشتركة لمنفعة جسد النوع الاكبر وبقائه فاعلا عبر تحديات التقادم وتهديده.  أرى انه من المؤسف أن يتشدق (الاكاديمي المقطوع) بحرية العقل والروح وهو لا يقوى على مد يده من بين قضبان جسده ولمس الاخر القريب منه والجالس امامه.  يقول كاتب الروايات الشهيرة جون رونالد تولكن " الفنطازيا مهرب المرء..وهنا تكمن عظمتها. لو حبس جندي من قبل الاعداء فمن البديهي ان تكون مهمته الهرب. .. إن كنا نؤمن حقا بحرية العقل والروح، وإذا كنا حقا مناصرين للحريات، فواجبنا هو الهرب وأخذ كل من نستطيع تهريبه معنا!" 
في النهاية.. ينجح الادب في هز الرؤوس والضمائر ايجابا او سلبا، فرحا او غضبا..او حتى سخرية! كل ذلك يساعدنا في استعادة توازننا والتحلي بالمواصلة والجلد.  الادب الحقيقي المتواصل والمنبثق من الناس واليهم وبالتواصل والتبادل معهم مع توفير ضياء المعرفة وتعبيد طريق الوفرة، يزودنا بجرعة من الرقص مع، او على اقل تقدير، التصفيق لجنون الحياة وتقلباتها. بدلا من ان نبقى قابعين تحت خطاها الثقيلة وخطوتها الغبية القاتلة. فلنغنِ معا اغنية الخلاص..ونعيد ترتيب أعدائنا..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


امال ابراهيم
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/02/26



كتابة تعليق لموضوع : بايولوجي الثقافة العراقية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net