صفحة الكاتب : عبدالاله الشبيبي

ماذا للميت في الدنيا بعد موته؟.
عبدالاله الشبيبي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

يحسن السؤال هنا، عما إذا كان للميت عمل صالح بعد موته أم لا، وخاصة بعد أن ورد: (انه في الدنيا عمل ولا حساب وفي الآخرة حساب ولا عمل). فإذا كان مطلق العمل منفياً، إذن فكيف يكون العمل الصالح؟.
يجيب عن ذلك الخبر الآخر الوارد: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: كتاب علم‏ ينتفع‏ به‏ وصدقة جارية وولد صالح يستغفر له).
والحديث بنصه واضحٌ لا يحتاج إلى إيضاح. غير انه يبقى بعض الجوانب من الحديث حوله:
الجانب الأول: إن معنى كتاب العلم يشمل كل العلوم المطلوبة للشرع المقدس، وغير المحرمة فيه. ولا يختص بعلوم الشريعة والتفسير ونحوها، بل‏ يشمل علوم اللغة والتاريخ والعلوم الطبية وغيرها.
الجانب الثاني: إن لم يكن الكتاب في العلم، وإنما كان كتاب صناعة كتعليم النجارة أو البناء مثلاً، أو كان كتاب فكاهة لترويج النفس بغير الباطل، فهل يكون خارجاً عن تطبيقات الحديث الشريف؟ ومن ثم لا ينفع الميت بعد موته؟ ويمكن أن يجاب على ذلك بأسلوبين:
الأسلوب الأول: إن معنى العلم أوسع مما نظن، فالصناعات على اختلافها، وسائر الخبرات الاختصاصية وغيرها هي نوع من العلم، ولا يمكن أن تنتج إلا بعلم، وليس في الحديث الشريف تقييد يخرجها.
نعم لو كان الكتاب من قبيل الفكاهة أو تعليم الألعاب المسلية أو نحوها مما ليس علماً جزماً، لم يكن مندرجاً في الحديث من هذه الناحية.
الأسلوب الثاني: إن في الحديث قرينة واضحة على تعميم المعنى لكل انتفاع، سواء كان علماً أم لم يكن علماً، بل سواء كان كتاباً أم لم يكن كتاباً، بل كان آلة أو ظرفاً أو بناء أو فرشاً. وتلك القرينة أمران:
احدهما: ينتفع به. فالمدار هو النفع لا غير، كما هو المفهوم من الخبر.
وثانيهما: قوله: صدقة جارية، لو استطعنا غض النظر عن أرباحها، ونظرناها كشي‏ء نافع ليس إلا. وإنما النظر إلى أرباحها كأهم الأساليب للانتفاع منها.
الجانب الثالث: المراد بالصدقة الجارية، بمعناه اللفظي أو المطابقي: كل‏ ما يدر مالًا باستمرار، لقضاء حاجة المحتاجين، أو تغطية بعض المصالح المشروعة أياً كانت. والاستمرار مفهوم من لفظ جارية، كما هو واضح.
الجانب الرابع: في استغفار الولد الصالح، فان الأمر ليس منحصراً بالاستغفار، بل بكل ثواب لأي عمل صالح يمكن تقديمه إلى الميت.
بل يمكن أن نفهم من الاستغفار، ما يكون سبباً للمغفرة، سواء كان دعاء بالغفران أو عملًا من أعمال الرضوان، فانه استغفار بالحمل الشائع على أي حال.
الجانب الخامس: إذا كان الاستغفار صادراً من غير الولد، فهل يشمله الحديث أم لا. كما انه إذا كان صادراً من ولد غير صالح. فهل يشمله الحديث أم لا.
لا شك انه غير داخل في الدلالة المطابقية للحديث الشريف. إلا إننا بعد ضم القرائن الشرعية الداخلية والخارجية، يمكن أن نخلص إلى القول: بأن المهم إيجاد سبب الغفران. سواء كان الولد صالحاً أم غير صالح، بل سواء كان المستغفَر له والداً أم لم يكن. فان صلاح الولد، لا دخل له بصلاح الميت. كما لا دخل لكونه ولداً في ذلك، فلو استغفر له أي إنسان أمكن أن يصله الغفران والرضوان.
الجانب السادس: في النظر في النسبة بين الخبرين السابقين. فان قوله: في الدنيا عمل ولا حساب وفي الآخرة حساب ولا عمل، لا ينافي قوله: انقطع عمله إلا من ثلاث. فان هذه الثلاث أعمال تحصل في الدنيا، وما نفاه الحديث الآخر إنما هو العمل الذي يحصل بالآخرة. وما دام الميت سبباً بشكل آخر لوجود تلك الثلاثة، إذن، سيكون مستحقاً لوصول الثواب إليه، وتكون بمنزلة أعماله في الدنيا.
الجانب السابع: مقتضى قوله: في الآخرة حساب ولا عمل: إن أي رحمة زائدة سوف لن تصل إليه. لأنها إنما تصل بالعمل، فإذا انقطع العمل انقطعت الرحمة. فهل هذا الفهم الصحيح؟
والجواب: انه غير صحيح بكل تأكيد. لعدة وجوه نذكر منها:
الوجه الأول: إن كثيراً من الرحمات لا تحتاج إلى سبب، بل هي تفضل ابتدائي من الله سبحانه، وقد ورد في الدعاء يا من كل رحمته ابتداء. أي بدون سبب سوى إرادته سبحانه. وإذا تم ذلك، فمن الممكن أن تصله الرحمة في الآخرة بدون عمل.
الوجه الثاني: إننا يمكن بقرينة (الحساب) أن نحمل (العمل) على العمل غير الصالح لأنه هو المحاسب عليه، وليس كما نتصور ابتداءاً، من أن المراد به العمل الصالح، فيكون المعنى نفي وجود الذنوب في الآخرة، وهذا أمر قطعي لا شك فيه.
الوجه الثالث: إننا يمكن أن نحمل معنى (العمل) على العمل المأمور به، أي أن الشريعة تطلبه أو أنها تنهى عنه، بحيث يكون مرتبطاً بها بشكل وآخر، فيكون معنى الحديث: انه في الآخرة لا يوجد عمل مرتبط في الشريعة، لأن الشريعة هناك منتفية، وهذا أيضاً أمر قطعي لا شك فيه.
الوجه الرابع: انه دل الكتاب والسنة على وجود بعض الأعمال الصالحة للمؤمنين في الآخرة، كذكر الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏﴾، وغيرها من الآيات، وكالشفاعة في إنقاذ بعض أهل النار من العذاب قال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾.
وقد ورد في السنة ما مؤداه: (إن المؤمن لا عبادة له في الجنة إلا التحية والذكر). أقول: فالتحية فيما بينهم والذكر لله سبحانه.
وقوله: في الآخرة حساب ولا عمل، معنى مطلق يمكن تقييده بمثل هذه الأدلة، وهذه الوجوه.
الجانب الثامن: في قوله: في الدنيا عمل ولا حساب. فإذا لم يكن الحساب موجوداً، فهذا يخالف ما ورد في الكتاب والسنة والتجربة. من وجود العقوبات الدنيوية البسيطة والمهمة، نتيجة لذنوب الناس، وهذا قطعي لا شك فيه. ويمكن الجمع بين الفكرتين بأحد وجوه نذكر منها:
الوجه الأول: إن المنفي في الخبر هو (الحساب) لا العقاب، وما هو الثابت في الدنيا هو (العقاب) لا الحساب، فإذا اختلف الأمران انتفى التنافي.
الوجه الثاني: إن المراد بالحساب الذي ينفيه الحديث عن الدنيا، ما يحصل في الآخرة من استقراء أعمال الفرد واحدة واحدة، لينال جزاءه منها بالعدل الإلهي إن خيراً فخير وان شراً فشر. وهذا الحساب غير موجود في الدنيا يقيناً. ومن الواضح أن أنواع العقوبات الدنيوية ليس من هذا القبيل.
الوجه الثالث: إن العقوبات الدنيوية ليست (عقوبات) بالمعنى الكامل. بل هي لمجرد إلفات النظر، مقدمة للاستغفار والتوبة. ومن هنا قال سبحانه: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ و﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ وأما العقاب الكامل، فهو منحصر في الآخرة. وهذا كافٍ في فهم الحديث الشريف.
الجانب التاسع: انه لا شك انه ثبت لدى المتشرعة، أن هناك من الناس في الآخرة يدخلون الجنة بلا حساب، ومن الناس من يدخل جهنم بلا حساب‏، فكيف قال الحديث الشريف: (انه في الآخرة حساب ولا عمل). ويمكن أن يجاب على ذلك بوجوه منها:
الوجه الأول: إن (حساب) نكرة في سياق الإثبات، فلا تفيد إلا الإثبات الجزئي، ولا يمكن أن تفيد العموم أو الكبرى الكلية. فيكون المعنى: إن هناك‏ حساب في الآخرة لبعض الناس أو لبعض الأعمال وهذا صحيح وأكيد، ولم يقل الحديث إن الحساب عام وشامل، لينافي ثبوت انتفاء الحساب عن بعض الناس.
الوجه الثاني: إن المهم في هذه الفقرة من الحديث: هو نفي وجود العمل في الآخرة، وليس إثبات الحساب فيها، فإذا صدق وجود الحساب بأي شكل كفى في صحة السياق، وإنما المهم أن يصدق انتفاء العمل الذي هو الأهم في السياق.
الوجه الثالث: انه يمكن أن نقول بعموم الحساب لكل الأفراد. وهل الحساب إلا تقييم العدل الإلهي للأعمال، وهذا معنى عام وشامل، إلا أن الحساب تارة يكون ظاهر للعيان، وأخرى يكون ضمنياً أو سريعاً ﴿وهو سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ بحيث لا يحتاج إلى مزيد من الوقت، بحيث يكون مجرد الالتفات إليه كافٍ في تحصيل النتيجة، فهذا الأخير يكون هو المراد من الذين يدخلون الجنة أو جهنم بلا حساب أي بلا حساب ظاهري معلوم. مُستل من كتاب فقه الأخلاق، ج‏1، ص146وما بعدها.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبدالاله الشبيبي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/07/08



كتابة تعليق لموضوع : ماذا للميت في الدنيا بعد موته؟.
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net