ربُك والنار لـ بالمرصاد ...
عبدالاله الشبيبي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عبدالاله الشبيبي

قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ: قال في (الميزان): المرصاد المكان الذي يُرصد منه ويُرقب، وكونه تعالى على المرصاد استعارةٌ تمثيليّةٌ شبّه فيها حفظه تعالى أعمال عباده بمن يقعد على المرصاد .. الخ.
أقول: يعني: علمه بأعمال عباده، ولا يأتي الحفظ بهذا المعنى صفةً لله سبحانه، وهو بالمعنى الآخر غير مقصودٍ جزماً.
وقال الراغب: الرصد الاستعداد للترقّب. يُقال: رصد له وترصّد وأرصدته له. قال تعالى: وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ. وقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ تنبيهٌ أنَّه لا ملجأ ولا مهرب. والرَصَد يُقال للراصد الواحد وللجماعة الراصدين، وللمرصود واحداً كان أو جمعاً.
وقوله تعالى: يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا يحتمل كلّ ذلك. والمَرصَد موقع الرصد. قال تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ والمرصاد نحوه. لكن يُقال للمكان الذي اختصّ بالترصّد. قال تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا تنبيهاً أنَّ عليها مجاز الناس. وعلى هذا قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا. هذا من ناحية المادة.
أقول: وهذا ينتج غير ما فهمه في (الميزان) ، وهو أنَّه يترصّده ليضربه، وهو أقرب إلى فهم الآية.
وأمّا من ناحية الهيئة فظاهر (الميزان) و(المفردات) أنَّها اسم مكانٍ، وهو على وزن مفعلٍ بفتحتين، في حين هو في الآية مكسور الأوّل، وهو على وزن مفعلٍ ومفعالٍ ومفعلةٍ، فيكون اسم آلةٍ كمكنسةٍ ومسبحةٍ.
يمكن أن نفهم من (المرصاد) نفس الراصد، أي: تكون صيغة مبالغةٍ بمعنى اسم الفاعل، راصدٌ رصّاد، أي: كثير الرصد، وكذلك تقول: مِرصاد أي: كثير الرصد. وهذا في نفسه معنى لطيفٌ، لكن قد تقولون: إنَّ هذه الأُطروحة قد تكون شاذّةً، ولا تنطبق صفةً على الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّه قال: لَبِالْمِرْصَادِ أي: ليس هو مرصاداً، وإنَّما بالمرصاد، فكأنَّه اسم ظرفٍ لله سبحانه وتعالى، أي: ظرفٌ بالمعنى المجازي أو المعنوي، وليس صفةً لذاته سبحانه وتعالى، وهذا يرجّح كلام السيّد الطباطبائي (قدس سره) من أنَّ (مرصاد) اسم مكانٍ؛ لأنَّ المكان هو الذي يقعد فيه الراصد، وليس اسم آلةٍ، بمعنى: أنَّه يعتبر أنَّ الله نفسه داخل المرصاد، ولا يكون ذلك إلّا في المكان لا في الآلة.
وفي الحقيقة هذا له أكثر من جوابٍ واحدٍ؛ لأنَّ المسألة مجازيّةٌ، والمجاز يمكن أن يتأتّى بأكثر من أُسلوبٍ.
الأُسلوب الأوّل: أن نعتبر المكان آلة الرصد؛ لأنَّ المكان سببٌ من أسباب الرصد، مثل كونه على التلّ أو الجبل أو المنارة، فلولا هذا المكان لما استطاع أن يصعد ويرصد، فالمرتفع أصبح بمعنىً من المعاني آلةً للرصد وسبباً للرصد، وهذا مجازٌ لطيفٌ ومقبولٌ.
الأُسلوب الثاني: أنَّ الآلة لا يلزم بالضرورة أن تكون صغيرة الحجم كهذه النظارة مثلًا، بل توجد الآن أجهزةٌ للرصد كبيرةٌ، ويمكن أن يدخل فيها مجموعةٌ من الأشخاص من الأخصّائيين والعمّال يرصدون السماء مثلًا، من قبيل جهازٍ للرصد في أعلى هذه القبّة، فيكون كلّ هذا المسجد والعمارة مرصاداً، وليس فقط الزجاجة التي ينظر فيها، فيمكن أن يكون الراصد داخل الآلة بهذا المعنى. ولا ضرورة لأن نتصوّر آلةً صغيرةً لا تسع الراصد. وهذا مجازاً مقبولٌ، بل إذا قصدنا غير الله سبحانه وتعالى يكون حقيقةً بالمعنى العرفي.
إنَّ الله دائماً بالمرصاد، وللمذنبين بالمرصاد؛ لأنَّ أحد أسمائه المنتقم، وهو ينطبق على ذلك تماماً، فكلّ من عادى الله، فالله يعاديه، وهو دائماً بالمرصاد، وهذا هو المقصود من قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ، أي: دائماً في الماضي والحاضر والمستقبل. وإسقاط الزمان عن هذا الاعتبار إنَّما هو للتخويف؛ لأنَّه يريد أن يخوّفنا أيضاً، ولا يقتصر التخويف على الهالكين من عاد وثمود وفرعون؛ إذ قد يُقال: إنَّه لا ملازمة بين عقاب عادٍ وعقابنا.
نقول: كلّا، الملازمة موجودةٌ؛ لأنَّ ربّك بالمرصاد دائماً، وإنَّما ذكر عاداً وثمود وفرعون لمجرّد المثال، أي: إنَّهم رغم سلطتهم وسيطرتهم وأموالهم أهلكناهم وبادوا، ولم يبقَ لهم أثر، فكيف بي وأنا الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين وأنا فردٌ واحدٌ لا أملك لنفسي نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فأنا أُسحق كما سُحق غيري وينتهي الأمر. المصدر: منة المنان، ج2، ص296.
وقوله: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادا: والمرصاد محلّ الرصد والمراقبة، وقد اتّضح غير مرّةٍ جواز أن يكون هذا الاشتقاق (مفعال) مصدراً ميميّاً واسم مكان واسم زمان، والجميع محتملٌ هنا، إلّا أنَّ بعض الاحتمالات أقوى من بعضٍ، واحتمال إرادة الزمان ضعيفٌ؛ لأنَّ جهنّم مكانٌ لا زمانٌ، كما هو واضحٌ، فيتعيّن اسم المكان، أي: إنَّ جهنّم مكان الرصد.
قد يرد إلى الذهن أنَّ جهنّم لا يحتمل أن تكون محلًّا للرصد، كما هو ظاهر الآية، فلابدّ أن نؤولها عن ظاهرها. ويمكن الإجابة عن ذلك بوجوهٍ:
منها: عدم استبعاد أن تكون جهنّم مرصاداً بالمعنى العرفي، نظير ما يُقال من أنَّ الملائكة الموكّلين بجهنّم أو قسماً منهم يراقبون أعمال البشر.
ومنها: أنَّ جهنّم واقعةٌ في نتيجة الرصد، وهذا هو الظاهر المقصود في ارتكاز المتشرّعة، أي: إنَّ المرصود ذنوب الإنسان وسيّئاته وموبقاته، وسوف يلقى في جهنّم، وهذه هي نتيجة الرصد، فتكون جهنّم بذلك مرصاداً بهذا المعنى؛ لأنَّها معلولة للرصد، ودخولها مسببٌ عن الرصد.
ومنها: أن يكون المقصود من جهنّم كونها مرصودةً، بمعنى: أنَّ التعذيب فيها مرصودٌ، أو أنَّ الأعمال السيّئة التي توصل إليها مرصودةٌ، فتكون هذه الصيغة بمعنى اسم المفعول لا اسم الفاعل.
ومنها: أن نفهم بأنَّ جهنّم نفسها راصدةٌ للأعمال السيّئة للبشر، لا الملائكة الذين فيها، بل جهنّم نفسها ترصد الأعمال، وذلك بعد ضمّ مقدّمتين مفهومتين في ضوء قوله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ.
وهذا يدلّ على أنَّها عاقلةٌ ومختارةٌ ومتكلّمةٌ، ويدلّ من ناحيةٍ أُخرى على أنَّها تطلب المزيد، فيكون طلب المزيد سبباً لمراقبة المسيئين؛ لأنَّها تحبّ أن يكونوا فيها (والعياذ بالله).
وقد استعمل المرصاد مرّتين في القرآن كلاهما بمعنى رصد السيئات لا الحسنات، وهما قوله تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً وقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ أي: للمسيئين والمذنبين والظالمين، فكأنَّ الحسنات والمحسنين لا يحتاجون إلى مرصادٍ ومراقبةٍ، وهذا لطفٌ من الله ورحمةٌ بهم، وإن كانت أعمال المؤمن كلّها مراقبةً، إلّا أنَّ الرصد للسيّئات آكد وأشدّ.
وهنا قد يرد إشكال حاصله: أنَّه بعد ضمّ قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ إلى قوله: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً ينتج أن يكون الله ــ والعياذ بالله ــ في جهنّم؛ فإنَّ الله إذا كان بالمرصاد تعيّن أن يكون هناك؛ لأنَّ جهنّم هي المرصاد.
وينبغي الإجابة عن هذا الإشكال في هذا البحث، وهذا الجواب الذي سنذكره ينبغي أن يكون واضحاً، فنقول:
أوّلًا: إنَّ مكان الرصد لا يتعيّن أن يكون في جهنّم، والآية وإن كانت دلالتها المطابقيّة تثبت أنَّ جهنّم هي المرصاد، إلّا أنَّ أماكن الرصد عديدةٌ ولا تنحصر بها، أو قل: إنَّ الآية ليس فيها مفهوم مخالفة ينفي وجود مرصادٍ آخر.
ثانياً: أن نفهم بأنَّ المرصاد حيث كان فهو جهنّم أو بمنزلة جهنّم؛ لأنَّنا عرفنا أنَّ الرصد في المفهوم القرآني خاصّ بالذنوب، ونتيجة الذنوب هي نار جهنّم، فالتعرّف على الذنوب بالمرصاد هو تعرّفٌ على النار أو تسبيبٌ للوقوع فيها، أي: وقوع المذنبين.
ثالثاً: إنَّنا لماذا نستبعد أن يكون محلّ الرصد الإلهي هو جهنّم؟!
والوجه فيه: أنَّ الله وإن كان مستغنياً عن المكان والزمان والآلة، إلّا أنَّ الحكمة الإلهيّة اقتضت ذلك، كما هو الظاهر من الجمع بين الآيتين؛ وذلك بإعطاء جهنّم هذه الصّفة المهمّة، مع أنَّ الرصد لخصوص الذنوب، وهي ممّا يرتبط بجهنّم لا بالجنة. ويمكن أن يُستأنس لذلك بالإشارة إلى نقطتين:
الأُولى: أنَّ الله تعالى يقول: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، وهو عامٌّ للدنيا والآخرة والجنّة والنار، ويقول أيضاً: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ، ولا أقلّ من ذلك ولا أكثر إلّا وهو معهم، وهذا شاملٌ لجميع العوالم.
الثانية: أنَّه لابدّ أن يتّضح أنَّ كونه تعالى في جهنّم لا يعني أنَّ وجوده تعالى منحصر بها، بل نسبته إلى كلّ الخلق سواءٌ، كما أنَّه لا يعني كونه تعالى معذّباً فيها كسائر المذنبين؛ لوضوح أنَّه ليس كلّ مَن دخل جهنّم كان معذّباً، كالملائكة الموكّلين بها، فهم فيها إلّا أنَّهم ليسوا معذّبين.
وذلك لا يعني أيضاً أنَّ الأسماء الحسنى كالسميع والبصير ينحصر بجهنّم فقط؛ لوضوح أنَّ قدرة الله تعالى تكمن في أن يراقب ويرصد كلّ شيءٍ من كلّ مكانٍ أو زمانٍ، أو يكون المقصود هنا بيان صفةٍ تشريفيّةٍ لجهنّم من هذه الجهة. منة المنان، ج5، ص520.
وعليه فربّك بالمرصاد لأيّ بلاءٍ دنيوي شخصي أو عامٍّ أو أُسري أو اقتصادي أو اجتماعي أو علمي أو صحّي، فأيّ شيءٍ هو بلاءٌ، والله تعالى صبّه عليّ لذنوبي لا أكثر من ذلك.
ولا تقولوا هنا: إنَّ الأئمّة (عليهم السلام) كانوا في بلاءٍ؛ فهذا بابٌ آخر، ومقصودنا بيان السياق في الآية والإشارة إلى الرصد للمذنبين، وأمّا من لم يكن مذنباً فالله تعالى يعطيه الدرجات الكافية والثواب الكافي لأجل تعويضه.
مضافاً إلى فكرةٍ أُخرى ينبغي الالتفات إليها وإن كان لا يحسن إعلانها بين الناس، وهي أنَّ الأئمّة (عليهم السلام) لم يكونوا يحسّون بالعذاب مثل ما نحسّ نحن، ولم يكونوا يتألمّون كما نتألّم؛ لأنَّهم يفهمونه من زاويةٍ واقعيّةٍ، فهو بمنزلة المنتفي بالنسبة إليهم.
ومن هذه الناحية نقول: إنَّ الله لم يعذّبهم إطلاقاً، لكنه توجد مصلحةٌ لإنزال البلاء على الأُمّة من زاوية غيرهم. وبيان ذلك أنَّهم عُذّبوا (سلام الله عليهم) لمصلحتنا، وأُنزل البلاء عليهم لأجل أن يستفيد غيرهم ويتكامل أو يتسافل ويهلك.
أمّا هم فالبلاء وعدم البلاء سيّان بالنسبة إليهم، أي: لنا عُذّبوا ولنا سُجنوا ولنا قُتلوا، أي: لمصلحتنا لا لمصالحهم. نعم، الله تعالى يعطيهم المطالب، لكنّهم أعلى من أن يستفيدوا من هذا البلاء، وإن قيل: إنَّ لك في الجنّة درجاتٍ لا تنالها إلَّا بالشهادة.
نعم، الشيء الرئيسي للمعصوم (ع) هو أن يقدّم نفسه إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا لا بأس به، لكن ما دون ذلك من البلاء مثل المرض أو الفقر لا ينبغي أن يكون نافعاً لمستوى العصمة والكمال. المصدر: منة المنان، ج2، ص302.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat